باب مدينة العلم

اشارة

نام كتاب: باب مدينة العلم

موضوع: موضوعات مختلف

نويسنده: نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى

تاريخ وفات مؤلف: 1411 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 1

ناشر: مؤسسه كاشف الغطاء

تاريخ نشر: ه ق

[مقدمة المؤلف]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ و به نستعين

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد و الصلاة و السلام على محمد و آله و صحبه الطيبين الطاهرين مصابيح الدجى و أعلام الهدى. و بعد فيقول المفتقر إلى ربه. علي نجل الشيخ محمد رضا نجل المبرور الشيخ هادي من آل كاشف الغطاء. هذا كتاب (باب مدينة الفقه) أو ما يفيد البصيرة فيه، استفرغت فيه الوُسْع و الطاقة و ركبت فيه الصعب و الذلول و خضت فيه الغمر و الضحول و انفقت فيه جهداً عظيماً هو هين عليّ إذا قست بما أربحه للقراء من الثمرات الطيبة و الفوائد الجليلة لأبحث فيما ينير الطريق للتفقه في الدين شروعاً و يفيد البصيرة فيه حصولًا و تحصيلًا و يهديك إلى مناهج هذا العلم صراطاً مستقيماً و يولجك لأمور توصلك لأسراره بطريق مهيعاً و نهج لمعرفة مبادئه متبعاً. وافياً بالحاجة. موصلًا للفائدة. أنفذت فيه ما كنت افكر به من جمع المطالب التي تنفع في شئون هذا العلم و طرائفه. و المبادئ التي تزيد بصيرة في أسسه و مصادره. استخرجتها بعد وهن من مكونات كتب الماضين و من أعماق فكري يوم كنت بين العشرين و الثلاثين فجاء بحمد اللّه بهذه الحلة القشيبة الأول في نوعه و الوحيد في بردته و نسجه وَ لٰا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ و قد رتبته على مطالب و فصول.

المطلب الأول: في مقدمة علم الفقه

تعريفه، موضوعه، غايته

قد تعارف عند القوم قبل الدخول في كل علم ذكر أمور ثلاثة باسم المقدمة و هي تعريف العلم و موضوعه و الغاية منه ليكون الطالب على زيادة من البصيرة عند الشروع فيه.

وجه إهمال بعض الفقهاء تعريف الفقه. و موضوعه. و غايته

و قد أهمل اغلب علماء الفقه في موسوعاتهم الفقهية الكبرى التعرض لهذه الأمور الثلاثة في صدر كتبهم اعتماداً على ان الذي يرجع إليها إنما يكون من أهل الفن و الفقه فإنها لم تصنع إلا للمجتهد في هذا العلم و لا ريب ان المجتهد فيه عنده منها ما يكفيه في الرجوع إلى مؤلفاتهم و الشروع في دراسة الفقه في مصنفاتهم و إليك شرحها في فصول ثلاثة:

باب مدينة العلم، ص: 3

الفصل الأول تعريف علم الفقه بحسب الاشتقاق و البحث عن صيغته

اشارة

لا بد لنا قبل الخوض في تعريفه و بيان معناه الاصطلاحي من التكلم في الفقه بحسب الاشتقاق لإيضاح معناه بحسب اللغة لظهور كلمات بعضهم بل صريحها في تطابق معناه لغة، و اصطلاحاً.

وجه تعرض العلماء للمعنى اللغوي

و على تقدير عدم المطابقة بينهما فيكون ذلك لبيان المناسبة بين المعنى اللغوي المنقول عنه و المعنى الاصطلاحي المنقول إليه و لهذا ترى القوم يذكرون المعنى اللغوي مع انه يجب عليهم ان يبينوا المعنى الذي اصطلحوا عليه.

وجه تقديم بيان المعنى اللغوي على الاصطلاحي

و أنما قدمنا بيان المعنى اللغوي على الاصطلاحي لكون المعنى اللغوي سابقاً عليه سبق الأب على الابن و يلزم عند علماء الأدب مطابقة الوضع للطبع.

وجه تقديم التعريف و بيان المطالب الثلاثة ما، و هل، و لم

و إنما قدمنا تعريفه على سائر المطالب لأنه هنا بمنزلة بيان مطلب (ما) الشارحة و هو مقدّم في مقام التعليم على تمام العلوم المتعلقة ببيان أي شي ء كان. كما إن بيان موضوع العلم بمنزلة بيان مطلب (هل) لأنه ببيان موضوعه يعرف وجوده و وجود العلم بوجود موضوعه.

كما إن بيان غاية العلم بمنزلة بيان مطلب (لِم) لأنه شرح لعلة تدوينه و وجوده. فتعريف العلم و بيان موضوعه و غايته إنما هو بمنزلة البيان لمطالب الشي ء الثلاثة.

البحث عن صيغة لفظ الفقه

اشارة

و كيف كان فنقول (الفقه) بكسر الأول و سكون الثاني مصدر و فعله الماضي (فَقِه) بفتح الأول و كسر الثاني متعدي لمفعول واحد يقال فَقِه زيد الشي ء، بفتح أوله و كسر ثانيه و مضارعه (يَفقَه) بفتح القاف فيكون من باب فَعِل يَفعَل مثل عَلِمَ يَعلَم و ليس في لغة العرب (يفقِه) بكسر القاف في المضارع فلذا جعلنا المضارع مفتوح القاف.

مضافاً إلى ان مكسور العين في الماضي لا يجي ء مضارعه مكسور العين غالباً إلا إذا كان مثالًا أي أوله حرف علة.

كما انه لا يجوز ضم عينه فلا يصح ان يقال (يَفقُه) بضم القاف لأن مكسور العين في الماضي لا يجي ء مضارعه مضموم العين.

و إنما جعلناه من المتعدي لأن فَقِه يَفقَه اللازم مصدرها فَقَهاً بفتح الأول و الثاني نظير فَرِح و تَعِب فان ما كان على وزن فَعِل يَفعَل من اللازم يكون مصدره الغالب مفتوح الأول و الثاني إلا إن الشأن في ثبوت هذا الاستعمال لفقه بالوزن المذكور في المعنى اللازم. و مجي ء المصدر له بالوزن المذكور يظهر من صاحب المفردات و المصباح.

و لا يتوهم إن (الفِقْه) يكون فعل ماضيه (فَقُه) بفتح الأول و ضم الثاني فانه من باب (فَعُل) يَفعُل و

مصدره (فقاهة) و ليس الفقه بمصدر له لأن الغالب على هذا الوزن أن يأتي

باب مدينة العلم، ص: 4

مصدره على فَعالة أو فَعُولة كفصاحة و سهولة. و حيث ان فعولة في (فقه) لم يُسمع من العرب و إنما المسموع فقاهة كان المصدر له هو فقاهة فقط.

و ليعلم ان مضموم الوسط في الماضي يكون مضارعه مضموم الوسط أيضاً كماضيه لا غير و يكون لازما غير متعد و خاص بالصفات الغريزية اللازمة ككَرُم و حَسُن. و لذا عدَّ من الشاذ (رَحبتك الدار) أو أن اصلها رحبت بك الدار فحذفت الباء لكثرة الاستعمال و لذا فسر اللغويون (فَقُه) بصار الفقه سجية له.

و هكذا لا يتخيل أن الفِقه فعل ماضيه (فَقَه) بفتح الأول و فتح الثاني و مضارعه (يفقُه) مضموم الوسط من باب نَصَر ينصرُ لأن (الفِقْه) بكسر الفاء لا يصلح أن يكون له مصدراً لأن الغالب في مصدر باب نَصَر يَنصُر هو فتح الأول و سكون الثاني فيكون مصدره فَقْهاً. و توضيح ذلك و تنقيحه إنما جعلنا فَقَه من باب نصر مع ان فعَل قد يجي ء مضارعها مفتوح الوسط أو مكسور الوسط لأن (فَقَه) بفتحتين إنما جاءت في لغة العرب في المغالبة أي غلبته في الفقه و مضارعها إنما يكون مضموم الوسط.

اسلوب التعبير عن المطالبة

و ذلك ان العرب إذا أرادوا بيان الغَلبَة في العمل اتوا بفعله على وزن مفاعلة دالّا على وقوع العمل من الطرفين ثمّ بعده يأتون بالفعل على وزن (فَعَل) بفتحتين يكون فاعله الغالب منهما و مفعوله المغلوب منهما فيقولون كارمته فَكَرمته أو يقال كارمني فكرمته من دون فرق في وزن مفاعلة بين جعل الغالب فاعلًا أو مفعولًا.

نعم لو كان الغير هو الغالب تقول (كارمته أو كارمني

فكَرَمني) لما عرفت من أن المغلوب يكون مفعولًا في هذا الوزن الذي يجي ء بعد المفاعلة اعني وزن (فَعَل) بفتحتين هذا إذا أرادوا بيان الغلبة في الماضي.

صيغة الغلبة في المستقبل

و إذا أرادوا بيان الغلبة في المستقبل أتوا بمضارع الفعل الدال على المشاركة اعني مضارع فاعل الذي مصدره المفاعلة. و بعده بالفعل المضارع من (فَعَل) على وزن (يَفعُل) بفتح أوله و بضم ثانيه فيقولون اكارمه فأكرُمُه أو يكارم زيد عمراً فيكرمُ زيد عمراً و يجوز أن يقال ذلك فيما لو اشتركا في المغالبة في الفعل بالغير لا بينهما و غلب أحدهما الآخر ففي المثال المذكور يجوز أن يقال ذلك فيما لو اشتركا في المغالبة في اكرام شخص آخر فيقال كارمته في زيد فكَرمته فيه أي اشتركت معه في المغالبة في اكرام زيد فغلبته في اكرامه. و الحاصل انه في هذا الباب اعني باب المغالبة يجعلون الفعل بعد اشتقاق المفاعلة منه على وزن (فَعَل يَفعُل). (نَصَر يَنصُر) و ان لم يكن هو على هذا الوزن و يجعلونه متعدياً و ان كان لازما كما في المثال المتقدم فان كرم مضموم العين و لازم.

و هذه قاعدة مطردة في كل باب يؤتى فيه بعد المفاعلة التي وقعت فيها المغالبة بالفعل المجرد الذي هو اصلها إلا إذا كان الفعل من المثال بأن كان أوله واواً كوعد أو ياءً كيسر أو من الأجوف بأن كان معتل الوسط كباع أو من الناقص اليائي اعني الذي آخره الياء كرمي فانه لا ينقل إلى وزن (فَعَل يَفعُل) و إنما يكون عند بيان الغلبة على وزن (فَعَل يَفعِل) بكسر العين في المضارع دون ضمها فيقال عند بيان المغالبة في الأمثلة المذكورة واعدته فَوعَدته في الماضي أو اواعده فأعِده في

المضارع و ياسرته فَيسَرته في الماضي أو أياسره

باب مدينة العلم، ص: 5

فأيسِره في المضارع و بايعته فبعته في الماضي أو ابايعه فأبيعه في المضارع و راميته فرميته في الماضي أو أراميه فأرميه في المضارع.

هذا و قد يقتصر على الفعل المجرد بالوزن المذكور عند بيان المغالبة من دون سبق المفاعلة عليه لفظاً إلا انها تكون مقدّرة في المعنى كما يقال لأحد المتخاصمين (خَصَمك فلان) أي غلبك في الخصومة كأنه قيل خاصمك فخصمك.

اعراب قول جرير

و قد جعل منه في الصحاح في مادة بكى قول جرير في مرثيته لعمر بن عبد العزيز

الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل و القمرا

كأنه قال تباكي الشمس النجوم و القمر عليك فتبكي الشمس النجوم و القمر عليك أي فتغلبها بالبكاء لما فيها من الكدر لا للكسوف فتكون نجوم الليل و القمر منصوبين بتبكي و الفاعل هو الشمس. و يجوز نصبه بكاسفةٍ أي إن الشمس ليست بكاسفة للنجوم و القمر لأن بكاءها قد أوجب كدرها و عدم ضيائها فتظهر النجوم و يظهر القمر. و عليه فيكون تبكي منصوب المحل على الحال و ليس من باب المغالبة و المعنى ان الشمس طالعة و ليس بكاسفة للنجوم و القمر حال كونها باكية عليك و قيل أن نجوم منصوب بواو المعية المقدرة و ان المعنى تبكي عليك مع النجوم. و هو فاسد لعدم صحة حذف واو المعية.

صاحب القاموس

و قد وَهّم القاموس صاحب الصحاح في مادة كسف فقال إن البيت

(فالشمس كاسفة ليست بطالعة تبكي عليك نجوم الليل و القمرا)

أي كاسفة لموتك تبكي ابداً.

أقول ان الرواية للبيت المعروفة هو ما ذكره صاحب الصحاح على ان صاحب القاموس يرد عليه الإشكال في نصب النجوم و القمر إلا أن يلتزم بالمغالبة في يبكي و هو خلاف ظاهر كلامه أو يلتزم بنَصبها على الظرفية أي ما دامت النجوم و القمر و هو توجيه لا يقبله الذوق العربي.

فنلخص ان إتيان الفعل على وزن (فَعَل يَفعُل) بعد إتيانه على وزن المفاعلة عند المغالبة قياس مطرد في كل فعل ثلاثي منصرف غير جامد كنعم و بئس تام غير ناقص ككان و اخواتها خال من ملزم الكسر كالمثال الواوي و اليائي و

الأجوف و الناقص اليائي.

قول سيبويه و المناقشة فيه

إلا أن المحكي عن سيبويه انه سماعي يكثر في لغة العرب و ليس بقياسي فلا يجوز نقل كل فعل أردت المغالبة إلى ذلك و قد تبعه على ذلك الشيخ الرضي و لكن في التسهيل انه قياس مطرد و ليس لسيبويه دليل على ما ذهب إليه إلا انه لا يقال نازعني فنزعتَه و إنما يقال غلبته في النزاع و قد ردّ عليه في شرح المفصل بأن ما ذكره سيبويه لا يخرج باب المغالبة عن كونه قياسياً كما انه لم يخرج باب التعجب عن القياس عدم قولهم ما أقيله غاية الأمر إنما يقتضي قيام دليل خاص على عدم مجي ء هذا الوزن في هذا المورد الخاص و هو كثرة استعمالهم هذا المعنى في فعل (نازع) بلفظ غلبته فانه يدل على ان وزن باب المغالبة لا يستعمل في خصوص هذا المورد.

باب مدينة العلم، ص: 6

إذا عرفت هذا ظهر لك ان لفظ (الفقهْ) مصدر لفَقِه يفقَه و ليس بمصدر لفَقُه يَفقُه فان مصدرها الفقاهة و لا بمصدر لفقَه يفقُه فانه من باب المغالبة و ليس له مصدر نظير المبني للمفعول و بهذا يظهر لك فساد ما في دائرة المعارف للبستاني و المنجد من جعل مصدره فقهاً.

الفقيه بحسب الاشتقاق

ثمّ لا يخفى ان لفظ (الفقيه) صفة مشبهة أو من امثلة المبالغة أو اسم فاعل بمعنى فاعل كجليس و لذا كان لا يستوي فيه المذكر و المؤنث. و الفَقِه (بفتح أوله و كسر ثانيه) و الفَقُه (بفتح أوله و ضم ثانيه) أيضاً من الامثلة المبالغة و لذا فسَّر القوم هذه الألفاظ الثلاثة بمن كان شديد الفهم و قد تستعمل بمعنى اسم الفاعل مجردة عن المبالغة.

الفقه بحسب اللغة

الفِقه في اللغة الفهم كما في الصحاح و المغرب و النهاية حيث قال فيها: الفقه في الأصل الفهم.

و في حديث سلمان الفارسي انه نزل على نبطية في العراق فقال هل هنا مكان نظيف أصلي فيه فقالت طهّر قلبك و صلِّ حيث شئت فقال سلمان (فقهتُ) أي فهمت.

و روي لعن اللّه النائحة و المستفقهة. و هي صاحبة النائحة في نوحها. و أطلق عليها ذلك لأنها تتلقف نوح النائحة و تفهمه فتجيبها عنه. و لعل اللغويين متفقون على معناه ذلك.

و إنما ذكر بعضهم له معانٍ أخرى مع الفهم كالعلم و الفطنة كما في القاموس أو فهم غرض المتكلم من كلامه كما عن الرازي أو التوصل إلى علم الغائب بعلم الشاهد كما في مفردات الراغب.

التحقيق في معنى الفقه

و التحقيق ان الجميع يرجع إلى الفهم فانه هو المتبادر منه عند اطلاقه في كلام العرب. و المعاني المذكورة ترجع إليه و الأصل عدم الاشتراك. و الخصوصيات التي تفهم من إطلاق الفقه في بعض الموارد كسرعة الانتقال في الفهم المعبر عنه بالفطنة أو فهم غرض المتكلم من كلامه أو جودة الفهم أو فهم الأشياء الدقيقة لا تقتضي أن يكون معناه أخص من الفهم لتبادر نفس الفهم من اطلاقه و الخصوصيات إنما فهمت من القرائن المكتنفة بالمقام أ لا ترى انه إذا أشار شخص إلى رجل و قال (انه رجل) فانه من قرينة المقام و صوناً للكلام عن اللغو يحمل على الرجل الكامل في رجولته و ليس ذلك يقتضي دخول الكمال في مفهومه و معناه. و يرشدك إلى ذلك انه فيما اطلعنا عليه من كتب اللغة ليس فيه تفسير الفقه بجودة الفهم كما فسره بذلك شارح الوافية. نعم يمكن استفادته بتكلف من عبارة القاموسي

مع ضمها لغيرها و لعله يستفاد من تفسير صاحب الذكرى و شارح الزبدة (الفهم) بجودة الذهن مع ضمه لتفسيرهم (الفقه) بالفهم أو من تفسير بعض علماء اللغة بل أكثرهم (الذهن) بالذكاء و الذكاء بالفطنة و الفطنة بالحذق و الحذق بمعرفة الغوامض. هذا و قد وقع الخلاف.

باب مدينة العلم، ص: 7

الخلاف في معنى الفهم فيما بينهم في معنى الفهم الذي فسروا الفقه به و ما أورد عليه

(الفهم الذي فُسر به الفقه) فبعضهم فسره بالادراك و أرجع إليه تفسير الجوهري (الفهم) بالعلم و زعم انه مراد من فسره بأنه هيئة للنفس بها يتحقق معانٍ ما تحس. و فسره بعضهم كصاحب الذكرى و شرح الزبدة بجودة الذهن و الاستعداد لاكتساب المطالب و الآراء و ان كان المتصف به جاهلًا كالعامي الفطن قيل و كأنه مراد من فسره بسرعة الانتقال من المبادئ إلى المقاصد و على هذا فمعناه يرجع إلى الذكاء و الفطنة.

و قد أورد على التفسير الأول بايرادين أحدهما انه يصدق (المدرِك) على البليد دون ان يصدق عليه الفهيم أو الفاهم. و أجيب عنه بأن الفهيم امثلة مبالغة كعليم. و الفاهم قد نقل معناه إلى من هو شديد الفهم.

و ثانيهما بأن المتبادر من الفهم في موارد اطلاقه هو الإدراك الخاص اعني ادراك دقائق الأشياء لا مطلق الإدراك. و ان الفقه أيضاً معناه هو ذلك لا مطلق الإدراك و لعله إليه يرجع من فسره بفهم الأشياء الدقيقة.

و لا يخفى ما فيه فان ذلك إنما يتبادر منه بقرائن الأحوال فان استعمال الفهم في مطلق الإدراك ليس فيه أدنى تكلف و لذا المفسر المذكور قيد الفهم بالأشياء الدقيقة فان ذلك يشعر بعموم معنى الفهم للأشياء الدقيقة و غيرها. هذا و المحكي عن شريف العلماء ان جمعاً من العلماء ذهبوا إلى ان الفهم مرادف للعلم ورد

عليهم بأن بينهما عموماً من وجه لصدق العلم بدون الفهم في البليد إذا علم شيئاً و صدق الفهم بدون العلم من العامي الفطن و يجتمعان في العالم الفطن. و فيه ان البليد إذا عرف المسألة يقال له انه فهمها اطلاقاً لا تكلف فيه و هكذا في العامي الفطن إذا عرف المسألة و لعل الذي أوقع القوم في تخيل الاختلاف هو اشتباههم في معانيها بواسطة ملازمة بعض القرائن لها أو كثرة استعماله في بعض أفرادها و إلا لو جردت من القرائن لما كان المتبادر منها أي من (الفهم و الإدراك و العلم) إلا معنى واحداً و هو التصور كما انه من المحتمل ان منشأ ما ذهب إليه شريف العلماء هو ملاحظته للمشتق منهما و هو فهيم و عليم.

الفقه بحسب عرف الشارع و نقل بعض الآيات و الأحاديث

اشارة

الظاهر ان الفقه لم ينقله الشارع الأقدس من معناه اللغوي إلى معنى آخر حتى يكون له حقيقة شرعية و ليس له معنى اصطلاحي جديد عنده فهو بحسب عرف الشارع مستعمل في معناه اللغوي فهذا القرآن الكريم قد استعمل الفقه في معناه اللغوي كقوله تعالى في سورة الإسراء: وَ لٰكِنْ لٰا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. و كقوله تعالى في سورة النساء: لٰا يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. و كقوله تعالى في سورة هود: مٰا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمّٰا تَقُولُ. و كقوله تعالى في الاعراف: لَهُمْ قُلُوبٌ لٰا يَفْقَهُونَ بِهٰا. و كقوله تعالى في الأنفال و التوبة و الحشر: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَفْقَهُونَ*. و كقوله تعالى في سورة المنافقين: وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لٰا يَفْقَهُونَ. و كقوله تعالى في سورة الأنعام و الإسراء:

باب مدينة العلم، ص: 8

وَ جَعَلْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ* بل حتى قوله تعالى في سورة التوبة فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ

فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ بل و حتى قوله" صلى اللّه عليه و آله"

(ما عبد اللّه بشي ء افضل من فقه في الدين)

فان تقييد التفقه و الفقه بالدين يدل على إن المتبادر هو معناه اللغوي. لا معرفة الأحكام الشرعية و إلا لما قيده بالدين. و لكنه قد شاع استعمال لفظ الفقه في خصوص معرفة الأحكام الشرعية و البصيرة في الدين في زمن النبي" صلى اللّه عليه و آله" بواسطة القرائن اللفظية و الحالية من باب إطلاق الكلي و إرادة الفرد منه و لو باعتبار تعدد الدال و المدلول. و كقوله" صلى اللّه عليه و آله"

صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس و إذا فسدوا فسد الناس الامراء و الفقهاء

. و كقوله" صلى اللّه عليه و آله"

(الفقه ثمّ المتجر)

فان المراد به معرفة الأحكام الشرعية للتجارة ثمّ التجارة. و عنه" صلى اللّه عليه و آله"

افضل العبادة التفقه

و قد روي عن طريق الفريقين إن رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" دخل المسجد فإذا هو بمجلسين أحدهما يذكرون اللّه تعالى و الآخر يتفقهون فقال رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" كلا المجلسين على خير و أحدهما احبُّ إليَّ من صاحبه أما هؤلاء فيسألون اللّه تعالى و يذكرونه فان شاء أعطاهم و ان شاء منعهم و أما المجلس الآخر فيتعلمون الفقه و يعلمون الجاهل و إنما بعثت معلما و جلس" صلى اللّه عليه و آله" إلى أهل الفقه. و روي عنه انه قال خيار أمتي علماؤها و خيار علمائها الفقهاء. و عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" انه قال ما عُبدَ اللّه بشي ء افضل من الفقيه في الدين و لفقيه واحد اشد على الشيطان من ألف عابد

و لكل شي ء عماد و عماد الدين الفقه. و ما رواه في الكافي بإسناده إلى أبي عبد اللّه" عليه السلام"، و الصدوق بإسناده إلى الكاظم" عليه السلام"، انه قال رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" من حفظ على أمتي اربعين حديثاً بعثه اللّه تعالى يوم القيامة عالما فقيهاً. و هذا الحديث مشهور و مستفيض بين الخاصة و العامة بل حكى في الوافي و البحار عن بعضهم انه متواتر عن رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله".

تفسير حديث من حفظ على أمتي اربعين حديثاً

و الظاهر ان المراد الحفظ هو حفظها بنحو الاستفادة منها و استنباط المعارف و الأحكام الشرعية منها بقرينة جعله عالماً فقيها و يؤدي ذلك لفظ (على) فإنها ظاهرة في اللام أي حفظ لأجل أمتي كما في قوله تعالى: وَ لِتُكَبِّرُوا اللّٰهَ عَلىٰ مٰا هَدٰاكُمْ أي لأجل هدايتكم و ان احتمل بعضهم إن على بمعنى (من) و في غوالي اللئالي روي عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" رحم اللّه امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه ليس بفقيه و في رواية أخرى فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. و الحاصل انه لم يعلم نقل لفظ الفقه إلى معرفة الأحكام الشرعية بالخصوص في عهده" صلى اللّه عليه و آله"، و ان حصل الشياع في استعماله في معرفة الأحكام الشرعية حيث لم نعلم ان هذا الشياع بلغ حداً يوجب النقل لأحتمال أن استعماله" صلى اللّه عليه و آله" فيه كان من باب إطلاق الكلي على الفرد نظير استعمال (العلم) في ذلك نحو قوله" صلى اللّه عليه و آله": طلب العلم فريضة فانه يراد به معرفة الأحكام الشرعية من باب إطلاق الكلي و إرادة الفرد. و

الأصل عدم النقل. و لو سلمنا ان الشياع قد أوجب النقل لكن لا نسلم ان الرسول" صلى اللّه عليه و آله" قد نقله إلى ذلك و الحاصل انا لو سلمنا حصول النقل بالشياع فيكون منقولًا عرفياً عند أهل الشرع و ليس بمنقول عند الشارع

باب مدينة العلم، ص: 9

و هو الرسول" صلى اللّه عليه و آله". و عليه فلا يحمل لفظ الفقه في لسان الشارع و الكتاب المجيد على غير المعنى اللغوي و لا وجه لما ينقل عن بعض المحدثين من انه عند الشارع موضوع لمعنى غير المعنى اللغوي و هو معرفة الأحكام الشرعية.

الفقه بحسب عرف المتشرعة

و المراد بالمتشرعة العارفون بالأحكام الشرعية و المطلعون عليها من المسلمين. و لا ريب إنهم قد نقلوا لفظ الفقه من معناه اللغوي إلى معرفة الأحكام الشرعية أصولية أو فرعية عن بصيرة في الدين بواسطة كثرة الاستعمال حتى صار عندهم حقيقة في ذلك و هو المراد لمن قال ان الفقه في العرف العام موضوع لمعرفة أمور الدين و ما جاءت به شريعة سيد المرسلين سواء كانت المعرفة عن اجتهاد أو تقليد بواسطة شيوع استعماله في هذا المعنى في لسانهم و كثرته فيما بينهم كثرة أوجبت انصرافه عند إطلاقه عن معناه اللغوي إلى هذا المعنى المتقدم حتى صار هو المتبادر منه عندهم.

نقل بعض الروايات المشتملة على لفظ الفقه

و لا بأس بنقل بعض الروايات عنهم" عليهم السلام" التي استعمل فيها لفظ الفقه بمعنى المنقول إليه المذكور مثل ما روي عن الصادق" عليه السلام" في كتاب معاني الأخبار (أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا) و ما روي عنه" عليه السلام" أيضاً (وددت أن أضرب رءوس أصحابي بالسياط حتى يتفقهوا) و ما روي عنه" عليه السلام"، أيضاً (تفقهوا في الدين فانه من لم يتفقه في الدين فهو اعرابي ان اللّه تعالى يقول في كتابه ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم)، و عن الشيخ في باب الزيارات من الصلاة في الصحيح عن حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّه قال (ما أعاد الصلاة فقيه قط يحتال لها و يدبرها حتى لا يعيدها) و في الصحيح أيضاً عن عبيد قال سألته عن رجل لم يدرِ في ركعتين صلى أم ثلاثا قال يعيد قلت أ ليس يقال لا يعيد الصلاة فقيه فقال إنما ذلك في الثلاث و الأربع. و اطلاق الفقيه على الإمام موسى بن جعفر الكاظم"

عليه السلام" معروف في كلام الرواة. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي استعمل فيها لفظ (الفقه) في معرفة الأحكام الشرعية مطلقاً (و الحاصل) ان المتتبع للأخبار و الروايات و لكلمات المسلمين و أهل السيرة و المؤرخين و المتكلمين و المحدثين منهم يجد لفظ الفقه قد كثر استعماله في المعنى المذكور حتى بلغ ذلك إلى حد النقل من معناها اللغوي إلى هذا المعنى المتقدم و يمكن للمتتبع أن يحدد مبدأ عصر تحقق النقل من زمن وفاة الرسول الأعظم" صلى اللّه عليه و آله".

الفقه بحسب العرف الخاص أي بحسب عرف الفقهاء و الأصوليين

ذهب شارح المقاصد و تبعه جملة من الفطاحل إلى ان الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما تتعلق بالعمل و تسمى فرعية و عملية و منها ما تتعلق بالاعتقاد و تسمى أصلية و اعتقادية و كانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبي" صلى اللّه عليه و آله" و قرب العهد بزمانه و سماع الأخبار و مشاهدة الآثار مع قلة الوقائع و الاختلافات و سهولة المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين الأحكام و ترتيبها أبواباً و فصولًا و تكثير المسائل فروعاً و أصولا إلى أن ظهر اختلاف الآراء و الميل إلى البدع و الأهواء و كثرت الفتاوى و الوقائع و مست الحاجة فيها إلى زيادة نظر و التفات فاخذ أرباب النظر و الاستدلال في استنباط الأحكام و بذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام و أقبلوا على تمهيد أصولها و قوانينها و تلخيص حججها و براهينها و تدوين المسائل بأدلتها و إيراد الشبه بأجوبتها وسموا العلم بها فقها. و خصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر و

باب مدينة العلم، ص: 10

الأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه. وسموا الاعتقاديات بعلم التوحيد و الصفات تسميه بأشهر أجزائه و

أشرفها. و سموها أيضاً بعلم الكلام لأن مباحثه كانت مصدّرة بقولهم الكلام في كذا و كذا. و لأن أشهر الاختلافات فيه كانت في مسألة كلام اللّه تعالى انه قديم أو حادث. و لأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات. و لأنه كثر فيه الكلام مع المخالفين و الرد عليهم ما لم يكثر في غيره. و لأنه بقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلاميين هذا هو الكلام. و اعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات بل في العلميات (أي ان الظن يعتبر في العمليات).

تعريف علم الكلام

فظهر ان (علم الكلام) هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من أدلتها اليقينية. و هذا معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دين محمد" صلى اللّه عليه و آله" سواء توقفت معرفتها على الشرع أم لا و سواء كان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ككلام المخالف و صار قولنا الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن أدلتها اليقينية مناسباً لقولهم في الفقه أنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية و موافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة ان الفقه معرفة النفس مالها و ما عليها و ان ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر و خرج العلم بغير الشرعيات و بالشرعيات الفرعية و علم اللّه تعالى و علم الرسول" صلى اللّه عليه و آله" بالاعتقاديات. و كذا اعتقاد المقلد عند من يسميه علما و دخل علم علماء الصحابة بذلك فانه كلام و ان لم يكن يسمى في ذلك الزمان بهذا الاسم كما إن علمهم بالفرعيات فقه و ان لم يكن ثمة هذا التدوين و الترتيب

و ذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية. و حكى عن الغزالي انه قال ان الناس تصرفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى و الوقوف على دقائقها و عللها. و اسم الفقه في العصر الأول كان يطلق على علم الآخرة و معرفة دقائق النفوس و الاطلاع على عظم الآخرة و حقارة الدنيا. انتهى ما أردنا نقله و كيف كان فلا ريب ان الفقهاء و تبعهم الأصوليون قد نقلوا لفظ الفقه من معناه اللغوي الذي هو مطلق الفهم أو عن معناه العرفي الذي هو العلم بمطلق الأحكام الشرعية إلى فهم خاص و فرد مخصوص من أفراده.

تعريف علم الفقه

اشارة

عرّف الفقهاء علم الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، و هذا التعريف للفقه قد ذكره اغلب علماء الأصول و تسالموا عليه و ان زاد بعضهم بعض القيود فيه. ففي مختصر ابن الحاجب المتوفي سنة 646 ه. زاد عليه بعد ذكر (التفصيلية) قوله (بالاستدلال) محترزاً بذلك عن علم الملائكة و نحوهم. و في المنهاج للبيضاوي المتوفي سنة 685 ه أبدل (الفرعية) بالعملية و أتى بلفظ (المكتسب) بعدها وصفاً للعلم. و ابن السبكي المتوفي سنة 771 ه تبع البيضاوي في التعريف المذكور. و عن الآمدي المتوفي سنة 631 ه انه العلم بجملة غالبة من الأحكام و في تهذيب العلامة" رحمه اللّه". العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم من الدين ضرورة. و عن المعارج هو جملة من العلم بأحكام شرعية عملية مستدل على أعيانها و عن الذكرى هو العلم بالأحكام

باب مدينة العلم، ص: 11

الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية فتحصل السعادة الاخروية. و عن التحفة هو العلم

بالأحكام الشرعية الفرعية بالنظر إلى اماراتها ...

اشهر التعاريف لعلم الفقه
اشارة

إلا إن اشهر هذه التعاريف و لعل المتأخرين متفقون عليه هو التعريف الأول و حيث ان المعرَّف تتوقف معرفته على معرفة أجزاء التعريف كان علينا التعرض لبيانها فنقول:

(العلم): له معاني سبعة:

أحدها ما هو موضوع له لغةً و عرفاً و هو المعرفة و الاطلاع على وجه الجزم الثابت المطابق للواقع و يكون متعلقه هو القضايا و هذا المعنى هو مصطلح أرباب الحكمة

[القيد الأول- العلم بالأحكام]
اشارة

و بالقيد الأول خرج الظن لأنه معرفة و لكن ليست على سبيل الجزم لأنه يحتمل معه وقوع الطرف الآخر. و بقيد (الثابت) خرج التقليد لأنه و ان حصل به الجزم إلا انه ليس بثابت لزواله بتشكيك المشكك. أو بتبديل المقلد و بقيد (المطابق للواقع) خرج الجهل المركب لأنه و ان كان جزما إلا انه لم يطابق الواقع. و الحاصل إن العلم الذي هو المصدر يكون حقيقة في المعنى المصدري الحدثي و هو المعرفة و الاطلاع و ليس بحقيقة في حاصل المصدر و هو الحصول أو الصورة الحاصلة في الذهن الذي يكون به اسم مصدر لاتفاق علماء العربية على ان المصادر حقيقة في المعاني المصدرية.

(ثانيها): نفس مسائل العلوم المعبر عنها بالقضايا أو بالمحمولات أو بالنسب التامة المبينة في العلوم كقولهم فلان يعلم النحو و المنطق و كقولهم علم النحو و علم المنطق. و الظاهر أن إرادة هذا المعنى منه على سبيل التجوز من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول كالخلق على المخلوق و ليس بحقيقة لغوية أو عرفية عامة و لا خاصة لصحة السلب و عدم التبادر و أصالة عدم الاشتراك و عدم النقل.

(ثالثها): مطلق الإدراك الأعم من التصور و التصديق و هو مصطلح أهل المنطق و ليس بحقيقة لغوية و لا عرفية عامة

و إنما هو حقيقة عند أهل المنطق و جعل منه قوله تعالى وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا.

(و رابعها): الملكة التي يقتدر بها على معرفة المسائل و هي الهيئة الراسخة في الذهن الحاصلة من ممارسة المسائل و تكرر الادراكات لها كقولهم فلان نحوي و صرفي و يحكى عن صاحب الفصول" رحمه اللّه" إن هذا المعنى هو مصطلح لأرباب العلوم حتى صار حقيقة عندهم بالغلبة أو بالنقل. و لكن ظاهر الأكثر انه من المجاز المشهور المتداول الذي لا يضر استعماله في الحدود. و أصالة عدم النقل تقتضي انه مجاز في هذا المعنى.

(خامسها): التهيؤ و الاستعداد لمعرفة المسائل و ظاهر المحكي عن التلويح و جلال الدين شارح جمع الجوامع ان هذا المعنى عبارة عن المعنى الرابع فراراً عما يرد عليه من إن التهيؤ البعيد حاصل لغير الفقيه. و القريب غير مضبوط إذ لا يعرف أي مقدار من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب.

باب مدينة العلم، ص: 12

(سادسها): مطلق التصديق الشامل للجزم و الظن و الجهل المركب و التقليد قال المرحوم الشيخ حسن عمنا الأعلى في شرح مقدمة كشف الغطاء انه بهذا المعنى من المجاز المشهور و ينبغي حمل العلم في هذا المقام عليه لظهوره فيه لفهم كثير من الأعلام له.

(سابعها): مطلق الجزم الشامل للجهل المركب و التقليد الموجب للجزم. هذا و قد ذكر صاحب الفصول للعلم معنى آخر و هو التصور فقط و هو لا وجه له لعدم ذكر

أحد له ذلك و الأصل عدمه إذا عرفت ذلك ظهر لك ان الأصح هو حملُه في تعريف الفقه على المعنى الأول لأنه المعنى اللغوي العرفي و استعماله في غيره لا يصح في التعريف لأنه مجاز و ان سلمنا انه

مشهور لكن لا يقدم على الحقيقة فلا يصح الاعتماد عليه في التعاريف. و لأن إرادة الثاني لا تناسب التعدية بالباء إلا على ضرب من التجوز و لأن الرابع لا يناسب التعدية (بعن) إلا على ضرب من التكلف الذي هو خلاف الظاهر الذي لا يصح ارتكابه في التعاريف.

إن قلت ان حمله على المعنى الأول ينافي مذهب المخطئة.

قلنا لا ينافيه فان المراد به اليقين بالحكم الظاهري أو بوجوب العمل أو بمدلول الدليل كما سيجي ء إن شاء اللّه.

معنى الباء الداخلة على الأحكام

و أما (الباء) الداخلة على الأحكام فهي داخلة على المفعول به للعلم لأن العلم مصدر لعلم المتعدي و لكن مصدر المتعدي يكون لازما إذا دخلت عليه (ال) فيعدّى إلى مفعوله بحرف الجر فتكون الباء هنا للإلصاق.

معاني الحكم السبعة و ما هو المأخوذ منها في تعريف الفقه

و أما الأحكام فهو جمع حكم و الحكم له معانٍ سبعة:

(أحدها) الإلزام كإلزام الآمر و الناهي و الزام الحاكم المتخاصمين لقطع الخصومة و منه يسمى الحاكم حاكماً و القضاء حكماً.

(ثانيها) التصديق و الإذعان بالنسبة الذي طالما المنطقيون يستعملونه في هذا المعنى و من الغريب جعل هذا المعنى عين المعنى الأول كما هو الظاهر من كلام صاحب بدائع الأفكار.

(ثالثها) النسبة التامة الخبرية و قد تقيد بالجزئية بدل الخبرية و لعله من تحريف الناسخ أو في قبال الكلية التي هي ليست فقهاً كما في المعالم حيث فيها (و مسائله يعني (الفقه) المطالب الجزئية ... الخ). و إلى هذا المعنى يرجع تفسير الحكم بإسناد أمر إلى آخر أو سلبه عنه الذي هو عبارة عن ايقاعه عليه أو انتزاعه عنه. لأن النسبة التامة إن أريد بها مجرد النسبة المرددة بين الايجاب و السلب و الموجودة بينهما فعدم صدق الحكم عليها واضح و ان أريد بها النسبة الثبوتية و السلبية فهي عبارة عن ايقاع المحمول على الموضوع أو سلبه عنه فترجع إليه و لو سلم الاختلاف فهو باللحاظ و الاعتبار و إليه يرجع تفسير الحكم بالمسائل لأن المسائل لا يطلق عليها الحكم إلا باعتبار ما اشتملت عليه من النسب التامة الخبرية و إلا فمجموعها ليست بحكم. و على هذا المعنى يحمل الخبر المعروف و هو قوله" عليه السلام" خمسة أشياء يجب الأخذ فيها بظاهر الحكم الحديث.

باب مدينة العلم، ص: 13

(رابعها) النسبة التامة التي

هي مداليل الكلام أعم من الخبرية و الانشائية ليشمل مثل اقم الصلاة و هذا هو المعنى العرفي العام اللغوي له و لعله تلك المعاني ترجع إليه و هي مصاديقه.

(خامسها) خطاب اللّه المتعلق بأفعال المكلفين. و هو اصطلاح الأصوليين في الحكم حيث فسروا الحكم بذلك كما عن الغزالي المتوفي سنة 505 ه و ان زاد بعضهم بعض القيود كما في تهذيب العلامة" رحمه اللّه" حيث زاد قيد (بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع) بعد لفظ (المكلفين) و حكي ذلك عن ابن الحاجب و صاحب المناهج و المنتخب، و عن الآمدي ان الحكم خطاب الشارع بفائدة شرعية تختص به. و كيف كان فكلمتهم من قديم الزمان متفقة على ان الحكم عندهم هو خطاب الشارع فلا وجه لما ذكره صاحب القوامع من عدم ثبوت اصطلاحهم على ذلك.

(سادسها) خصوص الأحكام التكليفية الخمسة الإباحة و الاستحباب و الكراهة و الوجوب و الحرمة كما هو الشائع المتعارف في عرف المتشرعة.

(سابعها) مداليل الخطابات الشرعية بنحو الاقتضاء أو التخيير أو الوضع اعني الأعم من الأحكام التكليفية الخمسة و الأحكام الوضعية الشرعية كما هو الشائع في عرف الفقهاء و صرح به غير واحد منهم و الظاهر ان المراد في التعريف هو المعنى الرابع لأن ألفاظ التعريف كما قررناه يجب ان تستعمل في اظهر معانيها عند العرف العام و اللغة ليتضح المعرَّف عند السامع.

إن قلت قد ذكر غير واحد بأنه يجب حمل الكلام على عرف أهله فينبغي ان تفسر الأحكام بالمعنى السابع و لأن العلم بالأحكام التكليفية و الوضعية علم بعوارض أفعال المكلفين الشرعية و حقيقة كل علم هو العلم بعوارض موضوعه.

قلنا هذا فيما لو تقدم منهم بيان الاصطلاح فانه بعد ذلك يحمل اللفظ في كلامهم

عليه لأنه يكون بمنزلة البيان لما يراد من اللفظ في الكلام أما إذا لم يتقدم ذلك منهم فلا يصح استعمال اللفظ عند ايضاح الحقيقة في المعنى المصطلح فيه لعدم اتضاح الحقيقة به و هو خلاف المطلوب مضافا إلى لزوم زيادة قيد الشرعية و الفرعية.

(و دعوى) انه لو أريد المعنى الرابع للحكم لزم خروج معرفة الموضوعات المخترعة للشارع كالصلاة و الصوم مع إن معرفتها وظيفة الفقيه (فاسدة) لأنه إن أريد من معرفتها تصورها فهي من المبادئ التصويرية لأن تصور الموضوعات كما قررناه في محله من المبادئ التصورية للعلم و هي غير خارجة عن العلم و ان أريد من معرفتها التصديق بصحة حدودها و تعاريفها و بيان أجزائها و شرائطها فالتصديق بذلك داخل في التصديق بالأحكام الوضعية الشرعية. (و دعوى) ان متعلق العلم الحاصل من الأدلة هو النسبة دون طرفيها من الموضوعات و المحمولات و الأحكام عبارة عن نفس المحمولات فالأولى حمل الأحكام على المعنى الثالث أو الرابع (فاسدة) فان الأحكام عند الفقهاء ليس نفس الوجوب المجرد بل هو الوجوب المنسوب لفعل المكلف المخصوص و لا شك ان الذي يفهم من الأدلة هو الحكم المنسوب لفعل خاص من أفعال المكلفين فان (أقم الصلاة) يفهم منه الوجوب

باب مدينة العلم، ص: 14

المنسوب لفعل الصلاة و هو نفس الحكم عند الفقهاء (و دعوى) إن هذا التعريف ذكره الأصوليون فينبغي حمله على مصطلحهم و هو المعنى الخامس للحكم.

(فاسدة) فان كل فنّ و علم إذا ذكر تعريفه أهل فنّ آخر يذكرونه بالنحو الذي ذكره أربابه فالأصوليون لا يريدون من هذا التعريف إلا ما أراده أهل الفقه. هذا مضافا إلى ان حمل (الحكم) على المعنى الأول فاسد لأنه يخرج عن الفقه

العلم بالأحكام غير الإلزامية. و هكذا حمله على المعنى الثاني كما هو المحكي عن المحقق الشريف و سلطان العلماء أيضاً فاسد لأن التصديق هو الإذعان و لازمه ان يكون لفظ (العلم) في التعريف مستدرك إذ لا معنى لقولنا العلم بالتصديقات.

إن قلت نحمل (العلم) على الملكة و نجعل عن أدلتها متعلق بالأحكام و نجعل الباء في الأحكام للسببية و نجعل الأحكام بمعنى تصديقات الفقيه لا الشارع لأن الشارع تصديقاته ليست عن الأدلة التفصيلية (قلنا) قد عرفت وجوب حمل العلم على معناه اللغوي و ظهور الباء في الالصاق و التعدية و ظهور (عن) في إنها متعلقة بالعلم.

(إن قلت) نحمل (العلم) على ملكة التصديق و الأحكام على تصديقات الشارع و (عن) نعلقها بالملكة (قلنا) أيضاً قد عرفت لزوم حمل العلم على معناه اللغوي. و التصديقات لا بد أن يراد بها على هذا اسم مفعول اعني المصدقات من الشارع و هو أيضاً خلاف الظاهر. و هكذا حمله على المعنى الثالث كما هو المحكي عن المحقق القمي و الشيرواني و الشيخ البهائي" رحمه اللّه" و جملة من المتأخرين فاسد للزوم خروج العلم بالنسب الإنشائية (كأقم الصلاة) و التجأ بعضهم فراراً عن الإشكال فقال بأن النسب الإنشائية تستتبع نسب خبرية لا محالة فان طلب الشارع للفعل يوجب اتصافه بالمطلوبية فيندرج العلم بالنسب الإنشائية تحت التعريف بالاعتبار الثاني.

و يمكن ان يقال عليه ان مثل احباط العمل و تجسمه نسب تامة خبرية و هي شرعية تؤخذ من الشارع و فرعية لأنها متعلقة بالعمل بلا واسطة فيلزم شمول التعريف لها بخلاف ما إذا فسرنا الأحكام بالمعنى السابع فان الاحباط و التجسيم ليس منها. و يمكن أن يقال عليه أيضاً أن النسب الخبرية هي مدلولات

الأدلة التفصيلية فهي بالنسبة إليها من قبيل الألفاظ بالنسبة لمعانيها فلا تكون أدلة اصطلاحية عليها لأن الدليل ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري و إنما تكون كواشف عنها بخلافها بالنسبة إلى الأحكام الشرعية فإنها تكون أدلة عليها. و منه يظهر فساد حمله على المعنى الرابع. (إلا اللهم) أن يقال إن المراد بها هي نسب الأحكام لموضوعاتها فان الأدلة كما تكون أدلة على الأحكام تكون أدلة على نسبها و المعني بالتعريف هو نسب الأحكام لموضوعاتها لا النسب التي هي مدلولاتها. و يكون قوله (عن أدلتها) قرينة على ذلك. و هكذا حمله على المعنى السادس فاسد لاستلزامه خروج معظم المسائل الفقهية كالبحث عن شرائط العبادات و موانعها و أسباب وجوبها و البحث عن الصحة و الفساد و نحوهما مما هو المقصد الأهم في قسم المعاملات. و جعل ذلك كله من باب الاستطراد لا

باب مدينة العلم، ص: 15

وجه له لأن معظم مباحث الفقه مكوّن منها. و جعل ذلك بحثاً عن الأحكام التكليفية لرجوع الأحكام الوضعية إليها لا وجه له لعدم ذهاب معظم الفقهاء إلى ذلك مضافا إلى بطلانه في نفسه و لو سلمنا به فالفقهاء الباحثون عن ذلك لم يلتفتوا إلى رجوعها للأحكام التكليفية حتى يقال ان بحثهم من جهة رجوعها إليها و هكذا حمله على المعنى الخامس فاسد لأن العلم بالخطاب سواء فسر بالكلام الموجه أو بتوجيه الكلام ليس بفقه لأن الفقه هو العلم بما استنتج من الخطاب من الأحكام التكليفية أو الوضعية و لزوم زيادة قيد (الشرعية الفرعية) و لزوم اتحاد الدليل و المدلول بعد ان كان الكتاب و السنة من الأدلة التفصيلية و هما من الخطاب.

معنى الكلام النفسي

و قد استراح الأصوليون القائلون

بمقالة الأشاعرة من وجود الكلام النفسي و هو معنى قائم بنفس المتكلم يدل عليه كلامه اللفظي من قبيل دلالة الأثر على المؤثر و هو غير الصورة الذهنية للمعنى الذي اخبر بها أو طلبها أو نهى عنها المتكلم و غير إرادة الاخبار عنها و غير إرادة الفعل و كراهيته و فسره العضدي بالنسبة القائمة بالنفس بين المفردين و جعلوه هو الطلب و النهي في الأوامر و النواهي و إليه يرجع النزاع المعروف في كتب الأصول من ان الطلب عين الارادة أو غيرها و قد اطبق الامامية و المعتزلة على عدم معقوليته و يمكن ان يكون المراد للأشاعرة به هو العقل الباطني و تحقيق ذلك يطلب مما كتبناه في مبحث اتحاد الطلب و الإرادة و سيجي ء إن شاء اللّه التعرض له عند البحث عن تعريف الحكم عند الأصوليين (و كيف كان) فبناء على مذهب الأشاعرة من وجود الكلام النفسي يمكن رفع الإيراد المذكور حيث يكون عندهم معنى الأحكام هو الخطابات التي هي الكلام النفسي و معنى الأدلة هو الخطابات التي هي الكلام اللفظي فتغاير الدليل و المدلول و بما حققناه من أن المراد بالعلم هو المعرفة و الاطلاع يكون العلم بالذوات و بالصفات خارجا عن التعريف بلفظ العلم لا بقيد الأحكام و إنما خرج بقيد الأحكام العلم بالمسائل النحوية و العرفية و نحوها.

القيد الثاني للتعريف- الشرعية
اشارة

أما قيد (الشرعية) فهي نسبة للشرع. و الشرع في اللغة و العرف العام هو الدين و الظاهر انهما مترادفان عند العرف. و أما عند اللغة أخذ في الدين التدين و هو عقد القلب و الالتزام به. كما ان الشريعة معناها الطريقة (و دعوى) ان الشرع في اللغة هو الطريق الواضح نقل منه عرفا أو

في اصطلاح أهل الاديان إلى الإسلام بل إلى كل ما جاء به أحد من الأنبياء من الاديان كما صدرت من صاحب البدائع (فاسدة) إذ لا دليل عليها لأن لفظ الشرع كلفظ الدين يتبادر منهما معنى واحد عرفاً و هو ما جاءت به الرسل من اللّه تعالى لعباده و يستعملان فيه بلا تكلف. و الأصل عدم النقل و لا داعي للالتزام بالنقل فانه لا ملزم له كيف و لو التزمناه في الألفاظ للزم التسلسل فالأولى جعله مرتجلا بالنسبة لمعناه و موضوعاً له على سبيل الاستقلال، كما انه لا وجه لدعوى اختصاصه بشرع الإسلام إذ كل دين يسمى شرعاً و يجمع على شرائع (نعم) لا ينكر ان لفظ (الشرع) عند المسلمين نقل للخصوص الدين الإسلامي فانه إذا أطلق عندهم لا يتبادر منه إلا ذلك. و عليه فالمراد (بالشرعية) هي المنسوبة للشرع المحمدي و الدين الإسلامي الحنيف. و لو لا هذا النقل لقلنا ان التعريف المذكور يشمل علم علماء الأديان الأخرى الذين علموا بأحكام دينهم عن أدلتها التفصيلية و يصح ان يطلق عليهم فقهاء (و الحاصل) ان المراد بالشرعية هي المنسوبة للشرع و النسبة و ان كانت تصح لأدنى مناسبة

باب مدينة العلم، ص: 16

إلا ان الظاهر ان المراد منها هي المجعولة في الشرع و لو بواسطة جعل كلّيها سواء استكشف ثبوتها فيه من بيان الشارع أو امضائه أو سكوته أو من حكم العقل كما لو حكم العقل بأن هذا الحكم من الشارع.

تقسيم الشرعية إلى قسمين أصولية و فرعية

(ثمّ ان الشرعية) على قسمين فرعية و هي التي يبحث عنها في هذا العلم و أصولية. و الأصولية على قسمين أصولية فقهية و هي التي يبحث عنها في علم الأصول و تتعلق بأحوال الأدلة.

و أصولية اعتقادية و هي التي تتعلق بأحوال المبدأ و المعاد و يبحث عنها في علم الكلام على وجه المطابقة مع النقل بطريق النظر و الفكر و في علم التصوف بطريق الكشف و الرياضة. و في الحكمة المشائية على قانون العقل من دون ملاحظة المطابقة مع النقل. و في حكمة الإشراق على قانون العقل بطريق الكشف و الرياضة (و عليه) يظهر لك فساد تفسير الشرعية بما أخذ من الشارع و لو شأناً فان كثيراً من أحوال الأنبياء أخذت من الشارع مع انه لا يقال لها شرعية كما ان بعض الأحكام لا يصح أخذها من الشارع مع انها شرعية لجعل العقل لها من الشرع كوجوب الاعتقاد بوجود الباري عزّ اسمه و وجوب الاعتقاد بالرسول و وجوب النظر في المعجزة و على ما ذكرناه يكون قيد الشرعية لاخراج الأحكام العقلية كالعلم بأن العالم حادث و الحسية كالنار محرقة، و الوضعية التي هي بوضع الواضع كالفعل مرفوع و العرفية كاحترام القادم.

القيد الثالث- الفرعية

(و أما قيد الفرعية) فهي نسبة إلى الفرع و هو ما ابتنى على غيره في مقابل الأصل و هو ما ابتنى عليه غيره و قد اختلف القوم في تفسيرها فبعضهم فسرها بما ليست أصولية. و بعضهم بما دونت الكتب الفقهية لأجله. و فسرها صاحب الفصول بالمسائل العرفية التي دونت مهماتها في الكتب المعهودة و في هداية المسترشدين فسرت بما يتعلق بفروع الدين، و لا يخفى ما في ذلك من الخطأ إذ المقصود من التعريف التمييز عن غيرها و بالتعاريف المذكورة لا تتميز الأحكام الفرعية عن الأصولية لكون الأصولية غير معلومة لمن يجهل الفرعية و يريد تميزها عن الأصولية و لا ما دونت الكتب الفقهية لأجله معروف عنده

خصوصاً لمن يريد البصيرة في الشارع، و قد استظهر بعض المحققين من كلمات الشيخ الأنصاري" رحمه اللّه" تفسير (الفرعية) بالأحكام الشرعية التي ينتفع بها المقلد و المجتهد معاً غير الاعتقادية بخلاف الأحكام الأصولية فإنها لا ينتفع بها إلا المجتهد المستنبط. لكونها من مقدمات الاستنباط كحجية خبر الواحد. ثمّ اشكل هذا المستظهر على الشيخ" رحمه اللّه" بأنه ان كان المراد بالانتفاع هو الانتفاع بعد معرفة طرفي القضية من الموضوع و المحمول و احراز ما يعتبر في النفع الفعلي. انتقض التعريف بدخول المسائل الأصولية الشرعية كحجية الخبر

باب مدينة العلم، ص: 17

الواحد فإنها مما ينتفع بها الكل بعد معرفتها و إحراز شرائط العمل بها و هكذا غيرها من مسائل الأصول و ان كان المراد بالانتفاع انتفاع المقلد (بالكسر) بها نفعاً فعلياً غير متوقف على شي ء انتقض عكسه بخروج القواعد الفرعية العامة كقاعدة ما يضمن بصحيحه، و قاعدة الضرر و الحرج و نحوها، و قد تفسر (الفرعية) بالأحكام المجعولة لعامة المكلفين غير العقائد بخلاف الأحكام الأصولية فإنها مجعولة لخصوص المجتهدين، و نوقش فيه بأن المجتهد و المقلد ليسا بصنفين من المكلف حتى يكون لكل منهما حكم مخصوص به بل هما يشتركان في جميع الأحكام أصلا و فرعاً من غير فرق إلا من حيث القدرة و العجز كحجية الخبر فان المجتهد يقدر على العمل به باحراز شرائط العمل دون المقلد و قد تفسر (الفرعية) بما يتعلق بكيفية العمل بلا واسطة و هو المحكي عن سلطان العلماء في حاشيته على المعالم. و لكن المحقق القمي" رحمه اللّه" لم يأت بلفظ الكيفية و قال ما يتعلق بالعمل بلا واسطة. و السر في ذلك ان سلطان العلماء لما فسر الأحكام بالتصديقات.

و التصديقات إنما تتعلق بكيفية العمل و هي الأحكام الشرعية لأن الأحكام من الكيفيات و الأحوال التي تعرض لأعمال المكلفين. و صاحب القوانين لما كان يرى ان الأحكام هي النسب التامة و هي تتعلق بنفس الأعمال لم يأت بلفظ الكيفية، و كيف كان فالمراد بهذا التفسير ان تَعَلق الحكم بالعمل و عُروض الحكم عليه يكون على نحوين:

(أحدهما) ان يكون بلا واسطة شي ء كالوجوب العارض على الصلاة و هذا القسم يسمى بالحكم الفرعي.

(ثانيهما) ما ليس كذلك و يسمى بالحكم الأصلي سواء لم يكن له تعلق بالعمل أصلًا كالوجوب العارض للتصديق بالصراط أو كان له تعلق بالعمل بواسطة واحدة ككون الأمر للوجوب و النهي للحرمة فانه له تعلق بالعمل بواسطة الوجوب و الحرمة العارضين للعمل أو كان له تعلق بالعمل بوسائط متعددة كوجوب التصديق بالله تعالى المستتبع لوجوب طاعته المستتبع لوجوب الفعل أو الحرمة بعد الأمر به أو النهي عنه. و أورد عليه:

(أولا) بدخول جملة من المسائل الأصولية كصحة عمل المجتهد برأيه و وجوب عمل المقلد برأي المجتهد و وجوب العمل بالكتاب و بالظنون الخاصة من باب التعبد و وجوب العمل بالراجح من المتعارضين أو التخيير بينهما.

(ثانيا) ان العمل ان أريد به أفعال الجوارح خرج عن التعريف مثل أحكام النية من وجوب قصد القربة و وجوب الوجه و التمييز في بعض الموارد و الأحكام المتعلقة بالحسد و البخل و سوء الظن و حرمة العزم على المعصية أو كراهيته و نحوها من الأفعال القلبية. و ان أريد بالعمل الأعم منها و من أفعال القلب دخل مثل وجوب التسليم للعقائد الدينية اعني الانقياد لها و الالتزام بها الزائدين على الإذعان بها لعدم كفاية مجرد الإذعان في الإسلام كما في

المنافقين.

(و ثالثاً) بدخول اصل البراءة و الإباحة فانه عبارة عن جواز العمل و اباحته فهو يتعلق بالعمل بلا واسطة.

باب مدينة العلم، ص: 18

(و رابعاً) بخروج الأحكام الوضعية كمباحث النجاسات و المطهرات و المواريث و نحوها فإنها فرعية مع إنها لا تتعلق بالعمل إلا بالواسطة.

(و خامساً) يخرج منه الأحكام الفرعية المتعلقة بالتروك إلا أن يلتزم بتعميم العمل لها، و قد تفسر (الفرعية) بالأحكام الشرعية التي لم يقصد منها الاعتقاد و لا معرفة حكم آخر شرعي كما صدر من صاحب بدائع الأفكار، فيخرج بالقيد الأول أصول العقائد، و بالثاني الأصول الفقهية التعبدية كوجوب العمل بالخبر و نحوه و أما أصول الفقه غير التعبدية كحجية العقل و عموم العام و نحو ذلك، فهي خارجه بقولهم (الشرعية) و يدخل في هذا التعريف الأحكام الظاهرية الثابتة في الطريق للموضوعات كالبينة و اليد و الاستصحاب و نحوها، و كذا يدخل فيه الأحكام الوضعية على القول بجعلها و اشكل عليه بالأصول العملية في الشبهات الحكمية فإنها من الأحكام الأصولية مع انها لا يستنبط منها الحكم الشرعي عند الشك حيث انها عبارة عن حكم ظاهري شرعي يرجع إليه عند الشك في الواقع و يمكن الجواب عنه بما تذكره اخيراً نعم يمكن أن يرد عليه بالأحكام الوضعية فإنها يعرف منها حكم آخر و الظاهر انهم أرادوا (بالفرعية) معناها اللغوي و هي المتفرعة على غيرها بحسب ذاتها و بمقتضى ماهيتها. و لا شك ان الأحكام الشرعية بعضها متفرع على بعض في العمل بمقتضاه كما إن بعض الأحكام الشرعية اصل محض لا يتفرع على غيره كالتوحيد و بعضها اصل بالنسبة لكثير من الأحكام و متفرع بالنسبة لأحكام أخرى كالنبوة فإنها اصل بالنسبة لنوع الأحكام كوجوب

الصلاة و غيرها و فرع على التوحيد و بعضها فرع محض لا يبتنى عليه نوع من الأحكام كوجوب الصلاة و الزكاة و الحج و نحوها فأرادوا بالفرعية هذا القسم الثالث لأنها هي الفرعية المحضة (إن قلت) يتفرع على مثل وجوب الصلاة وجوب المقدمة و حرمة الضد (قلنا) لو سلمنا ذلك فكلي الحكم لا يتفرع عليها بل هو ثابت لعنوان المقدمة و لعنوان الضد و أما كون هذه المقدمة واجبة لوجوب ذيها فهو ليس بحكم شرعي لأن الحكم الشرعي لا يختلف باختلاف الآراء و الأحوال و الازمان و إنما هو جزئي يستخرجه العقل من كلي وجوب المقدمة للواجب (إن قلت) فما تصنع بالأصول العملية في الشبهات الحكمية مع ان القوم قد عدوها من الأصول (قلت) إنهم ألحقوها بالأصول لأنها بحسب نظرهم ان الأحكام المستفادة منها في الشبهات الحكمية أحكام شرعية متفرعة عليها و لم يلتفتوا إلى انها ليس بأحكام شرعية و إنما هي تطبيق للأحكام الشرعية في مواردها (إن قلت) فما تصنع بالأحكام الوضعية فإنها يتفرع عليها أحكام شرعية فيلزم عدها من الأصول. (قلت) انه لا يتفرع عليه نوع الأحكام و إنما هو حكم واحد. و الأمر ليس من الأهمية بمكان و لعل الطالب بعد اطلاعه على ما ذكرناه يستطيع ان يخرج ضابطاً آخر للفرعية.

و كيف كان فتكون الفرعية لاخراج الأحكام الشرعية الأصولية الدينية و الأصولية الفقهية.

متعلق عن في التعريف

و أما متعلق (عن) فهو العلم لأنك قد عرفت ان معنى العلم هو الاطلاع و المعرفة و حرف الجر ظاهر في التعلق بما هو ظاهر في المعنى المصدري و العلم بواسطة تعلق الأحكام به صار ظاهراً في المصدرية بخلاف لفظ (الأحكام) فانه قد عرفت انه ظاهر في

باب مدينة

العلم، ص: 19

الأحكام التكليفية و الوضعية فهو ظاهر في الذوات و بعيد عن المصدرية و أكد ذلك جمعه فان المصادر لا تجمع إلا على ضرب من التأويل (و هكذا الشرعية الفرعية) فإنها ظاهرة في الذوات لياء النسبة و لوصفها للجمع. مضافاً إلى ان حرف الجر إذا رجع إلى الأحكام فأما ان يكون لغواً بأن يكون متعلقاً بنفس الأحكام و لا معنى له لأنه قد عرفت ان المراد بالأحكام التكليفية و الوضعية و هي ليست حكميتها عن الأدلة و إنما حكميتها من الشارع و أما ان يكون حرف الجر مستقراً بأن يتعلق بمحذوف يكون صفة للأحكام كأن يقدر (المأخوذة أو المستنبطة و المفهومة أو نحو ذلك) فيلزم الحذف و هو لا يجوز لما قرر في محله من ان متعلق حرف الجر لا يصح حذفه إلا إذا كان المقدر الكون أو ما في معناه و لذا قيل الأصل في الظروف اللغوية و هكذا إذا رجع للشرعية لأنه ان كان لغوا فهو لا معنى له إذ شرعية الحكم ليست عن الأدلة. و ان كان مستقراً كان متعلقه المحذوف صفة للشرعية فيلزم الحذف و الفصل بين الصفة و الموصوف باعتبار تخلل الفرعية بينهما. و هكذا إذا رجع للفرعية لأنه ان كان لغواً فلا معنى له إذ لا معنى لفرعية الأحكام عن الأدلة و ان كان مستقراً لزم الحذف.

و استدل بعضهم على رجوع حرف الجر إلى العلم بأن المقصود إخراج علم اللّه تعالى و علم الملائكة و الأنبياء و الأئمة" عليهم السلام" بالأحكام الشرعية الفرعية فإذا علق حرف الجر بالعلم خرجت العلوم المذكورة لكونها ليست علوما عن الأدلة و إنما هي عن الوحي و الإلهام بخلاف ما إذا علق

بالأحكام أو الشرعية أو الفرعية لم تخرج العلوم المذكورة لأنه يصدق عليها إنها علوم بالأحكام التي تؤخذ من الأدلة نعم لو قلنا بأن الوصف يشعر بالعلية كان دالة على ان العلم بها حاصل من الأدلة. و لكن القول المذكور ضعيف.

و لا يخفى ما في هذا الاستدلال فان التعاريف إنما يكون الاخراج فيها للغير بالمعاني الظاهرة من ألفاظ قيودها فان الاخراج فرع المعنى الظاهر من التقييد فلا وجه ان يكون الاخراج سبباً لظهور اللفظ في المعنى و مرجعية القيد. و لو أبدل في التعريف (عن) (بمن) كان أولى و احسن. إلا إن الكتب التي عندي يوجد فيها لفظ (عن).

قيد الأدلة في التعريف (تفسير الدليل)
اشاره

و أما (الأدلة) فهي جمع دليل و هو لغة المرشد و الهادي. و في اصطلاح المنطقيين القول المؤلف من قضايا الذي يلزم منه لذاته قول آخر. و في اصطلاح الأصوليين (ما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري) كالتغير فانه يمكن ان يتوصل بصحيح النظر فيه إلى ان العالم حادث و المراد (بالامكان) هو الامكان العادي و إنما أتي به ليدخل الدليل المسبوق بالعلم، بمدلوله و الدليل المغفول عنه الذي لم يقع فيه النظر أو وقع فيه النظر و لكنه كان غير موصل و يخرج به الدليل على الضروريات فانه لا يتوصل به للمطلوب بحسب العادة و إلا لزم تحصيل الحاصل. و لذا لا يسمى دليلا بحسب الاصطلاح. و المراد (بالتوصل) هو الانتقال العلمي أو الظني لأن الإمارة دليل عند الأصوليين.

في حصول النتيجة من الدليل

و أتوا بلفظ التوصل دون ان يقولوا يلزم كما صنع المنطقيون لأجل انطباق التعريف على سائر المذاهب فان الأشعري يرى ان حصول العلم بالنتيجة من العلم بمقدماتها بحسب جريان العادة فلا يمتنع عقلا تخلّف العلم بالنتيجة عن العلم بمقدماتها و لا استلزام بينهما و إنما اللّه تعالى أجرى العادة بأن يحصل العلم بالنتيجة بعد حصول العلم بمقدماتها بخلاف المعتزلي فانه يرى ان حصول العلم بالنتيجة من العلم بمقدماتها على سبيل التوليد. و الحكماء ذهبوا

باب مدينة العلم، ص: 20

إلى ان حصول العلم بالنتيجة من العلم بالمقدمات على سبيل الافاضة من المبادئ الفياضة لأنهم يرون ان فيضان الممكنات موقوف على استعدادات و بعد حصول الاستعدادات تجب الافاضة فيكون العلم بالمقدمات من المعدات لحصول العلم بالنتيجة بواسطة افاضة المبدأ الفياض له بعد العلم بالمقدمات. و أما المناطقة فيرون ذلك لزوماً و هو الظاهر

من الأصوليين و ينسب لصاحب القوانين" رحمه اللّه" انه أيّد مذهب الأشاعرة بما روي عنهم" عليهم السلام"

ان العلم ليس بكثرة التعليم و التعلم بل هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء

. و لا يخفى ما فيه فانه لعله ناظر إلى العلم بالمقدمات و القذف. كان بواسطتها. و عليه فالتوصل في كلامهم أعم من ان يكون عادياً أو توليدياً أو اعدادياً أو لزومياً لينطبق التعريف على سائر المذاهب و المراد (بصحيح النظر فيه) الدليل المشتمل على الشرائط المعتبرة في دليليته مادة و صورة فيخرج ما ليس بدليل و ان كان موصلًا اتفاقاً. و أما ما كان دليلًا لكن النظر كان فيه فاسداً فهو لا يخرج عن التعريف لأنه في الواقع يتوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب الخبري غاية الأمر انه لم ينظر فيه النظر الصحيح فلا وجه لما تُخُيّل من خروجه. كيف يخرج و قد قسموا الدليل إلى الصحيح و الفاسد.

تعريف النظر

(و المراد بالنظر) هو ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى المجهول و قد تكلمنا فيه مفصلا في كتابنا نقد الآراء المنطقية فراجعه.

(و المراد بالمطلوب الخبري) هو المطلوب التصديقي المسمى بالنتيجة فيخرج بذلك المعرِّف لأنه و ان كان يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب و لكنه ليس بخبري بل تصوري و إنما لم يقيدوا المطلوب بالعلم فيقولون (إلى العلم بالمطلوب الخبري) ليشمل الظن و العلم فان الأدلة الشرعية نوعها أمارات مفيدة للظن.

الفرق بين تفسير الدليل بين الأصوليين و المنطقيين

و الفرق بين تفسير الدليل عند أهل الميزان و بين تفسيره عن الأصوليين ان تعريف الأصوليين لا ينطبق إلا على الحد الأوسط. و هو جزء الدليل عند المنطقيين لأنه جزء من الصغرى و الكبرى اللتين هما بمجموعهما يكونان دليلًا عند المنطقيين لكون الدليل عندهم يكون مؤلفاً من قضايا و أيضاً الدليل عند الأصوليين هو ما يمكن ان يوصل و ان لم يكن بالفعل قد أوصل بخلافه عند المنطقيين فانه ما أوصل فعلا فعند الأول يعتبر إمكان الإيصال و عند الثاني يعتبر فعلية الإيصال و انه عند الأول يكون محلى للنظر و الفكر و عند الثاني هو نفس النظر و الفكر. ثمّ إن الظاهر.

المراد بالأدلة في تعريف الفقه

ان المراد (بالأدلة) المذكورة في تعريف علم الفقه هي الأدلة المستعملة في علم الفقه لتقدم العهد الذهبي بها نظير قولك جاء الملك فانه ظاهر في العهد بملك البلد و ان لم يسبق بينك

باب مدينة العلم، ص: 21

و بين المخاطب عهد خاص في ملك مخصوص لأن الذي في ذهن أهل البلد هو ملكهم فوجود (ال) في الأدلة دليل على إرادة العهد بأدلة هذا العلم لأنه هو الموجود في الذهن و لو كان العهد غير مراد لجُرّدت الأدلة من ال و قيل عن أدلة تفصيلية بل هو ابلغ لأنه لو لم يكن المراد العهد مع وجود ال لكانت الأدلة ظاهرة في الاستغراق لأنه جمع مقترن بأل و هي تقتضي أخذ كل حكم من جميع الأدلة و هو خلاف الظاهر. و عنده لا بد من ارتكاب التأويل فيه من حمله على خصوص أدلة الفقه إذ لم تؤخذ الأحكام الشرعية من غيرها. و ارتكاب خلاف الظاهر معيب في التعاريف التي يقصد منها إيضاح المعرَّف.

فتلخص ان المراد بالأدلة المعنى اللغوي و هو المرشد لأن الفقهاء ليس لهم اصطلاح في الدليل فإذا ورد في كلامهم حمل على معناه المتعارف و هو المعنى اللغوي و أل في (الأدلة) يراد بها العهد للأدلة الفقهية المستعملة في علم الفقه. (و دعوى) ان الأدلة لو كانت ظاهرة في الأدلة المعهودة لكانت ظاهرة في الأدلة الأربعة و هي الكتاب و العقل و الإجماع و السنة بأقسامها الثلاثة من فعل المعصوم أو قوله أو تقريره فيلزم خروج العلم بالأحكام من الشهرة و القياس و الإجماع المنقول. (فاسدة) لأنا لم نقل الأدلة الأربعة المعهودة كما قاله بعضهم و إنما قلنا الأدلة التي تستعمل في علم الفقه فتشمل تلك الأدلة. و بعضهم حذف ال و أضاف الأدلة إلى ضمير الأحكام و لا بد أن تكون الاضافة بمعنى اللام و تكون للاختصاص أي عن الأدلة المختصة بها و تكون الاضافة بنحو التوزيع نظير ركب القوم دوابهم و أكل الحجازيون طعامهم و لبس الجند سلاحهم فان المراد هو التوزيع بمعنى ان كل رجل منهم قد ركب دابته لا أن كل واحد منهم ركب جميع الدواب و هذا المعنى هو المتبادر من مثل هذه التراكيب.

ما يُخرج بقيد عن أدلتها
علم اللّه

(و كيف كان) فقد قيل أو يمكن ان يقال انه يخرج بهذا القيد اعني (عن أدلتها) أمور (منها) انه يخرج به علم اللّه تعالى فانه و ان كان علماً بالأحكام لكنه ليس بحاصل عن الأدلة و مستفاداً منها و (بعبارة أخرى) ان ظاهر قولهم العلم عن الأدلة هو ان يكون العلم حاصلا بطريق النظر و الاستدلال و الانتقال من المبادئ إلى المطالب و الاستنباط من الأدلة. و اللّه تعالى عالم بالأحكام بنحو الانكشاف.

(و قد أورد على

ذلك) بعض أهل التحقيق من ان العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلوم استلزاماً عقلياً. من غير فرق بين اللّه تعالى و بين غيره لاستحالة انفكاك الملزوم عن اللازم. و اللّه تعالى عالم بعلل الأحكام فيكون عالما بالأحكام باعتبار علمه بعللها.

و الأولى ان يقال في تقريب الإشكال ان العلم بالأدلة علة للعلم بمدلولها و اللّه عالم بأدلة الأحكام فيكون عالما بالأحكام باعتبار علمه بادلتها لاستحالة انفكاك العلة عن المعلول فيحتاج إلى إخراج علم اللّه تعالى إلى الالتزام بأن المراد بالعلم عن الأدلة من حيث دليليتها و النظر فيها لا بالخاصية المذكورة (و جوابه) ان (عن) ظاهرة في كون العلم ناشئاً عن الأدلة و لذا (عن) تسمى نشوية و علم اللّه تعالى ليس بناشئ منها بل هو عالم بالأحكام و أدلتها في مرتبة واحدة دون ان يكون بين العلمين ترتب في الوجود و إلا لزم جهله في مرتبة وجود علمه بالدليل (و دعوى) ان المعلول لا يقدر عليه في مرتبة وجود العلة فكذا لا يعلم به في مرتبة العلم بالعلة (فاسدة) لأن عدم تعلق القدرة بالمعلول في مرتبة القدرة على العلة

باب مدينة العلم، ص: 22

ليس فيه نقصاً في قدرة الفاعل العامة بل لعدم قابلية المحل و هو المقدور لتعلق القدرة به في تلك المرتبة بخلاف العلم فان المعلوم يمكن العلم به قبل العلم بعلته كما في دليل الإني.

خروج علم الملائكة عن التعريف

(و منها) خروج علم الملائكة بالأحكام الشرعية فانه لا يسمى فقهاً لأن علمهم لم يكن عن دليل و نظر و فكر و إنما هو بواسطة انكشاف الواقع لهم و هو لا يسمى في العرف دليلا مضافا إلى ما عرفت من ان المراد عن الأدلة المعهودة و هي المستعملة

في علم الفقه و الانكشاف للملائكة ليس منها.

(و أورد على ذلك) بأن هذا مبني على قيام البرهان على فقدانهم للقوة النظرية الاكتسابية و ان كمالاتهم بأجمعها فعلية و أنت خبير بأنه لا سبيل لنا في ادراك ذلك و لا اخبرنا به صادق يحصل العلم بقوله فمن الجائز حصول العلم لهم ببعض الأحكام أو كلها بالنظر إلى بعض الأدلة بنحو المجتهد و الأولى أن يقال أن علمهم لا نحرز انه من الأدلة فلذا لا يمكن أن نجزم بأنه فقه.

خروج علم الأنبياء عن تعريف الفقه

(و منها) خروج علم الأنبياء و الأئمة" عليهم السلام" بنحو ما ذكر في خروج علم الملائكة و يرد عليهم أولا ما أوردناه هناك و يزداد الإيراد بأن المشهور عند الأصوليين ان علم الأنبياء و الأوصياء موقوف على مشيئتهم و عليه فيجوز أن تكون مشيئتهم" عليهم السلام" هو العلم على سبيل النظر كما يظهر من بعض الأخبار الواردة في استفادة الإمام من القرآن و السنة النبوية بعض الأحكام الشرعية استفادة نظرية كسبية لا يقدر عليها إلا العارف بطرق الاستنباط فالحق أن يقال في الجواب ما قلناه في علم الملائكة (و يرد عليهم ثانياً) بأنه أن أريد من الأدلة معناها اللغوي و هو المرشد و الهادي فالعلوم المذكورة داخلة في التعريف لأن الوحي و الإلهام من الأدلة بالمعنى اللغوي و ان أريد معناها الاصطلاحي فعلم المقلد يخرج بها و لا يحتاج لقيد التفصيلية. (و فيه) ان المراد كما عرفت هو الأدلة المعهودة في علم الفقه و الوحي و الإلهام ليس منها على انه يمكن ان يختار الشق الأول و يقال ان الوحي و الإلهام ليس عند أهل اللغة من الأدلة فهما نظير الكشف و الضرورة.

(و يرد عليهم ثالثاً) انه

يصدق على العلوم المذكورة انها علم بأحكام شرعية فرعية حاصلة من أدلة تفصيلية و ان كان حصولها عن الأدلة إنما هو للمجتهدين و ليس في التعريف المذكور ما يدل على تعلق حرف الجر بالعلم حتى يمنع من صدق التعريف على العلوم المذكورة بل احتمال رجوعه للفرعية كاف في الإيراد عليه لأن الاحتمال المذكور يوجب حصول الإيهام و الابهام في التعريف. و فيه ما تقدم منا من ظهور تعلق حرف الجر بالعلم.

خروج علم المقلد من تعريف الفقه

(و منها) خروج علم المقلد لأنه ليس بعلم من الأدلة المعهودة في الفقه و إنما هو علم من قول مرجع التقليد. (و دعوى) انه على هذا يكون قيد التفصيلية زائداً لأنه إنما يخرج به (علم المقلد) (بالكسر) فإذا كان علم المقلد يخرج بالقيد المذكور فلا حاجة لقيد التفصيلية (فاسدة) لما سيجي ء إن شاء اللّه (تعالى) من فائدة قيد التفصيلية. هذا و بعضهم اخرج علم

باب مدينة العلم، ص: 23

المقلد باعتبار ان علمه بالأحكام الشرعية على وجه الضرورة لأن التقليد إنما كان عنده حجة بالضرورة و فيه ان الضرورة هي حجية الدليل و هو التقليد و ضرورة حجية الدليل لا توجب ضرورة المدلول كما في الشكل الأول.

خروج الضروريات عن تعريف علم الفقه

(و منها) خروج العلم بالأحكام الشرعية الفرعية الضرورية لأن العلم بها غير مستفاد من الأدلة بل من الضرورة و هي ليست من الأدلة كيف و العلم بها بمرتبة الضرورة فالقيد المذكور في تعريف الفقه يخرج العلم بالأحكام الضرورية كوجوب الصلاة و الزكاة عن علم الفقه و قد جزم الفقهاء بخروجها و تابعوا في ذلك طريقة الحكماء و المتكلمين لأنهم ذهبوا إلى ان تدوين المسائل البديهية في باب التعليم و التعلم غير مستحسن. مضافا لما عرفت من ان المراد بالأدلة، الأدلة المعهودة في علم الفقه و الضرورة ليست منها.

و أُورد عليه (أولا) المرحوم الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية على المعالم بما حاصله إن الأحكام الضرورية أيضاً مستفادة من الأدلة لأن العلم بالأحكام الشرعية الضرورية يتوقف على أمرين:

(أحدهما) ثبوتها عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" و (الثاني) صدق النبي" صلى اللّه عليه و آله" و حقّية ما جاء به و الذي يعلم في الأحكام الضرورية بالضرورة هو الأول لا

الثاني لتوقفه على ثبوت النبوة و لا ريب ان ثبوت النبوة يتوقف على النظر و الكسب فتكون الأحكام الشرعية بأسرها من غير الضروريات و ما ذكره الفقهاء من خروجها مبني على اشتباهها بسائر الضروريات انتهى.

(و فيه) ان الجهة المبحوث عنها في الفقه هو إثبات نسبة الحكم للشريعة الإسلامية أما ان الشريعة الإسلامية حقة أم لا و ان نبيها" صلى اللّه عليه و آله" صادق أم لا و ان الرواة عنه موثوقون أم لا فهو خارج عن البحث الفقهي و لا ريب ان بعض الأحكام الشرعية إذا كانت ضرورية من هذه الجهة فهي لا تحتاج من هذه الجهة إلى البحث عنها و اقامة الأدلة عليها لوضوح ثبوتها فكانت خارجة عن علم الفقه لعدم قابليتها و صلاحيتها للبحث الذي يكون العلم الحاصل منه فقهاً.

(و ثانيا) ان الأحكام الشرعية ليس شي ء منها بدهياً لا يحتاج إلى دليل لأنها بأسرها سماعية متوقفة على السماع من صاحب الشريعة و وضوح الدليل لا يوجب بداهة المدلول.

(و فيه) ان احتياجها إلى السماع منه" صلى اللّه عليه و آله" لا ينافي ان تكون ضرورية الثبوت في الشريعة بعد ذلك فيستغنى عن البحث عنها و يكون العلم بها ليس من الفقه عند صيرورتها ضرورية.

(و ثالثا) انه على هذا يقتضي ان يخرج ضروري المذهب عن علم الفقه كجواز المتعة و حرمة قول آمين في الصلاة عند الشيعة و نحو ذلك مع انه لا إشكال في كونه من الفقه.

(و فيه) انه لما كان هناك من يخالف في نسبته إلى الشرع وجب البحث عنه لاثبات انه من الشرع لأن جهة البحث كانت موجودة فيه بخلاف ضروري الدين فانه لا خلاف في نسبته للشرع و إنما الخلاف يكون

من باقي الملل في اصل وجود الشرع الإسلامي لا في نسبة هذا الحكم له فجهة البحث غير موجودة فيه.

(و رابعاً) ان الراوي الذي سمع الحكم من النبي" صلى اللّه عليه و آله" مشافهةً يكون ثبوته عن صاحب الشريعة ضرورياً عنده مع ان علمه من الفقه قطعاً.

باب مدينة العلم، ص: 24

(و فيه) ان محل كلامنا فيما يكون ثبوته في الشريعة ضرورياً لا فيما يكون الانتقال إليه ضرورياً فان الأمر الكسبي قد يكون الانتقال إليه ضرورياً و سهلًا من الدليل فيما لو استدل عليه بالشكل الأول و لذا قالوا ان انتاج الشكل الأول بديهي و قد يكون نظرياً كسبياً صعباً فيما لو استدل عليه بالشكل الرابع فكذا ما نحن فيه فانه لو سمع من المعصوم كان الانتقال إليه و الاطلاع على ثبوته سهلًا و لكن لو قام عليه خبر واحد يكون الانتقال إليه صعباً يحتاج إلى مزيد فحص عن الرواة و زيادة بحث عن المعارضات.

خروج العلم بالأحكام القطعية عن التعريف

(و منها) خروج العلم بالأحكام الشرعية الفرعية القطعية عن الفقه و الظاهر من كلماتهم ان مرادهم بالقطعيات هي الأحكام التي أدلتها تفيد القطع بها كالاجماع و الخبر المحفوف بالقرائن و الذي صرح بخروج العلم بها عن الفقه العلامة الحلي" رحمه اللّه" و الشيخ البهائي في زبدته و الفخر الرازي في محصوله. و الظاهر من كلماتهم ان وجه اخراجها من الفقه هو ان الفقه ليس إلا أحكاما اجتهادية و القطعيات لا اجتهاد فيها لأن الاجتهاد استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي. و القطعيات لا يحصل بها الظن بل إنما يحصل بها القطع.

و التحقيق ان القطعيات بالمعنى المذكور ليست بخارجة عن تعريف علم الفقه المذكور لأن العلم بها إنما كان من الأدلة

غاية الأمر إن الأدلة تفيد العلم القطعي بها كما ان الحق ان العلم بها من الفقه و ذلك لأن من أدلة الفقه الإجماع و الخبر المحفوف بالقرائن و المتواتر و نحوها مما يفيد القطع بالحكم و لا زال الفقهاء يستدلون على أحكام الفقه بالأدلة القطعية. مع ان أصحاب النبي" صلى اللّه عليه و آله" و الأئمة" عليهم السلام" يسمون بالفقهاء و هم يحصل لهم القطع بالحكم الشرعي الفرعي لسماعهم له من المعصومين" عليهم السلام" مشافهة مع انا لا نسلم ان الفقه ليس إلا أحكام اجتهادية بل إنما مسائله منها اجتهادية و هي الظنيات و غير اجتهادية و هي القطعيات و لو سلمنا ذلك فنقول ان الاجتهاد لا يعتبر فيه الظن و إنما قيد بالظن باعتبار الغالب أو لبيان المقدار الكافي في تحققه و إلا فلا ريب في ان الأحكام الشرعية التي يمكن أن يحصل العلم فيها لا يجوز الاكتفاء بالظن فيها و قد حررنا ذلك مفصلًا في الجزء الأول من النور الساطع.

خروج العلم بالأحكام عن طريق الكشف و الإلهام

(و منها) خروج العلم بالأحكام الشرعية الفرعية بالإلهام و الكشف و الوحي و المنام و الجفر و الرمل فانه ليس من الفقه وجوه خروج ذلك هو ان المذكورات ليست بأدلة عند العرف و اللغة فلم يكن العلم بالأحكام من طريقها علما بالأحكام عن أدلة مضافا لما عرفت من ان المراد بالأدلة، الأدلة المعهودة في علم الفقه و المذكورات ليست منها و لعل كلمة الفقهاء متفقه على عدم عدّ ذلك من الفقه فالأحكام الثابتة للفقيه لا تثبت للعالم بالأحكام من تلك الطرق كما لا تثبت للمقلد العامي.

باب مدينة العلم، ص: 25

خروج العلم بالأحكام من طريق الظن الانسدادي

(و منها) خروج العلم بالأحكام من الظن الانسدادي لكونه ليس من الأدلة المعهودة في علم الفقه و لا يخفى ما فيه فان الظن من الأدلة الفقهية و لذا عد الفقهاء الاستحسان و القياس و الاستقراء و الأولوية الظنية من الأدلة و إنما فقهاء الشيعة لم يعتبروها.

قيد التفصيلية في التعريف

(و أما التفصيلية) فهي منسوبة إلى التفصيل مصدر (فصّل) بمعنى بيّن ضد أجمل و التاء ألحقت به لكونه وصفا للجمع و هو (الأدلة) فيكون المراد بها الأدلة المبينة للأحكام و الموضحة لها و يقابلها الأدلة المجملة و هي التي تدل على الأحكام إجمالا من دون إيضاح لها كالآيات و الأخبار الدالة على ثبوت الأحكام على المكلفين من دون تعيين لها فانه و ان علم بالأحكام منها لكنها ليست بتفصيلية بل على نحو الإجمال مثل قوله تعالى وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلّٰا رَسُولٌ فإنها تدل على ثبوت الأحكام الشرعية على سبيل الإجمال لأن الرسالة تقتضي تشريع أحكام من اللّه تعالى للمرسل إليهم محمد" صلى اللّه عليه و آله" و نحو ذلك فان العلم بالأحكام من هذه الأدلة لا يسمى فقهاً.

(إن قلت) ان القوم قد جعلوا التفصيلية بمعنى الأدلة المختصة بكل حكم حكم بأن يكون الدليل الدال على حكم غير الدال على الحكم الآخر. و يكون لكل حكم دليل مختص به غير جارٍ في غيره و يقابلها الأدلة الإجمالية بمعنى الأدلة غير المختصة بكل حكم حكم بل تجري في سائر الأحكام بعنوان عام كالدليل الذي يستعمله العامي في سائر الأحكام و هو (هذا ما أفتى به المفتي و كل ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقي) نظير معرفة من في الدار فانه تارة يعرّفهم بأسمائهم و تكون حينئذ معرفة كل

واحد منهم بوجه مختص به و تارة يعرّفهم بأنهم أولاد زيد فتكون معرفتهم على سبيل الإجمال بوجه عام (قلنا) هذا خلاف الظاهر من لفظ التفصيلية فان التفصيل هو التبين لا التخصيص و لو كان المراد (بالتفصيلية) هو ذلك لكان الواجب تقييد الأدلة بالمخصوصة و يكون المقابل لها الأدلة العامة فان المقابلة على ما ذكره القوم تكون بين العموم و الخصوص لا بين البيان و الإجمال مضافا إلى انهم إن أرادوا بكون الدليل مختصاً بالحكم غير جارٍ في حكم آخر هو نوع الدليل كالسنة مثلا فهو باطل لأن السنة تجري في أحكام متعددة و ان أرادوا أفرادها كخبر زرارة الذي قام على الحكم الفلاني فهو صحيح لكنه فتوى المجتهد بالنسبة للعامي أيضاً أفرادها كل واحدة منها مختصة بالحكم الذي دلت عليه و لا تجري في غير الحكم الذي دلت عليه فكما إن أقوال الإمام جعفر الصادق" عليه السلام" أدلة تفصيلية بالمعنى المذكور كذلك أقوال نائبه المجتهد أدلة تفصيلية للعامي بذلك المعنى.

و الحاصل ان الشخص الذي يعلم بالأحكام الشرعية من أقوال الإمام الصادق" عليه السلام" فقط تكون أدلته تفصيلية لكون قول الإمام الصادق" عليه السلام" دليلًا على الحكم الشرعي فكذا العامي إذا علم الأحكام من فتاوي المجتهد الواحد تكون فتاوى ذلك المجتهد أدلة تفصيلية له لكون فتواه دليلًا على حكم العامي.

ما يشكل على تعريف الفقه
اشارة

و حيث قد عرفت المراد بقيود التعريف و ما احتُرِز بها عنه فاليك ما أورد أو يمكن إيراده على التعريف المذكور.

باب مدينة العلم، ص: 26

أول الاشكالات: إشكال أخذ العلم

(أحدها) ان العلم ظاهر في اليقين و حقيقة في الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع. و الأحكام ظاهرة في الأحكام الواقعية فمقتضى التعريف ان يكون علم الفقه هو اليقين بالأحكام الواقعية عن أدلتها مع ان الحاصل منها غالبا هو الظن بالأحكام الواقعية غاية الأمر انه ظن معتبر بل بعضها لا يحصل منه حتى الظن بالحكم الواقعي كالأحكام التي يقام عليها الأصل العملي كالاباحة أو الاستصحاب أو البراءة أو نحوها من القواعد المعمول بها لاثبات الحكم أو نفيه عند الشك بالواقع. توضيح ذلك ان الأدلة على الأحكام في علم الفقه (منها) ما هي ظنية الدلالة و السند كأخبار الآحاد الظاهرة في معناها أو ظنية السند دون الدلالة كأخبار الآحاد الصريحة الدلالة أو ظنية الدلالة دون السند كظواهر الكتاب الشريف و المتواترات اللفظية غير الصريحة دلالة و الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع بصدوره غير الصريح دلالة و الإجماع المتحد المعقد لفظا غير صريح معقده و هذه لا يعقل ان يحصل منها القطع بالحكم الواقعي لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات. و (من الأدلة) ما هي قواعد مقررة للشاك في الحكم الواقعي فالشك مأخوذ في موضوعها فكيف يعقل أن تفيد القطع بما كان الشك به مقوماً لوجودها و إلا لزم عند وجودها ارتفاعها و عليه فإذا أريد في التعريف المعنى الحقيقي (للعلم) و المعنى الظاهري للأحكام لزم خروج اكثر مسائل علم الفقه و ان أريد المعنى المجاز للعلم كأن أريد به الاعتقاد الراجح كما في المعالم أو الظن كما في الزبدة أو أريد بالأحكام

الأعم من الظاهرية و الواقعية لزم المجاز أو ارتكاب خلاف الظاهر بلا قرينة تدل عليه و هو معيب في التعاريف التي يقصد بها بيان ماهيّة المعرَّف و إيضاح حقيقته و تميزها عما عداها. و يزداد هذا الإشكال قوة على من يقول بخروج القطعيات عن علم الفقه. و قد أجيب عن هذا الإشكال بعدة وجوه.

أحدها ما عن غاية المرام ان حمل العلم على الظن احسن الأجوبة عن هذا الإشكال و ان كان مجازاً لكنه مع شيوعه و محفوفيته بالقرينة و هو قوله (عن أدلتها) لأن المراد به الأدلة الظنية. أو إن القرينة على ذلك حالية كما هو المحكي عن الزبدة بدعوى ان الاتفاق قائم على اعتبار الظن في الاجتهاد و هو مقدمة للفقه.

و لا يخفى ما في هذا الجواب فان شيوع هذا المجاز غير ثابت لا سيما في الشرعيات بل المحكي عن الشيرواني" رحمه اللّه" انه لم نجد له استعمالا فيه لم يتطرق إليه احتمال آخر.

(و أما قيد عن أدلتها) فلا يصلح للقرينة على ذلك للزوم الدور فان التعريف يتوقف على معرفته الشروع في العلم و معرفة كون الأدلة ظنية موقوف على الشروع في العلم. على انه قسم من الأدلة تفيد القطع كالاجماع و الخبر الصريح المتواتر أو المحفوف بالقرائن الموجبة لليقين بالصدور أو الكتاب الصريح فالناظر في التعريف يحمل الأدلة على المفيدة للقطع و يخرج الظن بالأحكام من الأدلة الظنية عن علم الفقه.

و إن شئت قلت ان ظهور العلم في اليقين أقوى من ظهور الأدلة في الظنيات لوجود القطعيات فيها و لا اقل من التساوي فيحصل الشك. و لا يصلح للقرينة ما ذكر.

باب مدينة العلم، ص: 27

و أما كون الاجتهاد معتبرا فيه الظن بالحكم

و هو مقدمة للفقه فأيضاً لا يصلح للقرينة لما ذكرناه مفصلًا.

في الجزء الأول من النور الساطع من ان اعتبار الظن في تعريف الاجتهاد كما صرح به غير واحد باعتبار انه الغالب و كفايته عند عدم التمكن من العلم و ليس لأجل أن الاجتهاد لا يصح ان يكون مؤديا للعلم.

ثاني الوجوه التي أجيب بها عن الإشكال المذكور ما عن المنية و الزبدة ان المراد بالعلم بالأحكام العلم بوجوب العمل بها لا بنفسها فلا تخرج الظنيات لأنه أيضاً يجب العمل بها.

و لا يخفى ما فيه فان إرادة ذلك إما بأن يكون مستعملا في العلم بوجوب العمل أو اضمار الوجوب قبل الأحكام أو استعمال الأحكام في وجوب العمل أو ان يقال ان المراد هو العلم بالأحكام من حيث وجوب العمل بها و عدمه لا من حيث ثبوتها في الواقع. و ذلك كله خلاف ظاهر اللفظ مع ان العلم بوجوب العمل بها إنما يستفاد من الأدلة الدالة على حجية الأدلة التفصيلية لا من نفس الأدلة التفصيلية فمثلًا الأدلة التي تدل على وجوب العمل بالأحكام المستفادة من الكتاب هي الأدلة التي دلت على حجية الكتاب و هي من المسائل الأصولية و هكذا الكلام في باقي الأدلة التفصيلية كالسنة و الإجماع و العقل. فالعلم المذكور يكون من المسائل الأصولية.

ثالث الوجوه التي أجيب بها عن الإشكال المذكور هو لا الفقهية ان المراد العلم بمدلول الأدلة بأن يقال ان المراد بالعلم معناه الحقيقي و هو القطع و بالأحكام معناها الحقيقي و لكن مع ملاحظة استفادتها من الأدلة التفصيلية نظير ما قلناه اخيراً في إرادة وجوب العمل فيرجع حاصل التعريف إلى ان الفقه هو معرفة الأحكام الواقعية من حيث كونها مداليل للأدلة التفصيلية لا

من حيث ثبوتها في الواقع.

قال صاحب بدائع الأفكار ميرزا حبيب اللّه (أعلى اللّه مقامه) و هذا أجود وجوه التقصي عن الإشكال المزبور و لا أرى فيه عيبا سوى اعتبار الحيثية المزبورة و أنت خبير بأن ذكر الأدلة التفصيلية مع علمنا باشتمالها على الأدلة الظنية أقوى قرينة على ذلك. و لا يخفى ما في هذا الجواب فان العلم بالأحكام من حيث المدلولية للأدلة قد يحصل للمقلد لا سيما المراهق للاجتهاد بل للمجتهد قبل فحصه فانهما قد يعرفان مدلول الكتاب مع ان علمهما لا يسمى بفقه و ليس بمعتبر لاحتمال وجود الناسخ و المخصص أو المعارض من الكتاب نفسه.

و بعبارة أخرى ان مجرد العلم يكون الحكم مدلول الدليل ليس بفقه بل لا بد من إحراز صدوره و عدم المانع منه و نحو ذلك.

مضافا إلى ان الكثير من مداليل الأدلة التفصيلية ظنية إنما استفيدت منها بواسطة أصالة العموم أو الظهور أو نحو ذلك، مضافا إلى ان العلم بكون الحكم مدلول الدليل ليس يستند إلى الأدلة التفصيلية بل إلى أصالة الحقيقة. و أصالة العموم. و أصالة عدم النقل. و كون الأمر حقيقة في الوجوب. و ان النهي حقيقة في الحرمة. و ان معنى اللفظ هو كذا لغةً. و ان معنى هذا المركب هو كذا و نحو ذلك و هذه الأمور بعضها من علم الأصول و بعضها من علم متن اللغة و بعضها من علوم الفصاحة و بعضها من علم النحو.

رابع الوجوه التي أجيب بها عن الإشكال المذكور هو ان المراد بالأحكام الأعم من الظاهرية و الواقعية باعتبار ان لله تعالى في كل واقعة حكمين واقعي معين لا يختلف

باب مدينة العلم، ص: 28

باختلاف الآراء و يتنجز التكليف به

عند التمكن من تحصيله و حكم ظاهري يختلف باختلاف آراء المجتهدين و انظارهم يجعله الشارع مع الجهل بالواقع و العجز عن تحصيله على طبق ما قام الدليل الشرعي عليه. قالوا ان الواجب على المجتهد ان يصرف سعيه في طلب الحكم الواقعي و يبذل جهده للعلم به و بعد السعي الذي يعذره الشارع فيه فالذي أدى إليه دليله هو حكم اللّه في حقه يجب العمل به أصاب الحكم الواقعي أم لا علم بالإصابة أم لا؟.

و الحاصل ان المراد بالأحكام بالتعريف أعم من الأحكام الواقعية و الظاهرية بأن يريد بها الأحكام الفعلية الثابتة للعبد. و عليه فالفقيه دائما يعلم بالأحكام الشرعية حتى لو كان دليله ظنياً لأن الدليل الظني إذا قام ثبت في حقه حكم ظاهري شرعي على طبق مدلوله.

و بعبارة أخرى ان الأحكام الظاهرية بأجمعها تكون معلومة لأنها عبارة عن مداليل الأدلة و مقتضيات الأصول يجعلها الشارع للمجتهد بعد قيامها عنده. و هو المحكي عن المحقق الشريف و احتمله بعضهم في بعض أجوبة صاحب الزبدة و عليه نزّل ما قاله العلامة الحلي في تهذيبه في المقام من ان ظنية الطريق لا تنافي علمية الحكم فلا يلزم التصويب كما زعمه صاحب المعالم إذ التصويب إنما يلزم لو حمل (الأحكام) على الواقعية دون الفعلية التي هي أعم من الواقعية و الظاهرية.

(إن قلت) ان الفقهاء لا يزالون يخطئون بعضهم بعضا و يقيم كل منهم الأدلة على تخطئة صاحبه و اثبات مطلوبه. و معلوم ان ذلك إنما يكون بالنسبة للحكم الواقعي دون الظاهري لاتفاقهم على تعدده بحسب آراء المجتهدين فلا تكون التخطئة بالنسبة إليه. و لا ريب ان ذلك يقتضي ان يكون محل بحث الفقهاء في الفقه هو الحكم الواقعي

دون الظاهري فلا وجه لحمل الأحكام في تعريفه على الأعم من الظاهري و الواقعي (قلنا) ان البحث في علم الفقه عن الحكم يسمى بالاجتهاد و هذا إنما يكون بالنظر للحكم الواقعي لأنه هو الواجب تحصيله و البحث عنه ثمّ الحاصل بعد البحث و نتيجة البحث يسمى بالفقه فلذا الاجتهاد أخذ في تعريفه الظن دون الفقه لأن نتيجة البحث اما العلم بالحكم الواقعي أو حصول العلم بالحكم المجعول عند الظن به أو الشك به فلذا أخذ في تعريفه العلم. (إن قلت) ان استعمال الحكم في الأعم من الواقعي و الظاهري مجاز و انه حقيقة في الواقعي (قلنا) ليس بمجاز لكون الحكم موضوعا للأعم من الظاهري و الواقعي بدليل صحة تقسيمه إليهما و عدم صحة سلبه عن الظاهري بل الحكم الظاهري نظير الحكم الواقعي الثانوي.

و لا يخفى ما في هذا الجواب فان وجود حكمين واقعي و ظاهري غير مسلم و انه أمر أحدثه بعض الأصوليين من المتأخرين فلا يعقل ان يريده المتقدمون من هذا التعريف لعدم التفاتهم له. مضافا إلى ان الأحكام الظاهرية على القول بها إنما تستفاد من أدلة حجية الإمارة و الأصول لا من أدلة الأحكام الشرعية فان الحكم الظاهري و هو الحرمة في مورد الخبر الذي يدل على حرمة الخمر يستفاد من الدليل على حجية الخبر لا من الخبر المذكور كما اتفقت عليه كلمة القائلين بالحكم الظاهري و عليه فلا تكون الأحكام الظاهرية مستفادة من الأدلة التفصيلية لعلم الفقه كما هو ظاهر التعريف هذا غاية ما يمكن من تقريب هذا الإشكال الأول على تعريف علم الفقه.

و يمكن الجواب عنه بأنه قد تقدم ان المراد بالعلم معناه اللغوي و هو المعرفة و الاطلاع و هو

يصدق على ما يحصل من الأدلة الظنية المعتبرة إلا ترى انه يقال لغة قد عرفت ان هذا

باب مدينة العلم، ص: 29

المال لزيد عند قيام البينة عليه فالذي يحصل من الأدلة الظنية المعتبرة عند قيامها على الحكم الشرعي يسمى علماً عند أهل اللغة حقيقة و لعل سائر العلوم النقلية التي أخذ في تعريفها لفظ العلم شاهدة على ما قلناه.

ثاني الإشكالات على تعريف علم الفقه

ان (الأحكام) جمع محلى باللام حقيقة في العموم و ظاهر فيه فان بقي على ظاهره لزم خروج اكثر الفقهاء ان لم نقل كلهم لعدم علمهم بجميع الأحكام الشرعية الفرعية لأن الفروع لا تقف عند حد بل طالما توقف بعض الفقهاء العظام عن معرفة بعض الأحكام لبعض الفروع و ان أخرجنا لفظ (الأحكام) عن ظاهره و هو العموم و حملنا (ال) على إرادة الجنس فيشمل التعريف العلم بالكل و العلم بالبعض فيلزم دخول علم المقلد إذا عرف بعض الأحكام الشرعية عن الأدلة التفصيلية مع انه في الاصطلاح لا يسمى فقيهاً و لا علمه فقهاً و لعله لهذا الإشكال عرف الآمدي الفقه بالعلم بجملة غالبة من الأحكام على ما حكي عنه و عرفه العلامة في منتهى الأصول بالعلم بأكثر الأحكام الشرعية بالاستدلال على ما حكي عنه" رحمه اللّه".

و أجيب عن هذا الإشكال بعدة أجوبة:

أحدها اختيار الشق الأول و حمل العلم على التهيؤ و الاقتدار و الملكة التي يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام عن أدلتها بأن يكون عند المجتهد من المأخذ و الشرائط ما يكفيه في تحصيل الأحكام بحيث إذا لاحظه و رجع إليه استنبط الحكم الشرعي. و لا يضر التردد و التوقف منه في بعض المسائل لأنه إنما يحصل منه في مقام الاجتهاد لا في مقام

الفقاهة.

و لا يخفى ما في هذا الجواب لما عرفته من ظهور العلم في المعرفة و الاطلاع و حمله على ذلك مجاز لا يصح ارتكابه في التعاريف المقصود منها التوضيح (و دعوى) وجود القرينة على الحمل المذكور و هو عدم وجود فقيه عالم بجميع الأحكام (مدفوعة) بأن ذلك إنما يقتضي التصرف في العلم أو التصرف في الأحكام بحملها على البعض المعتد به فيكون التعريف مجملًا و مردداً بين إرادة التهيؤ للعلم بجميع الأحكام و بين إرادة العلم بالقدر المعتد به من الأحكام و الترديد في التعريف يسقطه عن الاعتبار لعدم وضوح حقيقة المعرَّف به. مضافا إلى لزوم صدق الفقه على الملكة و ان لم يستنبط بها حكما مع انه لا ريب في عدم صدقه على ذلك. ثاني الأجوبة على الإشكال المذكور اختيار الشق الثاني و جعل اللام للجنس و التزام ان المقلد (بالكسر) المذكور مجتهد باعتبار العلم بالمسائل عن الأدلة و مقلد باعتبار تقليده في غيرها و لا يخفى ما في هذا الجواب فان ذلك يقتضي صدق الفقه على من علم بمسالة واحدة عن دليليها لتحقق الجنس بفرد واحد مع ان الكثرة معتبرة في أسامي العلوم و ليست من قبيل أسماء الأجناس الصادقة على القليل و الكثير بل الكثرة المعتبرة في مفهومها كما هو المشهور عندهم مضافا إلى انه خلاف الظاهر لأن اللام كما عرفت إذا دخلت على الجنس تفيد الاستغراق.

(و الحق في الجواب عن هذا الإشكال) بأن اللام للعهد الذهبي باعتبار ما في أذهان الناس من وجود مقدار معتد به من الأحكام عند كل فقيه كقولهم صلى الرجل جماعة خلف

باب مدينة العلم، ص: 30

فلان و جمع الأمير الصاغة و اطعم الجند و هجمت

العساكر على العدو فان اللام في الجميع للعهد الذهبي و هو المقدار الذي يتعارف من الرجال صلاتهم خلف الإمام و المقدار الذي يتعارف من الصاغة جمعهم و من الجند اطعامهم و لعله يريد ما ذكرناه من ذهب إلى ان اللام في الأحكام أو في المسائل أو في القوانين و نحوها مما هو مذكور في تعاريف العلوم هي للاستغراق العرفي و إلا فاللام ليست موضوعة لذلك.

و الحاصل ان اللام في (الأحكام و القوانين و المسائل) و نحو ذلك مما هو مذكور في تعاريف العلوم هي للعهد الذهبي بجملة معتد بها منها كافية في ترتب الثمرة المطلوبة من وضع العلم بحيث يصدق عرفا على العالم بها انه عالم بمسائل ذلك العلم و هو بحسب العادة لا ينفك عن وجود الملكة.

ثالث الاشكالات على التعريف المذكور

ان تفسير الفقه بالعلم بالأحكام لا يجامع ما اشتهر من ان أجزاء العلوم الثلاثة: الموضوعات و المبادئ و المسائل. و هذا الإشكال لا يختص بتعريف الفقه بل يرد على سائر تعاريف العلوم.

و قد أجاب عنه بعضهم ان أسامي العلوم لها اطلاقان.

أحدهما على العلم المدوّن في الكتب.

و ثانيهما على نفس المسائل أو العلم بها. و القضية المشهورة ناظرة للاطلاق الأول و قد اجبنا عن ذلك مفصلا في كتابنا نقد الآراء المنطقية عند الكلام في قولهم حقيقة كل علم مسائله من ان مرادهم بالأجزاء أعم من المقوِّمة و غيرها و المسائل هي الأجزاء المقوِّمة و هي حقيقة العلم و ما عداها أجزاء غير مقوِّمة.

رابع الاشكالات على التعريف المذكور

ان العلم هو القطع المطابق للواقع. و عليه فيخرج عن التعريف القطع بالأحكام المخالفة للواقع مع انه من الفقه (و جوابه) انه مع البناء على التصويب فقطعه من الفقه لأنه علم بالحكم الشرعي و أما مع البناء على عدمه فلا نسلم ان ذلك يسمى فقهاً و إنما يتخيل انه من الفقه و لذا لو اطّلع عليه الغير يرميه بالجهالة بالفقه و الضلالة فيه.

خامس الاشكالات على التعريف المذكور

ان الفقه هو نفس الأحكام العارضة لفعل المكلف لا العلم به و لذا اشتهر ان حقيقة كل علم مسائله و جعلوا أجزاء العلوم ثلاثة و لم يعدوا منها العلم بالمسائل. و إنما عدوا نفس المسائل من الأجزاء. و الفقيه هو العالم بهذه الأحكام فالتعريف لا يكون صحيحاً للفقه.

(و جوابه) ان أسماء العلوم تارة تطلق على نفس القوانين و الأحكام و أخرى تطلق على نفس العلم بتلك القوانين باعتبار ان القوانين أمور عقلية لا موطن لها إلا العقل أو نقل ان المعرَّف هو علم الفقه لا نفس الفقه فانه لو عرّف علم الفقه فلا بد من أخذ العلم في تعريفه لأنه جنسه و إذا عرف نفس الفقه فلا بد أن يعرف بالأحكام و القوانين الشرعية لأنه اسم لها شأن سائر أسماء العلوم.

باب مدينة العلم، ص: 31

علم الفقه صناعة أم علم

الصناعة في العرف العام هي المعرفة لكيفية إيجاد الشي ء فيقال فلان يصنع القلادة يريدون به انه له المعرفة بتكوينها فالصناعة إذا نسبت لشخص عند العامة أرادوا منها ذلك. و في العرف الخاص هي العلم بالقوانين المتعلقة بكيفية إيجاد الشي ء و عمله. و بعبارة أخرى هي العلوم المقصود منها العمل لا مجرد العلم فعلم النحو من العلوم الصناعية لأن المقصود منه كيفية عمل المنطق الصحيح. و علم المنطق من الصناعة لأن المقصود منه كيفية عمل الفكر الصحيح. و علم العقائد من العلوم غير الصناعية لأنه لم يقصد منه إلا مجرد المعرفة. و هكذا علم الفلك. و على هذا فعلم الفقه من العلوم الصناعية إذ كان المقصود منه معرفة كيفية العمل المطلوب للشارع (راجع ما كتبناه في نقد الآراء المنطقية).

البحث في الأصُول العَملية من مسَائل الفقه أو من غيرها

اشارة

ان الأصول العملية و هي التي يرجع إليها عند الشبهة و الشك في الحكم الشرعي مثل أصل البراءة و الاستصحاب و الاشتغال و التخيير يكون البحث فيها تارة في صحة جريانها في الأحكام الكلية كوجوب صلاة العيد أو حرمة شرب التتن. و تارة في صحة جريانها في الأحكام الجزئية كطهارة هذا الثوب المشكوك نجاسته أما البحث فيها من الحيثية الأولى اعني في صحة جريانها في الأحكام الكلية المشكوكة فقد وقع النزاع بينهم في انه يكون بحثاً عن مسألة أصولية أو بحثا عن مسألة كلامية أو بحثاً عن مسألة فقيهة أو لا ربط له بشي ء منها فذهب إلى كل فريق. و تظهر الثمرة في عدم جواز الاعتماد في اعتبارها على الظن أو خبر الواحد على القول بكونها من المسائل الكلامية أو الأصولية بناء على لزوم قيام الدليل القطعي و لا يكفي الدليل الظني على اعتبارها. و جوازه على

القول بكونها من القواعد الفقهية كذا ذكر بعضهم و ان كان غير مستقيم عندنا لان أدلة الاعتبار للظن أو خبر الواحد تشمل مسائل علم الكلام و الأصول إلا إذا كان المسألة يطلب فيها العلم و الاعتقاد كوجوب الواجب و التوحيد و النبوة.

و كيف كان فالتحقيق ان يقال انه لا ريب على القول بكون الأصول العملية من الأحكام العقلية التي يجع إليها عند فقد الدليل على الواقع سواء جعلت من المستقلات كما ذهب جماعة إلى القول بذلك في البراءة و الاحتياط و التخيير و كما حكي القول بذلك في الاستصحاب عن الشهيد" رحمه اللّه" أو من غير المستقلات لا ربط للبحث عنها بعلم الفقه لأن البحث حينئذ عنها اما من قبيل فروع البحث عن التحسين و التقبيح العقليين أو من قبيل فروع البحث عن المفاهيم و الاستلزامات العقلية و معلوم عدم ارتباط شي ء منهما بالقواعد الفقهية.

و كذا الحال بناء على اعتبارها من باب الأخبار على إنها إرشادية تفيد امضاء الحكم العقلي حسبما يستفاد من غير موضع من القوانين. و إنما الإشكال بناء على كونها من الأحكام العقلية هل يكون البحث عنها من المسائل الأصولية أو من توابع علم الكلام فتكون من المبادئ التصديقية لعلم الأصول و منشأ الإشكال هو أن موضوع علم الأصول هل هو ذوات

باب مدينة العلم، ص: 32

الأدلة من حيث هي فتكون البحث عن دليليتها حينئذ بحثا عن عوارضها الذاتية فيدخل في علم الأصول أو هو الأدلة بوصف إنها أدلة فيكون البحث عن دليليتها و حجيتها بحثا عن إثبات اصل الموضوع و وجوده فيخرج عن علم الأصول و يدخل في علم الكلام حيث ان علم الكلام يبحث فيه عن إثبات الواجب و

توحيده و صفاته و أفعاله و عن النبوة و الإمامة و دليلية أقوالهم و أفعالهم و حجتها و ما هي الوظيفة عند فقدها. و معلوم ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات. و ربما يتخيل من انه لو سلمنا ان البحث عن الدليلية من المسائل الأصولية لا يندرج البحث عن الأصول العملية أيضاً في علم الأصول لأن البحث عنها يكون عن نفس وجودها نظير البحث عن المفاهيم فان يكون عن نفس وجودها و تحققها فان البحث عن مفهوم الشرط أو الوصف أو الغاية أو نحوها في الانتفاع عند الانتفاع يكون بحثا عن وجود المفهوم لها لا انه بحث عن حجيته بعد إحراز تحققه فيكون البحث فيها بحثا عن مفاد كان التامة و ليس البحث فيها بحثاً عما يعرض لوجودها من الدليلية و الحجية الذي هو مفاد كان الناقصة فليس البحث عن دليليتها بحثا عن عوارضها بل بحثاً عن وجودها و تحققها و هو ليس من العوارض التي يبحث فيها في العلم. و يدفعه أولا انه منقوض بسائر المسائل التي تذكر في علم الأصول في الأدلة العقلية حتى مسألة التحسين و التنقيح فان البحث عنها إنما هو بحث عن تحققها و إلا فيبعد التحقق لا إشكال في الحجية. و كذا الكلام في الإجماع حيث ان البحث فيه بحث عن تحقق الكشف عن قول الإمام" عليه السلام" و رأيه و إلا فحجيته مسلمة إذا حصل به الكشف. و كذا الكلام في خبر الواحد فانه بحث عن ثبوت السنة بأخبار مخبر واحد بل و كذا البحث عن ظواهر الألفاظ فيما كان البحث عن تحقق الظهور و وجوده كظهور صيغة افعل في الوجوب و لا تفعل في الحرمة و ظهور الشرطية

أو الوصف أو الغاية في الانتفاء لا في الحجية بعد إحراز الظهور.

(و ثانيا) بالحل بأنه لا نسلم ذلك و إنما البحث فيها بحث عن عروض الدليلية لها فحكم العقل بالبراءة و غيرها من الأصول العملية يبحث عن دليليته على الحكم الشرعي.

موضوع علم الأصول

إلا أن ظاهر الأصوليين ان موضوع علم الأصول هي الأدلة بوصف الدليلية لتعبيرهم عن الأربعة بالأدلة لا بأسامي كل منها فلو كان الموضوع ذواتها لكان اللائق ان يقال ان موضوع علم الأصول هو الكتاب و السنة و الإجماع و العقل لا الأدلة الأربعة مع ان غرض الأصولي من البحث عنها هو البحث عنها بوصف دليليتها لإثبات الأحكام لها لا عن ذاتها و إلا لدخل علم البلاغة في علم الأصول لأنه يبحث عن ذاتها من حيث البلاغة كما لا يخفى فيصير البحث عن حجيتها حينئذ من توابع علم الكلام فان علم الكلام ما يبحث فيه عن المبدأ و المعاد و البحث عن المبدأ يقع فيه البحث عن ذات الواجب و صفاته و أفعاله من العدل و انزال الكتب و إرسال الرسل و نصب الحجج و نحو ذلك و يتبعه البحث حينئذ عن حجية قوله تعالى و أقوال رسله و حججه و نحوها.

الحكم بكفر من أنكر مسألة من علم الكلام

و المناقشة فيه بأن البحث عن دليليتها لو كان من علم الكلام لزم لحكم بكفر منكر دليليتها كما هو الشأن في منكر سائر المسائل الكلامية كما حكي عن الفاضل النراقي.

فاسدة جداً لا ينبغي صدورها عن مثله لأن علم الكلام فيه الكثير من المسائل ما لا يلزم من انكارها الكفر.

باب مدينة العلم، ص: 33

و توضيح ذلك ان الحكم بالكفر على منكر مسألة من مسائل علم الكلام إنما يستفاد من الأدلة الخارجية و حينئذ فكل مسألة من مسائله إذا دل الدليل على كفر منكرها نحكم به كما في مسألة إثبات الواجب و توحيده و بعض صفاته و أفعاله و مسألة النبوة و نحوها و كلما لم يقم الدليل فيه على ذلك لم نحكم بذلك فيه

و من المعلوم انه لم يقم دليل على كفر من أنكر حجية تلك الأصول و دليلية تلك الأدلة.

و الحاصل انه بناء على ان موضوع علم الأصول هو الأدلة بما هي أدلة يكون البحث عن دليلية الأصول العملية بل عن دليلية الأدلة الأربعة جميعا بل عن دليلية غيرها من الأدلة المعتبرة عند العامة يكون من المبادئ التصديقية للمسائل الأصولية لا من علم الأصول حيث ان البحث المذكور يكون عن نفس الموضوع للعلم لا عن عوارضه و حيث ان الدليلية للمذكورات لم تبين في علم آخر احتيج إلى بيانها في نفس علم الأصول كأكثر المبادئ التصوّرية و التصديقية لعلم الأصول و لا غائلة فيه.

و ربما يتكلف لإدراج البحث عن دليلية الأدلة في علم الأصول و لو بناء على ان الموضوع هو الدليل المتصف بوصف الدليلية بأن المراد من الأدلة هي الأدلة الواقعية الثابتة دليليتها في نفس الأمر فالبحث عن حجية شي ء في الظاهر بحث عن أحوال الدليل الواقعي من حيث صدقه على المبحوث عنه و عدمه.

و لا يخفى ما فيه من التكلف و البعد بل المنع لأنه مخالف لظواهر كلماتهم و استدلالاتهم بل و عناوينهم و لا ينطبق على البحث عن ظاهر الكتاب و حجية العقل و نحوهما ضرورة ان البحث عنها بحث عن انها هل انها أدلة في الواقع أم لا و أين هو من البحث عن ان الدليل الواقعي يصدق على كل منها فتدبر.

و بالجملة فبناء على كون الموضوع هو الموصوف المتصف بالوصف المذكور لا مناص عن جعل البحث عن دليلية جميع الأدلة من المبادئ التصديقية و لا يقدح الاطناب فيها و كونها حينئذ اكثر من مسائل العلم فان القادح إنما هو كثرة الكلام في

الاستطراديات لا في المبادئ فإنها من جهة توقف التصديق بمسائل العلم على التصديق بها صار البحث فيها كالجزء من العلم. هذا إذا قلنا ان العلم عبارة عن المسائل و أما إذا قلنا ان أجزاء العلوم ثلاثة: الموضوعات و المسائل و المبادئ صار البحث عنها بحثا عن جزء العلم و كيف كان فلا يضر حينئذ اطناب الكلام فيها.

و قد ذكر بعضهم لإثبات كون البحث عن الأصول العملية من علم الأصول بأن موضوع علم الأصول ذوات الأدلة من حيث دليليتها أو عما يعرض لها بعد الدليلية لا ذات الأدلة في نفسها و لا الأدلة بوصف الدليلية و إنما الموضوع هو ذات الأدلة من الحيثية المزبورة و عليه فيكون البحث عن الأصول العملية من المسائل الأصولية لكون البحث عن دليليتها كالبحث عن دليلية سائر الأدلة في علم الأصول داخل في علم الأصول لصدق موضوعه على موضوع مسائلها و انطباق تعريفه على مطالبها بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها حيث ان الأصول العملية مما يستنبط بمعونتها الأحكام فيصدق عليه التعريف المذكور.

و يرد عليه أولا انه إن أراد به ان الموضوع لعلم الأصول عند الأصوليين هو ذلك فهو ظاهر البطلان لما عرفت من أن ظاهرهم كون الموضوع هو الذوات بوصف الدليلية و ان أراد به تجديد اصطلاح من نفسه مخافة خروج البحث عن دليلية الأدلة عن الفن فهو و ان كان

باب مدينة العلم، ص: 34

في نفسه صحيحاً إذ لا مشاحة في الاصطلاح إلا إنا لا نتكلم على اصطلاح جديد بل نتكلم على اصطلاح القوم مع انك قد عرفت انه لا غائلة في جعل تلك المسائل من المبادئ و انه لا يلزم منه محذور بل

جعلها من المبادئ اسهل و أولى من تجديد الاصطلاح بمراتب.

و يرد عليه ثانياً عدم إمكان جعل الموضوع هو ذوات الأدلة من الحيثية المزبورة فان حيثية البحث عن الدليلية يستدعي كون الموضوع هو الذوات و البحث عما يعرضها بعد الدليلية يستدعي كون الموضوع هو ذوات الأدلة بوصف كونها أدلة فان معنى اعتبار الحيثية في الموضوع ان يكون البحث عما يعرض على ذلك الموضوع من هذه الحيثية كالتعارض العارض على ذات الأدلة من حيث الدليلية لا من حيث الذات و معنى كون الموضوع هو الذات ان يكون البحث عما يعرض على نفس الموضوع المجرد عن تلك الحيثية كدليلية الدليل العارضة على الذات فان البحث عنها بحث عن عوارض ذات الدليل فإنها تعرض الذات لذاته لا باعتبار حيثية من الحيثيات و الجمع بين الذات و الحيثية المذكورة جمع بين المتناقضين حيث لا جامع بينهما.

إن قلت يمكن الالتزام بكون موضوع الأصول أمرين مستقلين ذات الأدلة و الذات بوصف الدليلية كما ان الموضوع لعلم النحو أمران الكلمة و الكلام فمثلا.

قلنا انه و ان كان يرفع التناقض إلا انه يرد عليه أولًا ان اللازم حينئذ ان يكون البحث في جميع مسائل علم الأصول عن أحوالها كالبحث في جميع مسائل النحو عن أحوال الكلمة و الكلام لا ان يوزع مسائل العلم عليهما بأن يبحث في شطر منها عن أحوال الذات و في آخر عن أحوال الذات المتصفة بالدليلية فانه يلزم حينئذ ان يكون كل منهما علما مغاير للآخر لتغاير الموضوع فيها قطعاً.

و قد اشتهر بينهم ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات و تمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات و من هنا جعلوا كلا من النحو و الصرف و الاشتقاق و نحوها علما غير الآخر مع

ان الموضوع لجميع العلوم المذكورة هو الكلمة و الكلام لكن مع تغاير الحيثيات و فيما نحن فيه يلزم على ما ذكره الخصم ان يكون الموضوع ذوات الأدلة من حيث ذاتها و ذوات الأدلة من حيث دلالتها.

و يرد عليه ثالثاً انه خلاف الظاهر حيث ان ظاهرهم ان لعلم الأصول موضوعا واحداً كما ان الظاهر منهم كما مر انه الذات بوصف كونها دليلا و لو اسقط قيد الحيثية و جعل الموضوع هو الذات المجردة كما صنعه في الفصول حيث قال ان المراد بالأدلة ذات الأدلة لا هي مع وصف كونها أدلة فكونها أدلة من الأحوال اللاحقة لها فينبغي ان يبحث عنها أيضاً و ان كان لا يرد عليه المحذوران إلا انه يرده ما مر من انه خلاف ظاهره إذا أراد انها كذلك عند الأصوليين و ان أراد الاصطلاح لنفسه دفعاً لمحذور خروج البحث عن دليلية الأدلة عن الفن فيرده انه لا غبار عليه بعد إمكان جعلها من المبادئ التصديقية.

و دعوى انه يزيد الكلام و البحث عنها في الفن عن البحث عن مسائله بكثير.

مدفوعة بأن الزيادة تضر في الاستطراديات لا في المبادئ كما يرد عليه أيضاً اشتراك علم الفصاحة و البلاغة بل و غيرهما من العلوم الادبية معه في الموضوع بالنسبة إلى البحث عن ظاهر الكتاب و السنة فانه يصدق على البحث عنهما من حيث البلاغة و الفصاحة و اللغة و نحو ذلك انه بحث عن عوارض ذات الأدلة فلم يتميز علم الأصول حينئذ عن سائر العلوم بموضوعه بل لم يتميز عن علم الكلام أيضاً لما عرفت من ان البحث عن الدليلية أيضاً من

باب مدينة العلم، ص: 35

توابع علم الكلام فلا يمكن التميز حينئذ إلا باعتبار

الحيثيات حسب ما اشتهر بينهم من ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات و تمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات فيجعل الموضوع لعلم الأصول بحيثية الاستنباط و ان كان أيضاً لا يخلو عن تأمل. و من هنا ظهر ان من اعتبر الحيثية المذكورة من جعل الموضوع ذات الأدلة متحيثاً بحيثية استنباط الأحكام منها إنما اعتبر تلك الحيثية تميزاً للموضوع و ادراجا لمبحث الاجتهاد و الترجيح بناء على انه فعل المجتهد في البحث عن الأدلة لئلا يخل حصر موضوع الأصول في الأدلة أو يخرج عن الفن و يدخل في الاستطراديات كالبحث عن التقليد كما زعمه الفاضل التوني فتفصّى عن خروج البحث عنهما عن الفن (بجعل الموضوع عبارة عن الأدلة و الاجتهاد و الترجيح) فانه بناء على اعتبار الحيثية المذكورة يدخل البحث عن الاجتهاد و الترجيح في علم الأصول مع عدم لزوم الاخلال في الحصر في الأدلة الأربعة ضرورة انه مع أخذ حيثية الاستنباط و اعتبارها يكون البحث عن المستنبط و ما يتعلق به بحثا عن العوارض الذاتية فان الاستنباط و المستنبط و ان كان من الأعراض الغريبة لذات الأدلة لأنها أعراض للمجتهد لا للأدلة إلا انه بعد اعتبار حيثية الاستنباط في الموضوع يصيران من الأعراض الذاتية كما هو واضح فتدبره.

و أما ما تقدم من انطباق التعريف حينئذ عليه و موافقته له ففيه (أولا) انه لا يجدي بعد عدم تحقق التمايز بالموضوع فان كلامهم كان في هذا المقام بناء على ان الميزان التمايز بالموضوع لا الميزان صدق التعريف و غيره كما ينبئ عنه ما اشتهر من ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات. على ان القواعد الممهدة للاستنباط إنما تكون قواعد أصولية فيما كان البحث فيها عن العوارض الذاتية للدليل و إلا فمجرد

كون الغرض من التمهيد الاستنباط مما لا يصلح ان يكون مميزاً.

و أما ثانياً فلأن مفاد التعريف ان يكون علم الأصول عبارة عما يستنبط بمعونته الأحكام الفرعية و قواعدها كما صرح به بعضهم. و يقتضيه تعريف علم الأصول بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الفرعية الشرعية عن أدلتها التفصيلية فيكون البحث عن دليلية ما يستنبط بمعونته الأحكام خارجاً عن علم الأصول قطعاً ضرورة توقف صحة ذلك الاستنباط على ثبوت اعتبار دليليته و المفروض ان علم الأصول هو العلم بذات تلك القاعدة الممهدة من حيث إنها قاعدة ممهدة لا العلم باعتبار تلك القاعدة و دليليتها فيكون البحث عن دليليتها خارجا عن فنّ الأصول و عليه فجعل الموضوع هو الذوات المتحيثة بالحيثية المذكورة لا يوافق التعريف. و أما ثالثا فلأنه ينتقض بجميع القواعد الفقهية الفرعية لأنها ممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية فيقال في قاعدة نفي الحرج المستفاد من قوله تعالى (وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) انها كبرى للحكم بنفي الحرج في الموارد الحرجية الخاصة فيقال الحكم بنجاسة الحديد مثلا موجب للحرج و كلما هو موجب للحرج منفي في الدين فالحكم بنجاسة الحديد منفي في الدين و في قاعدة الطهارة مثلا ان ابن آوى مما شك في طهارته و كلما يشك في طهارته فهو طاهر فابن آوى طاهر و هكذا الكلام في ساير القواعد الفقهية فيلزم ان يكون قاعدتي نفي الحرج و الطهارة و غيرها من المسائل الأصولية بناء على ما ذكر فتأمل هذا كله بناء على اعتبار الأصول العملية من باب العقل و العقلاء.

باب مدينة العلم، ص: 36

الكلام في الأصول العملية بناء على اعتبارها تعبداً

و أما بناء على اعتبارها من باب التعبد من الشارع و قيام الدليل النقلي عليها فذكر بعض

مشايخنا تبعا لبعض مشايخه ان فيه وجهين: (أحدهما) كونها من المسائل الفرعية باعتبار إن التكلم فيها على هذا التقدير إنما هو في صحة الأخبار الدالة عليها سنداً و ظهورها في ذلك دلالة. كالأخبار الناهية عن نقض النقيض بالشك مثلا. و عليه فتكون متعلقة بنفس عمل المكلف بلا واسطة و المسألة الأصولية لا تتعلق بنفس العمل بل يكون بواسطتها معرفة حكم العمل فيكون التكلم في الاستصحاب مثلا عبارة عن التكلم في حرمة نقض اليقين بالشك كالتكلم في كل حكم فرعي كليا كان أم جزئيا كحرمة شرب النبيذ فيكون حال الأصول العملية حال ساير القواعد الفقهية العامة المستفادة من الأخبار كقاعدة نفي الحرج و الضرر في كونها من القواعد الفرعية المتعلقة بالعمل و ان كان ربما يندرج تحت هذه القاعدة مسألة أصولية يجري فيها الاستصحاب كاستصحاب حجية إمارة علم بحجيتها في زمان الحضور مثلا و شك في حجيتها ذلك الزمان فانه لا يمنع ذلك عن كونها من القواعد الفرعية إذ لا دليل على حرمة جريان القاعدة الفرعية في بعض المسائل الأصولية كما ينفى وجوب الفحص عن المخصص أو المعارض بقاعدة الحرج التي لا إشكال في كونها من القواعد الفرعية و الحل ان اجراء القاعدة الفرعية هناك باعتبار كونه بنفسه محلًا للعمل لا يرتاب في كون الحكم الثابت له من تلك الحيثية حكم فرعي و ان يتحقق بجريانه الحكم الأصولي.

و بتوضيح احسن ان مسائل الأصول العملية كالاستصحاب و نحوه من مسائل الفقه لأن موضوع الفقه هو فعل المكلف و موضوع علم الأصول أدلة الفقه فما يبحث فيه عن عوارض أدلة الفقه فهو من المسائل الأصولية. و ما يبحث فيه عن عوارض فعل المكلف فهو من مسائل الفقه و

البحث في الأصول العملية و حجيتها يرجع إلى وجوب العمل ففي الاستصحاب يرجع لوجوب العمل بالحالة السابقة و في البراءة إلى عدم الوجوب أو الحرمة و هكذا الباقي منها.

إن قلت ان النزاع في حجية الاستصحاب كالنزاع في حجية الخبر أو الكتاب أو الإجماع.

قلنا فرق بين المقامين فان حجية الخبر تعرض الحجية لنفس الخبر بالذات و العمل المكلف الدال عليه الخبر بالواسطة و هكذا الباقي بخلاف حجية الاستصحاب فإنها لما كانت عبارة عن وجوب العمل بالحالة السابقة كانت عارضة لنفس عمل المكلف بالذات. بلا واسطة شي ء.

إن قلت ان حجية الاستصحاب أيضاً عارضة لفعل المكلف بواسطة اليقين السابق و الشك اللاحق.

قلنا بعد حجية الاستصحاب لا نحتاج إلا إلى تعيين موضوعه و ما ذكر إنما هو موضوع الاستصحاب و محله و مجراه كما انه يلزم تعيين الموضوع في سائر المسائل الفقهية كما في تعيين موضوع الحج فانا نحتاج إلى تعيين الاستطاعة في محل وجوبه.

(و ثانيهما) كونها من المسائل الأصولية باعتبار وجود خاصة علم الأصول فيها و هو اختصاص اجرائها في الأحكام الكلية بالمجتهد و عدم حظّ للمقلد فيه و لو من جهة قدرته على إحراز موضوعه الذي هو الشك المستقر المتوقف على الفحص عن وجود الدليل في المورد

باب مدينة العلم، ص: 37

و عدم الظفر به فان اختصاص جميع المسائل الأصولية بالمجتهد إنما هو من هذه الجهة و إلا فجميع التكاليف المستفادة من الأدلة مما يشترك فيها المجتهد و المقلد كما هو الحال في زمان الحضور لكن لما كانت التكاليف مشروطة بالقدرة بحكم العقل القاطع و العمل بالحكم الشرعي الأصولي مشروط بشروط لا يقدر العامي على احرازها في هذه الأزمنة و ما شابهها اختص بالقادر على ذلك

و هو المجتهد لا غير فمثلا الاستصحاب سواء قلنا بأنه عبارة عن حكم الشارع بالنهي و حرمة نقض اليقين السابق بالشك اللاحق أو قلنا بأنه عبارة عن ان يكون حكماً شرعياً بوجوب البناء على الحالة السابقة فهو لا يختص بالمجتهد ابتداء و لم يكن مأخوذاً في موضوعه الاجتهاد إلا انه اختص به من جهة العوارض كمعرفة عدم الدليل المعتبر على خلاف الحالة السابقة و عدم المعارض له و نحو ذلك كما إن وجوب العمل بخبر الواحد المستفاد من آية النبأ و غيرها لم يؤخذ في موضوعه المجتهد و إنما اختص به من جهة العوارض كمعرفة صحة السند و عدم المعارض و حجية ظهوره و عدم صدوره تقية و نحو ذلك و لو لم يجعل مدار التمييز بين علمي الأصول و الفقه على ذلك الاختصاص العرضي لصار جميع المسائل الأصولية مسائل فقهية فلا مناص عن جعل المدار على ذلك.

المراد من عدم قدرة العامي على العمل بالمسألة الأصولية

و ليس المراد مما ذكر من عدم قدرة العامي على العمل بالمسألة الأصولية انه لا يتمكن من ذلك قبل استنباطها من أدلتها خاصة فقط بل كما لا يتمكن من ذلك قبل استنباطها لها عن الأدلة كذلك لا يتمكن منه بعد استنباط المجتهد لها من الأدلة أيضاً بمعنى انه لو عرضها المجتهد على العامي بعد استنباطها لم يمكن له العمل بها فلو استنبط المجتهد من آية النبأ و غيرها حجية خبر الواحد و وجوب العمل به مثلا و عرضه على العامي لم يتمكن من العمل به بعد لعدم تمكنه من فهم المراد منه و ان له معارضا أم لا و علاج المعارض على فرض وجوده فهذا كما ترى عجز عن نفس العمل به ضرورة ان تعيين المراد و

المعنى و دفع المعارض غير مأخوذ في اصل الحجية بل هو مأخوذ في العمل به فعلا و العامي غير متمكن منه كما عرفت.

و كذا الحال في الأصول العملية فانه لو فرض قطعية دلالة الأخبار عليها فلا يتمكن العامي من العمل بها أيضاً لعجزه عن إحراز الموضوع و هو الشك المستقر الذي لم يتحقق إلا بعد الفحص عن وجود الدليل و عدم العثور عليه. و لا ريب إن هذا ليس عجزاً عن إثبات دلالة الأخبار على اعتبار الأصول العملية و لا دخل له به بل هو عجز عن نفس العمل بعد الاستنباط و هذا بخلاف المسائل الفرعية فانه لو استنبط المجتهد وجوب الفاتحة مثلا من قوله" صلى اللّه عليه و آله" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب و عرضه على العامي يتمكن من العمل به بلا إشكال.

و الحاصل ان كل حكم يتمكن العامي من العمل به بعد الاستنباط فهو من المسائل الفرعية و كل حكم لا يتمكن من العمل به و لو بعد الاستنباط فهو من المسائل الأصولية و قد عرفت ان الأصول العملية من قبل الثاني لا الأول.

و أما ما ربما يقال من إن الميزان المذكور و ان كان يتم بالنسبة إلى مسألة حجية خبر الواحد و نحوها إلا انه لا يتم في الأصول العملية فإنها ليست إلا في مرتبة المدلول و المعنى و ليست بشي ء مع قطع النظر عن الأخبار بخلاف خبر الواحد و نحوه فان له مع الغض عن آية النبأ و نحوها تحققا و موضوعا في الخارج فتكون هناك أمور ثلاثة نفس الخبر و الدليل

باب مدينة العلم، ص: 38

الدال على اعتباره و الحكم الفرعي المستنبط منه بخلاف الأصول العملية فلا يتحقق

فيها إلا قسمان الأخبار أو غيرها من الأدلة و الحكم الشرعي المستفاد منها، فلا يكون هناك أمر ثالث قائم بنفسه يكون أصلًا عملياً يدل على حكم شرعي فرعي فيلزم اتحاد الدليل و المدلول.

فمدفوع بأن أدلة الأصول العملية لها اعتباران فبملاحظة دلالتها على قاعدة كلية سارية في جميع الموارد يسمى دليلًا و هذه الكلية المستفاد منها تسمى أصلًا عملياً يستنبط بمعونتها الأحكام الفرعية في الموارد المخصوصة فتكون هناك أيضاً أمور ثلاثة نفس الأصل العملي و هو الكلية المستفادة و هو نظير الخبر الواحد. و الدليل الدال عليه و هو الأخبار و هي نظير آية النبأ بالنسبة إلى الخبر الواحد و الحكم المستنبط بها نظير الحكم المستنبط من الخبر الواحد و إلى ذلك أشار بعض السادة الأعاظم بقوله و ليس عموم لا تنقض اليقين بالشك بالقياس إلى أفراد الاستصحاب و جزئياته إلا كعموم آية النبأ بالقياس إلى الأخبار الآحاد انتهى. و الحاصل انها بملاحظة إنها بمرتبة المدلول و المعنى و انطباقها على عمل المكلف في الموارد الخاصة يكون مدلولا و يصح أن يعد من القواعد الفقهية و هذا المقدار الذي ذكرناه من اعتبار الحيثية يكفي في التغاير بينهما دليلا و مدلولا.

إشكال صاحب الفصول و جوابه

و نظير ذلك إشكالا و جواباً ما في الفصول من الإشكال في عدّ الدليل العقلي دليلًا فان الدليل العقلي عبارة عن المفردات العقلية كالاستصحاب و اصل البراءة و المسائل عبارة عن إثبات حجيتها و وجوب العمل بها فلا محذور. و ما ربما يستشكل أيضاً بمنع كون ما ذكر أي اختصاصها بالمجتهد ميزانا لجعلها من المسائل الأصولية كيف و إلا يلزم الحكم بدخول جملة من المسائل الفقهية في علم الأصول فإنها مما لا ينتفع بها غير المجتهد

كمسائل القضاء و الحدود و نحوهما و قاعدة الطهارة و الحلية في الشبهات الحكمية و نحوها أما الأولان فلكونهما من وظيفة المجتهد و أما الباقي فلعدم تمكن العامي من العمل بها لعجزه عن إحراز الموضوع و هو الشك المستقر فيها مع ان شيئاً منها ليس من المسائل الأصولية.

و يمكن دفعه بأن التكليف في الأوليين قد اختص في اصل الشرع بالنبي" صلى اللّه عليه و آله" و الوصي" عليه السلام" و نوّابهما فلا يكون وظيفة لغيرهما في اصل الجعل الشرعي حتى في زمان الحضور فيكون كالتكاليف المختصة بطائفة دون طائفة و كالتكاليف المختصة بالرجال أو بالنساء و مثل ذلك مما لا معنى للنقض به كما هو واضح و أما أصالة الطهارة و الحلية فمرجعهما إلى البراءة و الإباحة و قد عرفت ان البحث فيهما من علم الأصول للخاصية المذكورة.

و ربما يلتزم بدخولهما في الفقه لوجهين أحدهما ان نفس الطهارة و الحلية من الأحكام الفرعية و ثانيهما اختصاصهما بأشياء خاصة من غير ان يكون لهما جهة عموم في جميع الأشياء.

و يمكن ان يقال ان الالتزام بكل من هذين الوجهين مؤكد للنقض فانه مع كونهما من الفقه لاحظ للعامي فيها و لو بعد الاستنباط من الأدلة لعجزه عن إحراز الموضوع فيهما و هو الشك المستقر كما عرفت فتدبر أو لأن هذا الميزان إنما يجعل ميزاناً بعد عدم إمكان التمييز بالموضوع و مقتضى ميزان الموضوع كون القاعدتين من الفروع فلا عبرة حينئذ بميزان الخواص فتدبر.

باب مدينة العلم، ص: 39

في أن للمسألة الأصولية وصفاً هيولانياً

و قال بعضهم ان لمسألة الأصول العملية وصفاً هيولانيا قابلًا للاندراج تحت مسائل علم الأصول و علم الفقه و علم الكلام و يختلف ذلك باختلاف غرض المعنون و قال

في توضيحه إن الأمر بالعمل بشي ء يتصور على وجوه ثلاثة ...

(أحدها) ان يراد به تطبيق العمل على ذلك الشي ء من الحركة و السكون و الاجتماع و الافتراق و بعبارة أخرى يراد به عمل الجوارح و ذلك كالأمر بعمل الصلاة و الزكاة و الصوم و النكاح و البيع و أمثال ذلك من العبادات البدنية و المعاملات حيث ان المراد من العمل بجميع ذلك هو ايجادها في الخارج بعمل الجوارح حركة و سكونا اجتماعا و افتراقا فيكون ذلك من المسائل الفقهية المتعلقة بالعمل بلا واسطة.

(و ثانيها) ان يراد به الأخذ به و جعله دليلا و حجة و يستعان بها لاستنباط الأحكام الشرعية و هذا في الحقيقة تعليم و إرشاد إلى مدرك الحكم و طريق استنباطه كالأمر بالعمل بخبر الواحد و امثاله من الأدلة فان الأمر بالعمل به إنما يراد به الإرشاد إلى استنباط الفروع منه الفقهية و معلوم ان العمل بذلك اي العمل بالصلاة و نحوها فهذا يكون من المسائل الأصولية بلا إشكال لعدم تعلقه بالعمل بلا واسطة بل بواسطة تعلق مدلوله بالعمل بعد الاستنباط.

(و ثالثها) ان يراد به معنى هيولاني قابل لأن يراد به أخذ المعنيين الأوليين و ان يراد به معنى ثالثاً و هو الاعتقاد بذلك الشي ء و ذلك كالأمر بقاعدة نفي الحرج مثلا فانه قابل للاندراج في مسائل أحد العلوم الثلاثة و يتشخص كل عن الآخر بقصد المعنون و الكاشف عنه عنوانه في أحد العلوم فان عنون في علم الأصول فيصير ذلك قرينة على إن المقصود تعليم مدرك الحكم و إرشاد طريق الاستنباط فان البحث فيها حينئذ إنما هو ليتوصل بها إلى إثبات حجية خبر الواحد أو الظن المطلق أو عدم وجوب الفحص إذا

أدى إلى الحرج فيقال انه لو وجب تحصيل القطع بالأحكام أو بعدم المعارض أو الاحتياط لزم الحرج و هو منفي في الدين فيجوز العمل بخبر الواحد الظني أو الظن المطلق فيتولد من البحث عن مسألة أصولية و هو حجية الخبر أو الظن المطلق فتصير تلك القاعدة إما من مسائل الأصول أو من المبادئ التصديقية له من حيث ان التصديق بالخبر أو بالظن المطلق يتوقف على التصديق بها و حيث لم تتبين في علم آخر فتبين في علم الأصول و ان عنون في الفقه فيصير ذلك قرينة على ان المقصود تطبيق العمل عليها فالبحث عنها حينئذ إنما هو لبيان طريق عمل المكلف و انه إذا عسر عليه الوضوء ينفيه عملا بتلك القاعدة فيتيمّم أو يحكم بوجوب التيمم الذي يتعلق بالعمل بلا واسطة فيكون من مسائل الفقه و إذا عنون في الكلام يصير ذلك قرينة على إرادة بيان وجوب الاعتقاد فالبحث عنها إنما هو لإثبات كفاية الاعتقاد الظني لو أدى تحصيل الاعتقاد القطعي إلى الحرج فيكون من مبادئ علم الكلام و كذلك الكلام في قاعدة نفي الضرر بل و يطرد الحكم إلى البراءة و الاشتغال و التخيير و الاستصحاب بتقريب انه إن عنونت في الأصول فيكون من علم الأصول لأن الغرض من عنوانها بيان طريق الاستنباط و تعليم انه من جملة مدارك الحكم و مما يمكن ان تستنبط به أحكام كثيرة و ان عنونت في الفقه فالمقصود منه بيان تطبيق العمل من الحركات و السكنات عليها إذ المراد منها حينئذ بيان الأحكام الفرعية و ان عنونت في الكلام فالمراد بها بيان لزوم الاعتقاد بنبوة النبي السابق حتى يثبت خلافه فتكون من مبادئ علم الكلام فالأصول العملية سواء

قلنا باعتبارها من باب العقل أو

باب مدينة العلم، ص: 40

من باب التعبد لها حيثيات و اعتبارات يصح ان تجعل بلحاظ كل منها موضوعا لعلم غير ما تجعل بلحاظه موضوعا لعلم آخر و هذا مما لا غرو فيه أ لا ترى ان الكلمة و الكلام يبحث عنهما في علم النحو من حيث الأعراب و البناء و في علم الاشتقاق من حيث التكلم عن المشتق و المشتق منه و في علم الصرف من حيث التكلم في الابنية و الاعلال و في علم المعاني و البيان و البديع من حيث التكلم في الفصاحة و البلاغة و محسنات الكلام إلى غير ذلك و بذلك البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم بعد بيان الوجه في كون الاستصحاب قاعدة فقهية من انه ربما يندرج تحت هذه القاعدة الفقهية مسألة أصولية يجري فيها الاستصحاب قاصداً به ان الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية الفرعية التي محل الكلام و ان كان مقتضى هذا الوجه كونه من القواعد الفقهية إلا انه ربما يندرج فيها الاستصحاب الجاري في باب الألفاظ الذي لا خلاف في كونه من المسائل الأصولية كاستصحاب العموم و الاطلاق و بقاء المعنى اللغوي و استصحاب عدم المعارض للدليل الشرعي و نحو ذلك و يحتمل ان يرد بالاستصحاب المندرج استصحاب حجية ما علم حجيته في زمان الحضور لو شك في حجيته في زمان الغيبة.

و وجه الضعف انه بناء على ما تقدم من ان له معنى هيولانياً لا معنى للاندراج المذكور بل هو في حال كونه من المسائل الفقهية بالاعتبار المذكور يكون من المسائل الأصولية بالاعتبار الآخر و كل منهما مباين للآخر لتغاير الاعتبار و لا يتفاوت الحال في ذلك بين كون المورد

و المجرى من المسائل الفرعية و بين كونه من المسائل الأصولية. و من هنا يظهر ضعف ما ذكره النراقي من انه إن جرى في المسائل الفقهية فهو منها و ان جرى في الأصولية فهو منها و ذلك لما عرفته من انه ان لوحظ باعتبار الاستنباط فهو من الأصول جرى في المسائل الفقهية أو في المسائل الأصولية و ان لوحظ باعتبار تطبيق العمل عليه فهو من الفقه جرى في المسائل الأصولية أو في المسائل الفقهية فالنسبة بين النراقي و بين ما حققه ذلك البعض عموم من وجه فما ربما يتخيل رجوعهما إلى قول واحد واضح الفساد و ان كانا متشاركين في الضعف و عدم قيام بينة و لا شاهد على اعتبار هذه الاعتبارات و الحيثيات في المقام و لا يساعد عليه كلام أحد من الأعلام فالأقوى إذن عده من المسائل الأصولية بناء على ان الموضوع هو ذات الأدلة أو من المبادئ التصديقية له مطلقا بناء على ان الموضوع لعلم الأصول هو الموصوف مع الوصف أي الدليل بما هو دليل و لعله الأظهر.

البحث عن حجية الاستصحاب في الألفاظ

بقي هنا شي ء و هو انه هل يكون البحث عن حجية الاستصحاب في الألفاظ لإثبات وضعها سواء كان في الموضوعات المستنبطة كأصالة عدم النقل و الاشتراك أو في الموضوعات الصرفة من علم الأصول لأنه بحث عن الحجية فانه يبحث فيه عن ان الاستصحاب بناء على اعتباره من باب الظن الخاص و الأخبار يكون حجة في الموضوعات المستنبطة فلو شك في كون لفظ منقولا أو مشتركا فينفي بأصالة العدم و مثله الكلام في الاستصحاب الجاري لإثبات المرادات كأصالة عدم التخصيص و التقييد و عدم القرينة و نحو ذلك فان البحث فيها بحث عن الحجية و

قد يبطل حجية تلك الاستصحابات لأنها من الأصول المثبتة التي لا تعتبر بناء على اعتبارها من باب التعبد و الأخبار أو ان حجيتها ثابتة معتبرة بناء على اعتبارها من باب الظن و الحق ان

باب مدينة العلم، ص: 41

اعتبارها من باب بناء العقلاء عليها لا من باب الاستصحاب حتى يفصل ذلك التفصيل فيها و انها من مباحث الألفاظ في علم الأصول.

الأصول العملية الجارية في الأحكام الجزئية

و أما الأصول العملية الجارية في الأحكام الجزئية و الموضوعات الخارجية.

فالظاهر كما اعترف به جماعة من الأجلة ان البحث فيها من المسائل الفقهية سواء جعل مدركها العقل أو الأخبار لأنه على الثاني أي إذا كان مدركها الأخبار يكون البحث عنها كالبحث عن سائر القواعد الكلية الجارية في الشبهات الموضوعية كأصالة الطهارة و عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ أو بعد تجاوز المحل و أما على الأول اعني إذا كان مدركها العقل يكون البحث عنها كالبحث عن سائر الإمارات كيد المسلمين و سوقهم و الغلبة و البينة و غير ذلك و السّر في جعله من المسائل الفقهية في تلك الصورة على كل من الوجهين هو وجود خاصة الفقه فيه و صدقها عليه و هو اشتراك المفتي و المستفتي في التمسك به بعد تنقيحه و ثبوت حجيته و من المعلوم انه يجوز للمستفتي بعد ثبوت حجيتها التمسك بها مثلا يصح للمستفتي ان يتمسك باستصحاب حيوية زيد و بقاء رطوبة الثوب و براءة ذمته من وجوب الصلاة عليه عند الشك في الكسوف و نحو ذلك و هذا بخلاف المسألة الأصولية. فإنها مما لاحظ للمقلد في التمسك بها لكنه مع ذلك لا يخلو عن تأمل نظراً إلى انه من المستبعد جداً اختلاف مسائل الأصول العملية مع وحدة معناها

و وحدة دليلها عقلا أو نقلا في الاندراج تحت أحد العلمين لسبب اختلاف موردها و ذلك لوضوح ان اختلاف المورد مما لا ربط له بذلك سواء جرت في الأحكام الكلية أو في الموضوعات الجزئية كما إن الدليل عليها على أي تقدير هو العقل أو النقل لم يختلف بين الموردين و على هذا فكيف يدعي اختلافها لسبب اختلاف المورد في الاندراج في أحد العلمين فيحتاج إلى عنوانه و البحث عنه في كل من العلمين مع انه ليس له إلا معنى واحد و ليس له إلا دليل واحد أ لا ترى أن البحث عن حجية خبر الواحد من المسائل الأصولية سواء كان في الأحكام أو في الموضوعات مع استدلالهم بآية النبأ على حجيته مطلقاً فتأمل.

و الحاصل ان عندهم للأصول العملية جهتين من الكلام (إحداهما) في الحجية من حيث هي و هذه الجهة قد عرفت ان لها عنواناً واحداً كما إن لها معنى واحداً و دليلا واحدا لا نظر له إلى المورد و المجرى و هذه الجهة هي التي يتكلم فيها من حيث الاندراج في علم الفقه أو في علم الأصول. و أخرى في مجرى من انه أما أحكام كلية أو موضوعات جزئية و من المعلوم ان اختلاف المورد و المجرى لا يوجب اختلافه اندراجا في أحد العلمين فالحق انه من علم واحد و لا يضر اختلاف المورد.

الأصول العملية الجارية في المسألة الأصولية

و أما الأصول العملية الجارية في المسألة الأصولية كاستصحاب العموم فيما لو شك في التخصيص أو حجيته بعد العلم الإجمالي بالمخصص كما عن بعضهم التمسك به فلا إشكال في كونه تابعا له في الحكم و كونه من المسائل الأصولية و لو على القول باعتباره من باب الأخبار إذ لا ربط

لها بالفروع الفقهية و لا حجية و لا مجرى.

باب مدينة العلم، ص: 42

مراتب الفقه

الاجتهاد- الإفتاء- القضاء- النيابة عن الإمام في تدبير شئون الرعيّة
اشارة

ان الفقيه له مراتب أربعة:

الأولى الاجتهاد: و هو ملكة استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و بهذه المرتبة يترقى من حضيض التقليد إلى درجة الاجتهاد و يسمى بهذه المرتبة مجتهدا.

و الثانية مرتبة الفتيا: و هي أخباره عن أحكام اللّه الشرعية بما يجده في أدلتها التفصيلية مثل قوله الصلاة واجبة و سجدة السهو واجبة و الخلو بالأجنبية مكروه و الغيبة حرام و نحو ذلك مما هو مشحون به كتب الفتاوى كالرسائل العملية و نحوها و يسمى بهذه المرتبة مفتي.

و الثالثة مرتبة القضاء: و هو إنشاء و إلزام بما تقتضيه الأسباب الشرعية مثل الإلزام بأداء الدين و فسخ النكاح أو ثبوت الملك و نحو ذلك و يسمى بهذه المرتبة قاضي. و توضيح يطلب مما ذكرناه في القضاء. و الرابعة مرتبة النيابة عن الإمام في الزعامة و السلطنة على الأمور: و هي مرتبة تدبيره شئون الرعية الدنيوية و الأخروية و تفويض السياسة العامة و رعايته للمصالح و دفعه للمفاسد و قمع الجناة و قتل الطغاة و حفظ الثغور و يسمى بهذه المرتبة حاكم الشرع و المرجع الديني.

و من هنا يظهر لك ان النبي" صلى اللّه عليه و آله" و الأئمة" عليهم السلام" ما صدر منهم بمقتضى امامتهم لا يجوز لأحد الاقدام عليه إلا إذا ثبتت له الإمامة أو النيابة العامة. و ما صدر منهم بعنوان انه حكم اللّه تعالى فيعمل به كل أحد عند تحقق موضوعه فقوله" صلى اللّه عليه و آله" (من احيا ارضا فهي له) أو قولهم" عليهم السلام" (ما كان لنا فهو لشيعتنا) ان كان بمقتضى امامتهم فلا يجوز لأحد ان

يحيي ارضاً إلا بإذن إمام عصره أو نائبه و لا ان يأخذ من مال الإمام إلا بإذن إمام عصره أو نائبه و ان كان بمقتضى انه حكم اللّه تعالى قد بينه لعباده. جاز ذلك لكل أحد و لا حاجة ان يستأذن من إمام عصره أو نائبه.

الفرق بين المجتهد و المفتي و المرجع الديني

ثمّ انه قد تداول بين الفقهاء استعمال لفظ المجتهد. و الفقيه. و المفتي و المرجع الديني و الزعيم الديني و الفرق بينها واضح فان من تعلم علم الفقه باعتبار انه يعمل بالأدلة الظنية المعتبرة الدالة على الحكم الواقعي يسمى مجتهداً لأن الاجتهاد استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي الفرعي. و باعتبار انه يعلم بالأحكام الشرعية الفرعية الظاهرية عن أدلتها التفصيلية يطلق عليه الفقيه. لأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية فظهر من هذا انه لا يصح إطلاق المجتهد بالقياس إلى الأحكام الظاهرية لأنه عالم بها على سبيل اليقين. و لا يصح إطلاق الفقيه عليه بالنسبة إلى الأحكام الواقعية لأنه منسدّ باب العلم بها إلا إذا علم بها و باعتبار انه يفتي و يخبر عن حكم الواقعة و يسمى مفتياً و باعتبار انه يرفع الخصومة بحكمه يسمى قاضياً و حاكماً و باعتبار انه يتولى شئون المسلمين في أمور الدنيا و الدين و يسمى إماماً و مرجعاً دينياً و زعيماً روحياً.

باب مدينة العلم، ص: 43

الفقه المقَارن

قد شاع في هذا الوقت التعبير بعلم الفقه المقارن و يراد به هو العلم بالآراء المختلفة في حكم المسألة الشرعية و دليل كل رأي فيه و بيان ما هو الحق منها بالبرهان و عند المتقدمين يعبرون عنه بعلم الخلاف أو الخلافيات و لا ريب في ان الاطلاع على الآراء المختلفة في المسألة الواحدة مع معرفة المصدر لكل منها يكسب الإنسان بصيرة فيها و قد قلت في عدة مناسبات ان الحقيقة لا زالت تبرق و تظهر من تصادم الأفكار و عن كتاب القضاء عن المبسوط للشيخ الطوسي" رحمه اللّه" عند ذكره للعلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد ما لفظه (و أما

الخلاف فهو متداول بين الفقهاء يعرفونه حتى أصاغرهم انتهى) ثمّ إن البحث في ذلك على أنواع ثلاثة:

أحدها أن يكون خاصاً في آراء الفقهاء لمذهب واحد كأن يقتصر فيه على بيان الآراء في الحكم الشرعي للمسألة الفقهية للمذهب الجعفري فقط أو المالكي فقط.

ثانيها ان يكون عاما للمذاهب الإسلامية الأخرى بأن يتعرض فيه لمذاهب أخرى غير مذهب امامه و الكتب التي إلفت عندنا من قديم الدهر في هذا الموضوع و ان كانت كثيرة جدا بل لعل كل كتاب فقهي استدلالي لا يخلو البحث في بعض مسائله عن ذلك إلا أن أهمها كتاب الخلاف للشيخ الطوسي" رحمه اللّه" المتوفي سنة 460 ه. المطبوع عدة طبعات في إيران و الظاهر انه أول كتاب ألف في هذا الموضوع للامامية. و كتاب المختلف للعلامة الحلي المتوفي سنة 726 ه المطبوع في إيران إلا إن احسنها و اوسعها مؤلفه التذكرة المطبوع في إيران و في النجف الأشرف بعض أجزائها. و نجد ذلك في كتاب الإمام الشافعي (ألام) و كتاب الإمام الطبري (اختلاف الفقهاء) و البيهقي في كتابه (الخلافيات). ثالثها ان يكون البحث في المسألة الفقهية عن الحكم الشرعي و مقارنته بالقانون المدني فيها و مقدار مخالفته و موافقته له و بيان ما تقتضيه المصلحة العامة و متطلبات الحياة و قد تكفلت بهذا البحث كليات الحقوق و يقال ان أول من اقترح دراسة الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية في كلية الشريعة الإسلامية في الأزهر في الدراسة للسنة الرابعة هو الشيخ المراغي" رحمه اللّه" و لنا معه بعض المطارحات في التفسير و جوابه عليها و جوابنا عليه نشرتها الصحف و طبعت في ضمن نظرات و تأملات. و ما بين النجف الأزهر.

أقسام الفقهاء

ينقسم الفقهاء إلى

عدة اصناف

باب مدينة العلم، ص: 44

الأول الفقهاء الصحابيون: و هم من لقي رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و آمنوا به و لازموه حتى عرَّفوا بالفقهاء و أما من عاصر الرسول" صلى اللّه عليه و آله" و لم يلقه فلا يسمى صحابياً حتى لو كان فقيهاً و انما يعتبر من التابعين إلا إن الكثير منهم انصرف إلى أمر معاشه عن الاشتغال بالفقه و منهم من لم تتوفر فيه القريحة الفقهية و ذكر أرباب السير أن منهم المكثر في الفتوى كالامام علي" عليه السلام" و زيد بن ثابت و عبد اللّه بن عباس و عبد اللّه بن عمر و منهم المقل في الفتوى كالامام الحسن" عليه السلام" و أبي عبيدة الجراح و منهم المتوسط في الفتوى كأبي بكر و انس بن مالك و أبي سعيد الخدري و كانوا كلهم في المدينة المنورة ثمّ تفرقوا بعد التوسع في الفتح و اسناد الولاية و القضاء إليهم.

الثاني ما يسمى بالفقهاء التابعين: و هم من لقي الصحابة واخذ منهم و عصرهم متداخل في عصر الصحابيين و العصر الذي انفردوا به عن الصحابيين قصير جدا قيل و كان نهايته قبل نهاية دولة بني أمية.

الثالث ما يسمى بالفقهاء الأرأيتيين مفردة (أرأتي) نسبة إلى (أ رأيت): و هم الفقهاء الذين يبحثون في مسائل فرضية يستبعد حدوثها و يحكمون فيها بحسب رأيهم فيقولون (أ رأيت لو كان الأمر كذا فما كان الحكم) و قد كثر إطلاق هذا اللفظ على فقهاء العراق من أهل الرأي.

الرابع ما يسمى بالفقهاء الواقعيين: و هم الذين يقصرون الفتوى على المسائل الواقعية و هي التي اشتملت على ذكرها الآيات القرآنية أو السنة.

الخامس ما يسمى بالفقهاء المتقدمين: و

هم الفقهاء الذين كانوا قبل سقوط بغداد بيد المغول سنة 656 ه اعني ما كانوا قبل منتصف القرن السابع.

السادس ما يسمى بالفقهاء المتأخرين: و هم الذين كانوا بعد سقوط بغداد سنة 656 ه حتى اليوم.

السابع ما يسمى بالفقهاء المعاصرين: و هم من أدرك المتكلم أو المؤلف زمانه فان ذلك المتكلم أو المؤلف يحق له ان يعبر عن الفقيه الذي في زمانه بالمعاصر.

الثامن ما يسمى بالفقهاء المطلقين: و الفقيه المطلق هو الذي له ملكة الاجتهاد في جميع مسائل الفقه و قد يطلق على من رجع في استنباط الأحكام الشرعية للأدلة التفصيلية كالكتاب و السنة و الإجماع و العقل في مقابل الفقهاء المقلدين و هم الذين قلدوا من سبقهم من المجتهدين و انحصر اجتهادهم في فتاواهم و يسمون أيضاً بالفقهاء في المذهب و يسمون من كان منهم يفصل ما أجمل من قول مرجع تقليده أو يبين ما أبهم منه بأصحاب التخريج.

التاسع ما يسمى بالفقهاء المتجزءين: و الفقيه المتجزئ هو الذي له ملكة الاجتهاد في بعض مسائل الفقه دون بعض و يقابله الفقيه غير المتجزئ و قد يعبر عنه بالمطلق كما تقدم.

العاشر ما يسمى بالفقهاء المحدّثين و الاخبارييّن: و هم الذين يعتمدون على الأدلة النقلية دون الأدلة العقلية و لا يعتبرون علم الأصول و يقابلهم الفقهاء الأصوليون و هم الذين يعتمدون عليها و يأخذون بعلم الأصول هذا اصل الاصطلاح و لكن عند الشيعة الاختلاف بين الأصوليين و المحدّثين قد تجاوز ذلك. و قد ألف في ذلك جدنا كاشف الغطاء" رحمه اللّه" كتاباً فيما اختلف فيه الأصوليون و الاخباريون.

باب مدينة العلم، ص: 45

الحادي عشر ما يسمى بالفقهاء السلفيين: و هم الفقهاء الذين دعوا للمذهب السلفي و الرجوع في

معرفة الأحكام الشرعية إلى مصادرها الأصلية من الكتاب و السنة و نحوها و حاربوا التقليد و شددوا النكير على الجمود على الرجوع لفتاوى الفقهاء. الثاني عشر ما يسمى بأصحاب الرأي: و هم أصحاب الرأي و القياس و الاستحسان و هم الذين يبحثون عن علل الأحكام الشرعية و مناطاتها و يحكمون على طبقها و لم يحجموا عن الفتوى برأيهم عند فقد النص الواضح و كان اكثر فقهاء العراق منهم و يسمون بأهل مدرسة الرأي و يقابلهم أهل الظاهر و هم الفقهاء الذين لا يفتون بالرأي مع وجود الظواهر من كتاب أو سنة و نحوها و كان اكثر أهل الحجاز منهم و يسمون بأهل مدرسة الحديث و يروى في هذا الباب ان سعيد بن المسيب قال لربيعة ابن عبد الرحمن المتوفي سنة 136 ه لما سأله عن علة الحكم أ عراقي أنت؟

الفقهاء للائمة" عليهم السلام"

قد ذكر الكشي ان العصابة قالوا بأن أفقه الأولين ستة كانوا من أصحاب الباقر" عليه السلام" و الصادق" عليه السلام" و هم زرارة. و معروف بن خرّبوذ. و بريد. و ابو بصير الاسدي. و الفضيل بن يسار. و محمد بن مسلم الطائفي قالوا وافقه الستة زرارة و قال بعضهم مكان (أبي بصير الاسدي) أبي بصير المرادي و هو ليث بن البختري.

ثمّ ذكر الفقهاء من أصحاب الإمام الصادق" عليه السلام" خاصة و عددهم ستة: جميل بن الدراج. و عبد اللّه بن مسكان. و عبد اللّه بن بكير. و حماد بن عيسى. و حماد بن عثمان. و أبان بن عثمان. و زعم أبو إسحاق الفقيه و هو ثعلبة بن ميمون ان افقه هؤلاء جميل بن الدرّاج.

ثمّ ذكر الفقهاء من أصحاب الإمام موسى بن جعفر" عليه السلام" و

ولده الرضا" عليه السلام" و عددهم ستة منهم يونس بن عبد الرحمن. و صفوان بن يحيى بياع السابري. و محمد بن أبي يعمر. و عبد اللّه بن المغيرة. و الحسن بن محبوب. و احمد بن محمد بن أبي نصر. و قال بعضهم مكان الحسن بن محبوب الحسن بن علي بن فضال. و فضالة بن أيوب و قال بعضهم مكان فضالة عثمان بن عيسى وافقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن و صفوان بن يحيى انتهى ما ذكره الكشي.

عَدَم إطلاق الفقيه على النبي" صلى اللّه عليه و آله"

لا يصح إطلاق الفقيه بالمعنى الاصطلاحي على النبي" صلى اللّه عليه و آله" لأن علمه" صلى اللّه عليه و آله" بالأحكام الشرعية الفرعية لم يستند إلى النظر و الاستدلال بل هو بالوحي المبين. و أما الأئمة" عليهم السلام" فقد يطلق عليهم الفقهاء أو يسمى أحدهم بالفقيه بمعناه العرفي العام و هو مطلق معرفة الأحكام الشرعية سواء كانت عن دليل تفصيلي أم عن غيره. و تسمية الإمام موسى بن جعفر" عليه السلام" بالفقيه بهذا المعنى عند الشيعة و أما عند أهل السنة فاطلاقهم الفقهاء على الأئمة بالمعنى الاصطلاحي.

باب مدينة العلم، ص: 46

الفصل الثاني في موضوع علم الفقه و شرح موضوع العلم و وجه التميز به و الدليل على وجوده

الموضوع لكل علم

اشارة

الأمر الثاني من الأمور التي تذكر في مقدمات العلوم هو بيان موضوع العلم و إنما ذكره باعتبار انه يرون إن تمايز العلوم في نفسها و ذاتها بحسب تمايز موضوعاتها لأنه هو المبحث عن احواله في العلم بخلاف التمييز بالتعريف فانه إنما يكون بحسب الآثار المرتبة عليه. و لأنه كما تقدم بمنزلة مطلب (هل) حيث انه بمعرفة الموضوع يعرف وجود العلم. و مطلب هل لا بد منه قبل الشروع في الشي ء إذ الشي ء لا يشرع فيه ما لم يعلم بوجوده. و أيضاً ان جهة وحدة مسائل العلم أولا و بالذات هو الموضوع إذ فيه اشتراكها و به اتحادها و إذا عرف جهة اتحادها أحاط بها إجمالا بحيث إذا قصد تحصيل تفاصيلها لم ينصرف الطلب عما هو منها إلى ما ليس منها (و تحقيق ذلك) كما استفدناه من كلمات القوم ان كمال النفس الانسانية بقوتها الادراكية، و القوة الادراكية إنما تحصل بمعرفة حقائق الأشياء و أحوالها بقدر الطاقة البشرية و لما كانت حقائق الأشياء و أحوالها متكثرة متنوعة. و كانت معرفتها مختلطة غير مستحسنة و

متعسرة اقتضى حسن التعليم و تسهيله ان تجعل مضبوطة متمايزة فتصدى لذلك العلماء الأوائل و وضعوا الحقائق و بحثوا عن أحوالها المختصة التي هي الأغراض الذاتية لها و اثبتوها لها بالأدلة فحصلت قضايا كسبية محمولاتها اغراض ذاتية لتلك الحقائق سموها بالمسائل، و أدلتها و تعاريف ما يتعلق بها سموها بالمبادئ، و تلك الحقيقة المبحوث عن أحوالها سموها بالموضوع فصارت عندهم كل طائفة من الأحوال متشاركة في موضوع علما منفردا ممتازاً في نفسه يفرد بالتدوين و التسمية و التعليم نظراً إلى ما لتلك الطائفة من المسائل المتكثرة المختلفة في المحمولات من الاتحاد في جهة الموضوع و الاشتراك فيه على الوجه المذكور و أصبحت علومهم بالحقائق و أحوالها متمايزة في انفسها بموضوعاتها و سلكت الأواخر أيضاً هذه الطريقة في علومهم ثمّ قد تتحد المسائل من جهات أخرى كالمنفعة و الغاية و نحوها و يؤخذ لمجموع تلك المسائل من بعض تلك الجهات ما يفيد تصورها إجمالا من حيث اختصاصها بها قال بعضهم فيكون ذلك حداً للعلم ان دل على حقيقة سماه الذي هو المركب الاعتباري كما يقال هو علم يبحث عن كذا أو علم بقواعد كذا و إلا فرسماً كما يقال هو علم يقتدر به على كذا أو يحترز به عن كذا أو يكون آلة لكذا فظهر ان الموضوع هو جهة وحدة مسائل العلم الواحد نظراً إلى ذاتها و ان عرضت عليها جهات أخرى كالتعريف و الغاية.

لا يقال على هذا يكون العلم متعدداً بتعدد الموضوعات التي هي مقومات المسائل فلم لم يجعل العلم متعددا بتعدد المحمولات مع إنها مقومات للمسائل أيضاً بأن يكون البحث عن بعض الأعراض الذاتية علما و عن البعض الآخر علماً آخر مع اتحاد الموضوع

و يجعل المميز هو القدر الجامع بين المحمولات بل ان هذا اقرب بناء على كون الموضوع بمنزلة المادة لتوارد الأعراض عليه كما تتوارد الصور على المادة و المادة مأخذ للجنس و الأعراض الذاتية بمنزلة الصورة و هي مأخذ للفصل الذي به كمال التمييز (لأنه قد قيل) انه

باب مدينة العلم، ص: 47

لا ضبط للاعراض و لا حصر لها بل لكل أحد أن يثبت ما استطاع فلا ينضبط أمر الاتحاد بين المسائل في العلم و الاختلاف بينها فيه.

و لا يخفى ما فيه فانه لهم ان يفرضوا فائدة خاصة لعنوان جامع بين عدة أعراض كالاعراب و البناء و يطلبوا المسائل المحصلة لها إلا أن يقال ان هذا لا يتيسر لنا في سائر العلوم لعدم وجود القدر الجامع بين أعراضها فان أعراض العدد لعلم الحساب لا قدر جامع بها كيف و الأعراض بينها تباين و اختلاف و تكثّر بحيث يعسر جمعها في كلي واحد. و إلا لو أمكن ذلك صح أن يجعل ذلك العنوان أيضاً مميزاً للعلم فلو فرضنا لعلم الفلسفة قدر جامع بين محمولات مسائله صح ان يجعل مميزا أيضاً كموضوعه. و أما حديث المادة و الصورة فهو غير صحيح لأن كلا من الموضوع و المحمول جزء مادي من المسألة و إنما الجزء الصوري لها هو الحكم على ان الكلام ليس في المسألة و إنما في المركب الاعتباري الذي هو العلم و لا خفاء في ان المسائل مادة للعلم و مرجع الصورة إلى جهة الاتحاد إذ بها تصير المسائل علماً واحداً.

الدليل على لزوم وجود الموضوع لكل علم

ان الكلام في موضوع علم الفقه يستدعي الكلام في مقامات ثلاثة:

الأول: في الدليل على لزوم وجود الموضوع لكل علم.

الثاني: في تعريف الموضوع لكل علم.

الثالث: في

بيان ما هو موضوع علم الفقه.

أما الكلام في المقام الأول فنقول ان الدليل على وجود الموضوع للعلم هو ما ذكره علماء الفلسفة و الحكمة و أشرنا إليه سابقاً ان العلماء لما حاولوا معرفة الأشياء بقدر الطاقة البشرية وضعوا الحقائق أنواعا و أجناساً و غيرها كالعدد و الفلك و الوجود و بحثوا عن أعراضها و أحوالها المختصة بها و أثبتوها لها بالأدلة فحصلت لكل من تلك الحقائق قضايا كسبية محمولاتها أعراض ذاتية لتلك الحقائق و سمّوا تلك القضايا بالمسائل. ثمّ ان كل طائفة من تلك المسائل ترجع إلى حقيقة واحدة من تلك الحقائق افردوها بالتدوين و التسمية باسم خاص في باب التعليم و التعلم نظراً إلى ما لتلك الطائفة على كثرتها و اختلاف محمولاتها من الاتحاد في جهة الموضوع لكونها مشتركة في البحث عن حقيقة واحدة من تلك الحقائق. و قد جعلوا تناسب العلوم و تباينها و تداخلها بحسب تلك الجهة بمعنى ان موضوع أحد العلمين ان كان مباينا لموضوع الآخر من كل وجه كالعدد للحساب و الكلمة للنحو فالعلمان متباينان على الإطلاق و ان كان أعم منه فالعلمان متداخلان و ان كان موضوعهما شيئا واحداً بالذات متغايراً بالاعتبار أو شيئين متشاركين في جنس واحد فالعلمان متناسبان كما قرر ذلك في محله. و بعبارة أخرى ان سعادة الإنسان لما كانت منوطة بمعرفة حقائق الأشياء و أحوالها بقدر الطاقة البشرية. و كانت تلك الحقائق و الأحوال متكثرة و كانت معرفتها مختلطة متعسرة تصدى الأوائل لضبطها لتسهيل تعلمها و تعليمها فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشي ء واحد و دوّنوها علما وسموا ذلك الشي ء موضوعا لذلك العلم فاخذوا الوجود المطلق من حيث هو هو وسموا العلم الباحث عن احواله بالعلم

الإلهي و الفلسفة الأولى و بالعلم الكلي و بما بعد الطبيعة و أخذوا الكم و قسموه إلى متصل و منفصل و المتصل أما متحرك أو ساكن فالعلم الباحث عن أحوال الكم المتصل المتحرك سموه بعلم الهيئة و الساكن بعلم الهندسة و المنفصل أما ان يكون له نسبة تأليفية أو لا يكون و الأول هو الموسيقى و الثاني هو الحساب و هذه العلوم الأربعة

باب مدينة العلم، ص: 48

تسمى بالعلوم الرياضية و لكل منها فروع و أخذوا الجسم الطبيعي وسموا العلم الباحث عن احواله بالعلم الطبيعي و جعلوا له فروعاً و أخذوا النفس الانسانية من حيث اتصافها بالأخلاق و الملكات وسموا العلم الباحث عن احوالها بالحكمة العملية إلى غير ذلك من أخذهم الحقائق و بحثهم عن احوالها و لهذا جعلوا لكل علم موضوعاً.

الرد على صاحب الكفاية

و على هذا فلا يصح تعريف المسائل بأنها قضايا جمعها اتحاد الغرض و الغاية كما صدر من صاحب الكفاية" رحمه اللّه" بل تكون المسائل قضايا جمعها اتحادها في الموضوع الذي يبحث عن أحواله في العلم (و الحاصل) ان الذين اعتبروا الموضوع للعلوم هم علماء الحكمة لتقسيمهم الحقائق إلى تلك الأمور و بحثهم عن عوارض كل قسم و عليه فيكون المميز الذاتي للعلوم هو الموضوع. و لكن علماء الفنون التي اخترعوها لغايات خاصة كالنحو لصون اللسان يكون المدار عندهم في مسائل العلم ما كان له دخل في حصول الغرض منه و ليس للموضوع الجامع لموضوعات المسائل عندهم أي اثر في تكوين العلم و لا في تسميته و لا يلزم وجود الموضوع على هذا التقدير و انما يلزم وجود الغرض كما انه لا يضر البحث عن الأعراض الغريبة لموضوع العلم لو فرض له موضوع

إذا كان البحث ينفع في ترتب الغاية عليه. فظهر من هذا كله ان العلم ان كان الميزان في عده علما هو بحث مسائله عن موضوع خاص لزم أن يكون موضوعا له و لزم ان يكون محمولات المسائل فيه أعراضا ذاتية له و ان كان الميزان في عده علماً هو ترتب الغاية على معرفة مسائله لم يلزم ان يوجد موضوع له و لا يلزم ان يكون محمولات المسائل عرضا ذاتيا لموضوعه حتى لو فرض له موضوع. و المتأخرون لما لم يلتفتوا إلى ذلك وقعوا في هذا المأزق الحرج فأرادوا الجمع بين موضوع العلم و الغاية منه و ما دروا ان كل واحد منهما جهة وحدة للمسائل بها تعد علماً واحدا.

البرهان الفعلي على وجود الموضوع

و قد حاول بعض المتأخرين اقامة البرهان العقلي على وجود الموضوع لكل علم. و حاصله بتوضيح منا هو ان مسائل العلم ان كانت يترتب عليها اكثر من فائدة واحدة بأن كان بعضها يترتب عليه فائدة و بعض يترتب عليه فائدة أخرى فلا تكون المسائل مسائل علم واحد و ان ترتب عليها فائدة واحدة بأن أثرت جميعها أثراً واحداً فلا يكون تأثيرها إلا من قبيل العلم و قد تقرر في علم الحكمة ان الواحد لا يصدر إلا من واحد. و عليه فالأثر الواحد لا يصدر من مسائل متعددة فلا بد من اتحادها في جهة واحدة حتى يمكن صدور ذلك الأثر الواحد منها. و الجهة الواحدة في المسائل اما ان تكون بين موضوعات المسائل أو محمولاتها فان كانت بين موضوعات المسائل فهو المطلوب إذ قد ثبت ان بين موضوعات المسائل قدر جامع. و ليس موضوع العلم إلا القدر الجامع بين موضوعات المسائل و ان كانت بين محمولات المسائل

فهي عرض لموضوعاتها فلا بد له من موضوع واحد لأن الواحد لا يحل إلا في واحد و ذلك الموضوع هو الجامع لموضوعات المسائل و هو موضوع العلم (و لكن يرد عليه):

باب مدينة العلم، ص: 49

أولا أن العلوم بالنسبة إلى أغراضها ليست من قبيل العلل بل من قبيل الآلة الموصلة لأثر الفاعل لمنفعله نعم خصوص العلوم الاعتقادية بالنسبة للغرض منها يمكن ان يقال انها علة فلو تم هذا الدليل فإنما يتم بالنسبة لها فقط.

(و ثانياً) لو سلمنا انها من قبيل العلل لكن هذه القاعدة إنما أثبتها الحكماء في العلل الموجبة البسيطة و أثرها البسيط لا في مثل العلم المركب من المسائل و مبادئها و يكون اثره مركبا من آثار متعددة بتعدد المسائل فان مثل الفاعل مرفوع يؤثر في صون اللسان عن الخطأ في الفاعل. و المفعول منصوب يؤثر في صون اللسان عن الخطأ في المفعول و هكذا باقي المسائل.

(إن قلت) انه لا شك يحصل في النفس من العلم معنى بسيط إجمالي و لا اقل من الملكة.

(قلنا) هذا المعنى إنما يحصل من حصول أغراض المسائل في النفس فهو صادر من أغراض المسائل لا من نفس المسائل و لا مانع من التزام وجود جامع من الأغراض.

و الحاصل أن الفائدة من قبيل الكل لأن لكل مسألة فائدة و من المجموع يحصل ذلك الأثر فالفائدة مجموع آثار تلك المسائل.

(و ثالثاً) ان العلم و ان كان علة موجبة لكمال نفساني إلا ان العلية إنما هي لمسائله فلا بد من رجوع مسائله لمسألة واحدة بسيطة لا رجوعها لموضوع واحد إذ ذلك الموضوع ليس بنفسه مؤثر و لذا عند العلم به لا يؤثر ذلك الأثر أصلًا و لا يخفى ما فيه فانه

على هذا يكون له موضوع واحد و هو موضوع تلك المسألة التي رجعت لها مسائل ذلك العلم.

و يمكن الاستدلال على وجود الموضوع أيضاً بأن آلية مسائل العلم للغرض الحاصل منه أو عليتها له دون باقي مسائل العلوم الأخرى بالنسبة لذلك الغرض تقتضي وجود خصوصية فيها دون باقي مسائل العلوم الأخر و إلا لزم تأثير باقي المسائل للعلوم الأخر في ذلك الغرض. و هذه الخصوصية ليست بقائمة بخصوص الانضمام في المسائل لأن الانضمام موجود في سائر العلوم مع انه تابع للمسائل و لا في النسب بين الموضوعات و المحمولات لأنها موجودة في سائر مسائل العلوم مع ان النسب تابعة للموضوعات و المحمولات. و لو وجدت الخصوصية المذكورة في المحمولات فلا بد أن تكون لها محل واحد تعرض عليه و ليس هو إلا الجامع بين موضوعات المسائل و لم أرَ أحداً تعرض للاستدلال على وجود الموضوع بهذا النحو فيما بين يدي من الكتب.

و يمكن المناقشة فيه بأن الخصوصية هي في نفس المسائل حين اجتماعها نظير اجتماع عدة أدوية لأثر خاص و ليس يلزم وجود قدر جامع بينها.

إن قلت إن الخصوصية لا بد و ان تكون في الجميع بنحو واحد فتكون قدراً جامعاً بينها.

قلنا لو كان بنحو المعلول البسيط لتم على رأي الفلاسفة من جهة لزوم السنخية بين العلة و المعلول لا في مثل ما نحن فيه الذي هو من قبيل الآلة و نحوها.

باب مدينة العلم، ص: 50

تعريف موضوع العلم
تفسير العوارض- تقسيمها إلى ذاتية و غريبة- تفسير الواسطة و تقسيمها إلى ثلاثة أقسام

عرف القوم الموضوع للعلم بأنه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية و هذا التعريف قد تسالم عليه الفلاسفة و أرباب الحكمة المتعالية و علماء المنطق و العلوم النقلية. و المراد بالبحث عن العوارض هو التفتيش عنها باثباتها للموضوع و

حملها عليه.

(و العوارض) جمع عارض و هو المحمول الخارج عن حقيقة ما حمل عليه إذ لو كان داخلا لكان جزءه و الجزء ليس بعارض على الكل. و لو كان خارجا و لكن لا يحمل عليه لكان أجنبيا عنه و ليس بعارض عليه. و قد جعل المتقدمون تقييد العوارض بالذاتية لإخراج العوارض الغريبة لأن الأعراض عندهم على قسمين ذاتية و غريبة. و حصر الكثير منهم الأعراض الذاتية بثلاثة أنواع: (الأول) ما يعرض الشي ء لذاته كعروض الزوجية للأربعة و الامكان و الوجوب للماهية و منه عروض الجنس للفصل أو بالعكس.

(الثاني) ما يعرض الشي ء بواسطة جزئه و هو إنما يكون في الحقائق المركبة دون البسيطة حيث لا جزء لها بخلاف الأول و هو على صنفين:

(أحدهما) بواسطة جزئه المساوي كإدراك الكليات العارض للإنسان بواسطة كونه ناطقاً المعبر عنه بالتعقل.

و (ثانيهما) بواسطة جزئه الأعم كالمشي العارض للإنسان بواسطة كونه حيواناً.

(الثالث) ما يعرض للشي ء بواسطة الأمر الخارج المساوي سواء كان مساوياً للمعروض كما لو كان المعروض بسيطا و مساوياً لجزئه كما لو كان مركباً أو عارضاً لأمر خارج أيضاً يكون مساويا للمعروض كالبُشْر العارض للإنسان بواسطة الفرح العارض لابتهاج النفس العارض للإنسان كما قيل. و قد جعلوا هذه الأعراض الستة أعراضاً ذاتية لأن العروض فيها مستند إلى الذات أما في الأول فظاهر و أما في الثاني بقسميه فلاستناده إلى الجزء و هو من مقومات الذات و أما الثالث بأقسامه فلأن العارض المساوي مستند إلى المستند إلى الذات و المستند إلى المستند إليها مستند إليها و أما الأعراض الغريبة فقد حصروها في نوعين:

الأول ما يعرض الشي ء بواسطة أمر خارج أعم كالتحريك بالارادة العارضة للناطق بواسطة الحيوان.

الثاني ما يعرض الشي ء بواسطة أمر خارج

أخص كإدراك الكليات العارض للحيوان بواسطة الناطق و قد الحق بهما بعض المتأخرين (كصاحب الفسطاس).

و نوع ثالث و هو ما يعرض الشي ء بواسطة الأمر المباين كعروض الحرارة للماء بواسطة النار. و جعلوا هذه الأنواع الثلاثة أعراضا غريبة لعدم استنادها إلى ذات المعروض.

باب مدينة العلم، ص: 51

و الحاصل ان العلماء المتقدمين كصاحب الشمسية و شارح التهذيب ادعوا إن ما كان عوارض الموضوع من قبيل القسم الأول فهو من العوارض الذاتية يبحث عنه في العلم و ما كان من قبيل القسم الثاني فهو من العوارض الغريبة لا يبحث عنه في العلم.

و لكن المتأخرين عدلوا عن هذا التفسير للأعراض الذاتية و فسروها بتفسير آخر قد سبقهم إليه جملة من الحكماء و جعلوها عبارة عما يعرض الشي ء بلا واسطة في العروض و جعلوا التقييد بالذاتية لإخراج العوارض التي تعرض لموضوع العلم بواسطة في العروض.

الواسطة في الثبوت و الاثبات و العروض

و توضيح مرادهم ان المراد لهم بالواسطة هي العلة و هي عندهم على ثلاثة أقسام:

(أحدها) المسماة بالواسطة في الثبوت و هي الواسطة لوجود العارض لمعروضه في عالم الواقع و الثبوت بحيث بواسطتها ينسب العارض لمعروضه على سبيل الحقيقة كالنار فإنها واسطة في عروض الاحراق للخشب، و تعفن الاخلاط فانه واسطة في عروض الحمى للبدن و العلل للوجود سائر العوارض لمعروضاتها من قبيل هذه الواسطة.

(ثانيهما) المسماة بالواسطة في الاثبات و التصديق و هي الواسطة لوجود العارض لمعروضه في عالم الذهن و الاثبات كالدخان الذي هو علة للعلم بثبوت الوجود للنار في الذهن. و الأدلة لسائر المطالب كلها من هذا القبيل و هي التي تكون الحد الأوسط في الأشكال الأربعة.

(و ثالثها) المسماة بالواسطة في العروض و هي الواسطة الموجبة لثبوت العارض للمعروض ثانياً و بالتبع بعد

ما كان العارض ثابتاً لتلك الواسطة أولا و بالذات. (و بعبارة أخرى) هي العلة الموجبة لثبوت العارض للمعروض على سبيل المجاز بحيث يصح سلبه عنه على سبيل الحقيقة فليس هنا إلا عرض واحد ينسب للواسطة على سبيل الحقيقة و للمعروض على سبيل المجاز كجيش الملك إذا فتح المدينة فان الفتح ينسب إلى الجيش حقيقة و إلى الملك مجازاً. و كان الجيش هو الواسطة في عروض الفتح للملك. و سائر الأمور الموجبة للاسناد المجازي تكون من هذا القبيل و من هذا الباب ما يقال في لسان الأدباء ان هذا الأمر ثابت لذلك الشي ء بالعرض و المجاز فان مرادهم انه ثابت له بالواسطة في العروض فيكون عندهم الأعراض الذاتية هي ما تعرض للشي ء بدون واسطة أصلا أو بواسطة و لكنها غير الواسطة في العروض.

وجه عدول القوم عن التفسير المشهور

و إنما عدلوا عن التفسير المشهور إلى هذا التفسير لوجوه.

(أحدها) إنه بالتفسير الأول للعوارض الذاتية يلزم ان تكون اغلب محمولات مسائل العلوم أعراضا غريبة لموضوع العلم لأنها تعرض له بواسطة موضوع المسألة الذي هو أخص من موضوع العلم و العارض بواسطة الأخص على التفسير الأول يكون من العوارض الغريبة بخلافه على التفسير الثاني فانه يكون من العوارض الذاتية لأن توسط الأخص لا يمنع من نسبته إلى ذات المعروض على سبيل الحقيقة إذ التقسيم المذكور إنما هو تقسيم لما يعرض للشي ء على سبيل الحقيقة و منه ما يعرض بواسطة الأخص.

(ثانيها) ان بعض محمولات المسائل تعرض لموضوع العلم بواسطة الأعم لأن موضوعها أعم من موضوع العلم كعروض الدلالة على الوجوب لصيغة افعل و ما في معناها في مساة دلالة صيغة افعل و ما في معناها على الوجوب في علم الأصول فان موضوع هذه

باب مدينة

العلم، ص: 52

المسألة و هو صيغة افعل و ما في معناها أعم من الأدلة التي هي موضوع علم الأصول لأن صيغة افعل تعرض للأدلة و لغيرها من كلام الناس فعلى التفسير الأول يكون العارض المذكور عارضاً عريباً لموضوع علم الأصول حيث كان عارضاً له بواسطة الأعم بخلافه على التفسير الثاني فانه يكون من العوارض الذاتية لنسبته إلى موضوع العلم على سبيل الحقيقة.

(ثالثها) ان العلم ينبغي ان يبحث عن حالات موضوعه و صفاته الحقيقية سواء كانت عارضة له بدون واسطة أو بواسطة الأخص أو الأعم أو المباين دون العوارض المجازية له لأنها ليست من حالاته و إنما هي من حالات غيره مما كانت تعرض له حقيقة.

(رابعها) إنه على التفسير الأول يلزمهم ان لا يبحثوا في علم النحو و الصرف عن الأعراب و البناء للكلمة لأن عروضهما بتوسط أمر مباين و هو تصرف الواضع أو المتكلم و هكذا لا يبحثون في علم الصرف عن اختصاص كل صيغة بمادة لأن الواسطة هو تصرف الواضع و هو أمر مباين و هكذا لا يبحثون في علم اللغة عن اختصاص كل لفظ بمعنى لأن الواسطة هو تصرف الواضع و هو أمر مباين و هكذا يلزمهم أن لا يبحثوا في علم الأصول عن حجية الكتاب و السنة و في علم الفقه عن الأحكام الشرعية الطارئة على أفعال المكلفين لأن الواسطة هو جعل الشارع و هو أمر مباين و هذا بخلاف ما إذا فسرنا العوارض الذاتية بالتفسير الثاني لم يرد ذلك كله لأنه يصح نسبة تلك العوارض إلى موضوع علومها على سبيل الحقيقة. و هذه الأوجه و ان كنا قد ناقشنا فيها و أجبنا عنها في نقد الآراء المنطقية إلا انها هي

التي دعت صاحب الكفاية" رحمه اللّه" و الكثير ممن سبقه و لحقه من المتأخرين إلى التفسير الثاني و العمدة عندهم هو الوجه الأول و الثالث و الذي يرد عليهم أو يمكن ان يورد عليهم أمور:

الأول ان تفسير المتأخرين للعوارض يكون أخص من تفسير المتقدمين لها لأن مرادهم من الواسطة هي الواسطة في العروض كما حققنا ذلك في كتابنا نقد الآراء المنطقية فيكون على تفسيرهم العوارض الذاتية هي خصوص ما يعرض للشي ء لذاته فقط لأنه هو الذي يكون بلا واسطة في العروض و أما العارض للشي ء بواسطة جزئه أو المساوي على ان يكون الجزء أو المساوي واسطة في العروض فهو من الأعراض الغريبة بخلافه على تفسير المتقدمين فانه يكون من الأعراض الذاتية. و الحق مع المتقدمين فان الواسطة في العروض إذا كانت مساوية للمعروض صادقة عليه أو كانت جزءاً للمعروض كان العرض من أحوال المعروض و اطواره و شئونه فيصح البحث عنه في العلم الذي يبحث عن أحوال ذلك الموضوع فلا وجه لتخصيص المتأخرين البحث في العلم بخصوص العوارض التي تعرض الموضوع بلا واسطة في العروض و ان يخرجوا عن البحث العوارض التي كانت الواسطة في العروض خارجاً مساوياً أو جزءاً مساوياً أو جزء أعم من الأوجه الأربعة التي ذكرناها لعدول المتأخرين عن تفسير المتقدمين لا تتم على تفسيرهم. (و جوابه) ان الواسطة في العروض لها معنيان:

باب مدينة العلم، ص: 53

(أحدهما) ما هو المعروف عند الفلاسفة و هو ما كان اتصاف الواسطة بالعرض منشأ لاتصاف المعروض به حقيقة لا مجازاً كاتصاف المفتاح بواسطة حركة اليد له و عليه ينزّل قولهم ان اتصاف الشي ء الفلاني بالمحمول الفلاني أولا و بالذات و اتصاف الشي ء الآخر به ثانيا

و بالعرض. و يدل على ذلك تقسيمهم للعارض على سبيل الحقيقة إلى الأقسام الستة المتقدمة. و الواسطة في الثبوت عندهم هي العلة الفاعلية المستقلة بالوجود فقط كاتصاف الماء بالحرارة بواسطة النار كاتصاف الحيوان الحركة و عليه فالحيوان واسطة في العروض لاتصاف الإنسان بالحركة حقيقة فيقال الإنسان متحرك على سبيل الحقيقة.

(و ثانيهما) ما هو المعروف عند علماء الأدب و هو ما كان اتصاف الواسطة منشأ لاتصاف المعروض بالعرض مجازاً كاتصاف جيش الأمير بالفتح فانه موجب لاتصاف الأمير بالفتح مجازاً. و الواسطة في الثبوت عندهم مطلق ما يوجب الاتصاف حقيقة سواء كان شرطاً أو جزءاً أو معدّاً أو فاعلا و بهذا المعنى للواسطة في الثبوت جعل صاحب الحاشية الشيخ محمد تقي صهر جدنا كاشف الغطاء" رحمه اللّه" موضوعات مسائل العلوم التي هي أخص أو أعم من موضوع العلم وسائط في الثبوت بين محمولات المسائل و موضوع علومها لا وسائط في العروض حتى يلزم ان تكون عوارض غريبة بالنسبة لموضوع علومها. و بهذا المعنى للواسطة في العروض قال علماء المعاني و البيان (ان الفتح ينسب للأمير بالعرض و المجاز) و المتأخرون أرادوا بالواسطة في العروض هذا المعنى الثاني بدليل إنهم جوزوا كون موضوع المسألة أخص من موضوع العلم و انه من قبيل الفرد له فلو لم يكن العارض بواسطة الأخص عرض ذاتي عندهم لما جوزوا ذلك لكونه حينئذ يكون محمول المسألة المفروضة عرض غريب لموضوع العلم و عليه فيكون تفسيرهم أعم من تفسير المتقدمين لأنه يشمل العرض بأقسامه الستة لكون العرض يعرض فيها حقيقة للمعروض فيكون بلا واسطة في العروض بالمعنى الثاني. و عليه فتصح الأوجه السابقة الأربعة لعدولهم عن تفسير المتقدمين للعوارض الذاتية. نعم صاحب الفصول" رحمه

اللّه" تخيل ان مراد المتقدمين بالواسطة في تقسيمهم العرض إلى أقسامه الستة هو الواسطة في العروض بالمعنى الثاني المعروف عند أهل الأدب فأشكل عليهم بأن ما يعرض بواسطة الأمر الخارج حتى المساوي يكون من عوارض ذلك الأمر الخارج لا من حالات المعروض و ما علم ان القوم إنما قسموا خصوص العارض حقيقة للمعروض إلى الأقسام الستة دون العارض مجازا لمعروضه و ان مرادهم بالواسطة فيها هو الواسطة في العروض بالمعنى الأول.

و يرد على المتأخرين ثانياً انه على تفسيرهم العوارض الذاتية بذلك يلزم أن يخرج اغلب مسائل علم الفقه عنه لأن الأحكام الشرعية لا تعرض على فعل المكلف الذي هو موضوع علم الفقه من حيث هو فعل بل إنما تعرض عليه بما هو صلاة و شرب خمر و دخول مسجد فتكون موضوعات الأحكام الشرعية واسطة في عروضها على فعل المكلف فإنها هي المتصفة حقيقة بالحكم الشرعي و بواسطة عروضها على فعل المكلف اتصف فعل المكلف

باب مدينة العلم، ص: 54

بالحكم الشرعي و ليست هي بواسطة في الثبوت لأن الواسطة في ثبوت الحكم الشرعي هو جعل اللّه أو دلالة الدليل. و هكذا الحال في علم النحو فان عروض الأحوال الاعرابية من الرفع و النصب و نحوها على الكلمة بواسطة عروض عنوان الفاعلية لها و المفعولية فهذه العناوين هي التي تتصف أولًا و بالذات بالرفع و النصب ثمّ الكلمة ثانياً و بالعرض و ليست هي بواسطة في الثبوت لأن الواسطة في ثبوتها هو المتكلم أو جعل الواضع و لو كان الأمر كما زعمه المتأخرون من ان موضوع العلم ما يبحث عن عوارضه التي تعرض له بلا واسطة في العروض للزم خروج هذه الابحاث عن هذه العلوم بل

خروج اغلب مسائل العلوم عنها أو عدم كون تلك الموضوعات موضوعات للعلوم لكون البحث فيها كان عن عوارض تعرض لها بواسطة في العروض و هي موضوعات مسائلها.

و جوابه ما عرفته من ان المراد نفي الواسطة في العروض بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول. و موضوعات المسائل وسائط في عروض محمولاتها لموضوع العلم بالمعنى الأول بدليل صحة نسبة تلك المحمولات لموضوع علومها على سبيل الحقيقة فتكون من العوارض الذاتية لموضوع العلم عندهم نعم عند المتقدمين تكون عوارض غريبة لأن موضوعات المسائل كانت أخص من موضوع العلم فيها فتكون محمولاتها عارضه لموضوع العلم بواسطة الأخص كما تقدم.

و يرد على المتأخرين ثالثاً بأنه على تفسيرهم للعوارض الذاتية بذلك يلزم دخول العلم الأعلى الذي موضوعه الأعم الأدنى الذي موضوعه أخص لأن عوارض الأعم عوارض للأخص حقيقة لاتحاده به خارجا فتكون عوارض ذاتية للأخص أيضاً فينبغي ان يبحث عنها في العلم الأدنى. و جوابه مضافا إلى ان هذا الإيراد يرد أيضاً على المشهور الذي جعلوا العارض بواسطة الجزء الأعم من الأعراض الذاتية فانه لو كان موضوع العلم الأعلى جزءاً أعم لموضوع العلم الأدنى فتكون محمولات مسائل العلم الأعلى أعراض ذاتية لموضوع العلم الأدنى. إن التعريف لموضوع العلم إنما يقتضي ان يكون البحث عن عوارض الموضوع التي تعرض له حقيقة و لا يقتضي ان يبحث العلم عن جميع العوارض الذاتية لموضوع العلم، و لو سلمنا ذلك بناء على ان إضافة الجمع و هو (العوارض) للضمير تفيد الاستغراق فإنما يحسن التدوين للبحث عن عوارض الموضوع التي لم يبحث عنها في علم آخر و أما التي يبحث عنها في علم آخر و هي عوارض موضوع العلم الأعلى فيستهجن مرة أخرى ان تدوّن في ضمن

علم آخر و قد صرح الحكماء بأن تدوين العلوم بهذا النحو بأن يبحث في كل علم عن العوارض الذاتية لموضوع خاص إنما هو أمر استحساني إذ لا مانع عقلا من عدّ كل مسألة علماً برأسه و تفرد بالتعليم و لا من عدّ مسائل متعددة كثيرة غير متشاركة في موضوع واحد علماً واحداً و تفرد بالتدوين كما صرح بذلك شارح المواقف. و عليه فلو استهجن التدوين لا يصح وقوعه.

و بعبارة أخرى ان التعريف إنما يستفاد منه ان العارض إذا كان ذاتياً للموضوع يقتضي تدوينه في العلم و هذا لا ينافي وجود المانع من تدوينه كما إذا كان بدهياً ثبوته و ما نحن فيه وجد المانع من التدوين في العلم الأدنى و هو الاستهجان بالتكرار للتدوين بلا فائدة و لا جدوى. و لعلك تستفيد جواباً آخراً عن هذا الإيراد مما يأتي من جواب الإيراد الرابع على المتأخرين.

باب مدينة العلم، ص: 55

و يرد على المتأخرين رابعاً إنه لو كان المراد بالعوارض الذاتية ما ذكروه لزم ان يكون موضوع العلم جميع الكليات التي هي أعم منه لأنه يصدق عليها هذا التعريف لموضوع العلم حيث ان عوارض الأخص تنسب للأعم على سبيل الحقيقة فيصدق ان هذا العلم يبحث عن العوارض الذاتية لهذا الأعم من موضوعه فمثلًا إذا كانت الكلمة موضوعا لعلم النحو كان اللفظ العربي أيضاً موضوعا له لأنه يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية بل و مطلق اللفظ أيضاً موضوعا له بل مطلق الصوت بل مطلق الكيف لأن عوارض الكلمة على تفسيرهم عوارض ذاتية لتلك المفاهيم لأنها تنسب إليها على سبيل الحقيقة بخلافه على تفسير المتقدمين فإنها عليها تصير أعراضا غريبة لأنها تعرض لها بواسطة الأخص.

و يمكن الجواب

عنه بأنه لم يكن البحث عنها و إنما كان البحث عن الأخص منها فان البحث عن الشي ء كما عرفت إثبات المحمولات له و العلم الباحث عن الأخص إنما كان المقصود إثبات المحمولات له لا للأعم منه و ان استلزم ثبوتها للأعم منه ففي علم النحو إنما يقال البحث عن الكلمة لا عن اللفظ العربي لأنها هي المقصود باثبات العوارض لها فالميزان ما قصد البحث عن عوارضه الذاتية.

و يرد على المتأخرين خامساً بأنه لا وجه لاخراج الأعراض الغريبة اعني التي تعرض بواسطة العروض عن العلم إذ قد لا تكون لتلك الأعراض أهمية تصلح بها لتدوينها في فنّ مستقل فحينئذ تذكر في هذا الفن و ربما يستفاد هذا الإيراد من إيراد بعض المعلقين على الفصول.

و جوابه ان عدم صلاحية الأعراض الغريبة لتدوينها في علم مستقل و عدم اهميتها لا يكون موجبا لتدوينها في علم تكون أعراضا غريبا لموضوعه حسب الغرض.

و الحاصل ان عليه ان يثبت المقتضي لتدوينها في ذلك العلم و مجرد عدم صلاحيتها للتدوين في علم مستقل ليس بمقتضى لذلك إذ كثير من العوارض الأجنبية لا تصلح التدوين فلو كان مجرد عدم الصلاحية مقتضي لذلك لكان المقتضي لتدوينها موجوداً.

و يرد على المتأخرين سادساً ان كلامهم إنما يتم لو فرض انحصار الأعراض المبحوث عنها في العلوم بالأعراض الذاتية التي تعرض بلا واسطة في العروض إلا ان دعوى الانحصار لا بيّنة و لا عليها بيّنة بل ظاهر كلام غير واحد المفروغية عن انه قد يكون موضوع بعض المسائل الفنون من عوارض نفس موضوع العلم فيكون محمولها من قبيل عرض الموضوع بواسطة في العروض بل قد يكون موضوع بعض المسائل من قبيل الجزء لموضوع العلم كمسائل علم الجغرافية و

الهيئة و نحوهما مما يكون فيه موضوع المسألة جزءاً لموضوع العلم فان محمولات مسائلها لا تكون من عوارض موضوع العلم إلا بنحو المجاز.

و جوابه ان العلوم التي يكون لها الموضوع هي العلوم التي يتطلب فيها معرفة حالات الموضوع و العرض الغريب العارض بواسطة في العروض ليس من حالات الموضوع و إنما ينسب إليه مجازاً و أما المحمولات العارضة لعوارض موضوع العلم فهي عارضة لموضوع العلم بواسطة في العروض بالمعنى الفلسفي لا بالمعنى البياني و العرض الغريب هو العارض بواسطة في العروض بالمعنى البياني لا بالمعنى الفلسفي كما تقدم. على انه يمكن ان يقال انه واسطة في الثبوت لا في العروض كما قيل في علم الحساب و الهندسة ان موضوعات المسائل علة لعروض محمولاتها لموضوعهما. و أما كون موضوع المسألة قد يكون جزءاً لموضوع العلم فالحق ان الموضوع في تلك المسائل يرجع إلى موضوع يصدق

باب مدينة العلم، ص: 56

عليه موضوع العلم و إلا لم تكن المسألة من مسائل ذلك العلم إذ لا بد ان يكون المحمول فيها من عوارض موضوع العلم و باحثا عنه فما لم يتحد موضوعها مع موضوع العلم لم تكن المسألة باحثة عن موضوع العلم و لا محمولها من عوارضه إلا ان تكون من مسائل العلم التي ذكرت فيه استطراداً أو من المبادئ لمسائله.

و يرد على المتأخرين سابعاً ان لا وجه لجعل موضوع العلم ما يبحث في العلم عن أعراضه الذاتية بأي معنى فسرت الأعراض الذاتية إذ الميزان عندهم في البحث عن المسألة في العلم هو دخلها في الغرض الذي دون لأجل هذا العلم. و من الممكن ان تكون بعض المحمولات أعراضا غريبة لموضوع العلم و لكنها لها دخل في الغرض

الذي لأجله دون هذا العلم فكان عليهم ان يجعلوا موضوع العلم هو القدر الجامع بين موضوعات مسائله التي لها دخل في غرضه و قد أورد هذا الإيراد على صاحب الكفاية" رحمه اللّه" الشيخ محمد حسين الأصفهاني" رحمه اللّه" في تعليقته على هذا الكتاب و الشيخ الايرواني" رحمه اللّه" في تعليقته على هذا الكتاب و بعض مقرري بحث النائيني" رحمه اللّه" و قد سبقهم ميرزا أبو الفتح في حاشيته على شرح ملا جلال على متن التهذيب في المنطق و قد تعرضنا له في نقد الآراء المنطقية.

و جوابه ان الموضوع إنما نقول به في العلم الذي دون لمعرفة حالات شي ء خاصة كما تقدم في مبحث الدليل على وجود الموضوع و عليه فلا بد ان يذكر في مسائله ما هو من حالته. و العارض له مجازاً ليست من حالته نعم لو قلنا بأن لكل علم موضوعاً توجه الإيراد و أما إذا قلنا ان العمل الذي دون لغاية خاصة لا حاجة لالتزام الموضوع له و لا لالتزام عروض المحمولات لموضوعه بلا واسطة في العروض بل و لا لالتزام كونها عوارض ذاتية لموضوعات المسائل فلا يتوجه الإيراد فلو فرض ان الغرض يترتب على مسألة يكون محمولها بالنسبة لموضوع العلم عرض غريب صح جعلها من ذلك العلم و بهذا ظهر لك ما في تعليقه المرحوم الأصفهاني و غيره.

و يرد ثامناً ان العلم ان كان عبارة عن الملكة فموضوعه هو النفس الانسانية و ان كان عبارة عن المسائل فموضوعه نفس موضوع المسائل إذ لو كان يغايرها حتى بالاطلاق و التقييد لزم ان يكون العلم غير المسائل لاختلاف موضوعه مع موضوعها فان الموضوع هو المقوم و قد اختلفا فيه. و جوابه انه لا

يراد به الملكة لأن الكلام في تميز العلم المدون عن باقي العلوم لأن الكلام في تعلمه و الشروع فيه و عليه فالمراد بالعلم هو المسائل. مضافاً إلى ان إضافة الموضوع إلى العلم لو كانت من إضافة الجزء للكل لزم ذلك و لكنها إضافة بمعنى اللام و هي

باب مدينة العلم، ص: 57

تصح لأدنى ملابسة فباعتبار ان هذا الكلي يبحث في العلم عن عوارضه نسب للعلم و ينسب للملكة الحاصلة منها.

المميز لموضوع العلم الذي ذكره صاحب الكفاية

هذا و قد جعل صاحب الكفاية لموضوع العلم مميزاً و يصلح ان يكون تعريفاً آخراً و هو ان موضوع العلم نفس موضوعات مسائل العلم عينا و يتحد معها خارجا و ان كان يغايرها تغاير الكلي و مصاديقه و الطبيعي و أفراده و ذلك كالكلمة فإنها في الواقع عين الفاعل و المفعول و المجرور و نحو ذلك و أراد" رحمه اللّه" (بالعين) هو الواقع و يقابلها الذهن و قد تعارف عند الحكماء إطلاق العين على ذلك خصوصا في لسان متأخريهم فيكون محصل هذه الخاصة ان موضوع العلم يكون عين موضوعات مسائله في عالم الواقع و التحقق سواء تخالف معها في عالم الذهن و التصور كما لو كان موضوع المسألة أخص منه أو اتحد معها في عالم الذهن و التصور كما لو كان موضوع المسألة عين موضوع العلم كمسالة الكلمة تحذف في الدرج همزة الوصل منها و مسألة الكلمة إذا كانت حرفاً تبنى فان موضوع هاتين المسألتين هو الكلمة و هو عين موضوع علمهما و هو النحو و كعلم العرفان فان موضوعه الذات المقدسة و موضوع مسائله أيضاً الذات المقدسة و الدليل على ثبوت هذه الخاصية لموضوع العلم انه لو لم يكن عينها في الواقع و

كانت مغايرة له لكانت العوارض الثابتة لها أجنبية عن موضوع العلم إذ لا تكون حينئذ عارضة عليه بل عارضة على غيره.

ما يورد على صاحب الكفاية

و يرد عليه أولا ان بعض العلوم موضوعها متعدد كالمنطق فان موضوعه المعلوم التصوري و المعلوم التصديقي و هما متعددان فكيف يكونان عين موضوعات مسائل علم المنطق لأن كل منهما ليس بعين لجميع موضوعات المسائل بل لبعضها.

و جوابه كما قررناه في نقد الآراء المنطقية ان كل علم تخيل فيه ذلك فهو يرجع لموضوع واحد كما فيما نحن فيه فانه يرجع لموضوع واحد و هو المعلوم و إلا كان علمين.

و يرد عليه ثانياً ان محط الكلام في موضوع العلم. العلم الذي هو بمعنى المسائل لأنه هو الصناعة التي تتعلم و تشتمل عليها المؤلفات.

و عليه فيكون موضوع العلم نفس موضوع المسائل من دون ان يغايرها حتى مفهوما و إلا لكان العلم غير المسائل إذ باختلاف الموضوع و لو بجهة يلزمه التغاير بينهما و إلا لما اختلف الموضوع لأن الشي ء الواحد موضوعه شي ء واحد فكيف يدعي صاحب الكفاية" رحمه اللّه" انه يغايرها تغاير الكلي و أفراده.

و جوابه ان العلم عبارة عن مجموع المسائل و الموضوع لمجموعها هو الكلي لأن المسائل إنما ذكرت للبحث في العلم عن عوارضه الذاتية فكان الموضوع لدى الحقيقة لمجموع محمولاتها هو الكلي الذي يقصد معرفة أحواله في العلم و موضوعات المسائل إنما

باب مدينة العلم، ص: 58

ذكرت باعتبار انها محققات لذلك الكلي و مشخصاته إلا انها هي المقصود إثبات المحمول لها بالذات.

و يرد عليه ثالثاً ان من مسائل العلم ما يكون موضوعها عين موضوع العلم مفهوما فان من مسائل علم الطبيعي (كل جسم فله حيز) و موضوع علم الطبيعي هو الجسم و

من مسائل علم النحو الذي موضوعه الكلمة (الكلمة إذا كانت حرفا تبنى) و موضوع علم العرفان هو الذات المقدسة مع ان موضوع مسائله كذلك فكيف يدعي انه يصدق عليها صدق الكلي على أفراده.

و جوابه ان قول صاحب الكفاية" رحمه اللّه" (و ان كان يصدق) ان فيه وصلية للتعميم فيكون المراد انه سواء صدق أم لم يصدق بأن كان عينه مفهوما كما ذكرناه.

و يرد عليه رابعاً انه قد يكون موضوع المسألة جزءاً من موضوع العلم و قد يكون عرضاً لموضوع العلم كمسالة (كل حركة تنطبق على الزمان أو كل حركة بطيئة يتخلل السكون بينهما) في العلم الطبيعي. و الحركة تعرض على الجسم الذي هو موضوع هذا العلم و كمسألة (الأمر العبادي لا يسقط إلا بقصد القربة) في علم الفقه فان الأمر من عوارض فعل المكلّف و كمسألة (حق الزوج النصف) فان الحقية من عوارض فعل المكلف و هو العطاء و من المعلوم صدق الموضوع في العلوم المذكورة على هذه الموضوعات لمسائلها فان الجسم لا يصدق على الحركة و لا فعل المكلف يصدق على الحق و الأمر لأن الأمر صادر من اللّه تعالى و قد أورد هذا الإيراد أستاذنا الشيرازي" رحمه اللّه" و المرحوم القوجاني و بعض المعلقين على الكفاية.

و جوابه ان الموضوع في مثل تلك المسائل يرجع إلى موضوع يصدق عليه موضوع العلم و إلا لما كانت المسألة من مسائل ذلك العلم إذ لا بد ان يكون المحمول فيها من عوارض موضوع العلم و باحثا عنه فما لم يتحد موضوعها مع موضوع العلم لم تكن المسألة باحثة عن موضع العلم و لا محمولها من عوارضه فالحركة باعتبار الجسم المتحرك أخذت موضوعا في مسائل علم الطبيعي و

إلا فلا معنى للبحث عنها فيه لأن المطلوب هو البحث عن حالات الجسم الطبيعي لا عن حالة الحركة فالموضوع في المسألة الأولى هو المتحرك بالحركة و المتحرك بالحركة البطيئة و الموضوع في المسألة الثانية هو امتثال الأمر العبادي و في الثالثة العطاء الذي يستحقه الزوج.

و يرد عليه خامساً انه لا دليل على لزوم عينية موضوع العلم لموضوعات مسائله إذ من الجائز ان يكون الغرض مرتبا على مسألة لم يكن موضوع العلم متحدا مع موضوعها.

و جوابه ما عرفته سابقا ان هذا إنما يتم في العلوم المخترعة لغاية خاصة أما العلوم التي دوّنت لمعرفة حالات شي ء معين لا بد فيها من ذلك و الا لما كانت باحثة عن أحوال ذلك الشي ء.

باب مدينة العلم، ص: 59

و يرد عليه سادساً ان موضوع العلم إذا كان من قبيل الكلي بالنسبة إلى موضوعات المسائل لزم ان يكون محمولات المسائل من قبيل العارض بواسطة الأخص و هو عرض غريب فيلزم ان يكون البحث في العلوم عن العوارض الغريبة.

و جوابه ان الميزان عنده" رحمه اللّه" كما عرفت في كون العارض غريبا كون نسبته لمعروضه بالعرض و المجاز و مع فرض اتحاد الموضوع مع موضوعات المسائل خارجاً تكون محمولاتها منسوبات لموضوع العلم على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز فتكون اعراضا ذاتية. نعم هذا الإشكال يتحكم على المشهور في عدهم العارض بواسطة الأخص عرض غريب و قد كان لهم عدة أجوبة للتخلص منه و من أراد الاطلاع عليها فليراجع كتابنا نقد الآراء المنطقية.

و يرد عليه سابعاً ما ذكره المرحوم السيد البروجردي آقا حسين القمي من ان موضوع العلم هو الجامع بين محمولات المسائل و ان معنى البحث عن عوارضه في العلم هو البحث

عن تعيناته و تشخصاته فموضوع علم النحو هو المعرب و يطلب في النحو تعييناته من الفاعل و المفعول و المضاف إليه و موضوع علم الأصول الحجة التي هي القدر الجامع بين محمولات مسائله و يطلب في علم الأصول تعيناته من السنة و الكتاب و العقل و ان مراد القوم ذلك. و قد بنى هذا الرأي منه على مقدمات خمسة تتلخص.

الأولى منها ان مجموع مسائل العلم تشترك في جهة لا توجد في مجموع مسائل العلم الآخر تمتاز بها عنها كما ان كل مسألة تمتاز بجهة عن المسألة الأخرى. و ان هاتين الجهتين ليستا بخارجتين عن ذوات المسائل فلا بد ان يكونا في الموضوع أو المحمول إذا النسبة معنى حرفي يوجد في جميع القضايا.

و المقدمة الثانية ان الجهة الأولى لا بد و ان توجد في محمولات المسائل في العلوم المدونة لا بد ان يكون مفهوما واحدا كالعلم الإلهي بالمعنى الأعم حيث ان المحمول في مسائله (موجود) فيقال اللّه موجود و العقل موجود و الجسم موجود أو مختلفا يكون بينها جامعة كمحمولات مسائل علم النحو فان بينها جهة جامعة لأنها تعيينات للاعراب فيكون عنوان المعرب هو القادر الجامع بينها بخلاف موضوعات المسائل فهي دائمة مختلفة فلا جهة جامعة بينها و بهذا ظهر ان الجهة الجامعة المميزة بين مسائل العلم عن مسائل العلم الآخر هي الجهة الجامعة بين المحمولات إذ لا جهة جامعة في ذات المسائل غيرها.

و حاصل باقي المقدمات الثلاثة ان مراد القوم بموضوع العلم هو ذلك اعني الجهة الجامعة بين محمولات المسائل لأن النظام الطبيعي للمسألة يقتضي جعل المعلوم من الأمرين موضوعا و المحمول هو المجهول الذي أريد في القضية إثباته و جامع المحمولات في كل علم

هو الذي ينسبق أولا إلى الذهن و يطلب في العلم تعيناته و تعيناته بموضوعات المسائل و هي العوارض الذاتية له لأن العرض الذاتي عند المنطق هو عبارة عن الخارج عن ذات الشي ء و يصلح للحمل عليه و موضوعات المسائل خارجة عن جامع محمولاتها و هي صالحة لأن تحمل عليه فيقال في علم النحو المعرب الفاعل و المفعول فظهر من هذا كله ان موضوع العلم هو جامع المحمولات و يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية و هي موضوعات المسائل لأن المطلوب في العلم إثبات تعيناته و خصوصياته بموضوعات مسائله.

باب مدينة العلم، ص: 60

و جوابه انا لا نسلم صحة المقدمة الأولى فانه يجوز ان تكون الجهة المميزة لمجموع المسائل أمراً لازماً لخصوص هذا المجموع نظير المركَّبات الكيمياوية و يكون مجموع تلك المسائل المختلفة بالذات نظير مجموع الأجزاء الكيمياوية المجتمعة في امتياز المجموع عن المجموع باللوازم و الآثار و هكذا لا نسلم المقدمة الثانية فان للخصم ان يلتزم بأن بين موضوعات المسائل قدرا جامعا نظير ما زعمه في المحمولات المختلفة للمسائل من ان بينها قدراً جامعاً.

و الحاصل ان الاختلاف الذي جعله دائماً في الموضوعات دون المحمولات ان أراد به الاختلاف في التعينات و التشخصات دون الذات فهو موجود في المحمولات كما في بعض محمولات علم النحو و غيره فان الرفع غير النصب و الجر فإنها مختلفة بالتعينات و التشخصات دون الذات إذ الجميع من الاعراب و ان أراد به الاختلاف بالذات بحيث لا يوجد قدر جامع بينها يختص بها فهو مضافا إلى وجود هذا الاختلاف في بعض المحمولات فان علم النحو لا جامع بين بعض محمولات مسائله إذ لا جامع بين الاعراب و البناء. ان الخصم القائل

بتمايز الموضوعات يلتزم بأن موضوعات المسائل بينها قدر جامع و لا يوجد فيها الاختلاف المذكور و أما باقي المقدمات فلا نسلم صحتها فانه لو فرضنا انه يكون جامعا للمحمولات فلا نسلم انه هو الذي ينسبق للذهن اولا فان العلوم التي دونت للبحث عن موضوعات خاصة يكون الموضوع هو المعلوم فيها و قد تقدم ان مدوني العلوم قد دونوها لموضوعات خاصة للبحث عن عوارضها فهو اشبه ما يكون بالترجمة للشخص في كتب التراجم فان الشخص هو الموضوع لها و يبحث عن أحواله التي تنسب إليه حقيقة. ثمّ ان ما ذكره ينافي جعل الموضوعات للمسائل لأنه يقتضي كون موضوعها اسبق للذهن من محمولها لما تقرر في محله من ان القضايا يكون موضوعها اعرف لئلا يلزم الحكم على المجهول و أفراد العام إذا سبقت للذهن و طلب لها المحمول لا شك ان جامعها يكون اعرف من جامع المحمول.

على ان موضوعات المسائل كيف يعبر عنها القوم بالعوارض لجامع المحمولات و العارض عندهم هو الخارج المحمول لا الذي يصلح للحمل و لذا لم يسم أحدهم محمول المسألة موضوعا و يجعل موضوعها عارضا على محمولها و قد قسموا في باب الكليات العرض إلى عام و خاص و اخذوا في مفهوم كل منهما الحمل.

ثمّ ان موضوعات المسائل على مسلكه" رحمه اللّه" إذا كانت عارضة لجامع المحمولات كانت أخص منه فتكون من الأعراض الغريبة إلا على ما تقدم من التوجيه مضافاً إلى ان ما ذكره مخالفاً لما بنى عليه أرباب العلوم من التفسير.

و يرد على صاحب الكفاية ثامناً ان موضوع العلم قد يكون أمرا ذهنيا و موضوع مسائله كذلك كموضوع علم المنطق مع موضوعات مسائله فإنها لا توجد إلا في الذهن فكيف يخص

الاتحاد بين موضوع العلم و بين موضوعات المسائل بالخارج.

باب مدينة العلم، ص: 61

و جوابه انه أراد بالخارج الواقع و نفس الأمر لا الخارج المقابل للذهن و كثيرا ما يطلق الخارج لهذا المعنى في السنة الحكماء و إن شئت قلت خارج كل شي ء بحسبه و يقابله الذهن و هو وجوده التصوري. و يرد عليه تاسعاً ان موضوع العلم لا يلزم فيه ان يكون نوعا لموضوعات المسائل بل من الجائز ان يكون عرضا عليها كالدليلية العارضة على الكتاب و السنة فجعل صاحب الكفاية" رحمه اللّه" التغاير بينهما من قبيل الطبيعي و أفراده يقتضي ان موضوع العلم دائما يكون من قبيل النوع لموضوعات المسائل و هذا لا يلتزم به أحد.

و جوابه ان مراده بافراده الطبيعي هو مصاديقه لا خصوص أشخاصه و الطبيعي يصدق على غير اشخاص كالاسود يصدق على الابيض المتصف بالسواد على انك قد عرفت ان (ان) وصلية تعميمية.

خواص موضوع العلم
و ما به تداخل العلوم و تباينها

(ثمّ انه ذكر القوم) ان موضوع أحد العلمين ان كان مباينا للآخر من كل وجه و ان كان بينهما قدر جامع فالعلمان متباينان على الإطلاق و ان كان أعم منه فالعلمان متداخلان و ان كان موضوعهما شيئا واحدا بالذات متغايرا بالاعتبار فهما متداخلان أيضاً. و قد أطبقوا على امتناع ان يكون شي ء واحد موضوعاً لعلمين من غير اعتبار تغاير بينهما بالجهة و الحيثية. كما أطبقوا على امتناع ان يكون موضوع علم واحد شيئين من غير اعتبار اتحادهما في جنس يكون هو جهة البحث كالمعلوم التصوري و المعلوم التصديقي فانهما إنما صارا موضوع علم المنطق باعتبار اتحادهما في المعلوم و كان البحث في العلم من جهة كونهما من المعلوم أو من جهة اتحادهما في أمر عرضي كبدن الإنسان

و أجزائه و أحواله و الأدوية و الأغذية و نحوها لعلم الطب فإنها تشارك في كونها منسوبة للصحة التي هي الغاية لذلك العلم و كان البحث في ذلك من جهة الصحة العارضة للبدن. و الضابط في ذلك ان يكون البحث عن الأشياء المتعددة من جهة اشتراكها في أمر واحد ذاتي أو عرضي فان العلم يكون واحداً. و أما ان كان البحث لا من جهة اشتراكها بل يكون البحث عن كل من جهة تخصه فالعلم المتكثر و ان كان بينهما جهة مشتركة كالعدد و المقدار المشتركين في الكم مع ان أحدهما موضوع لعلم الحساب و الآخر للهندسة. و أما ان كان البحث عن شي ء واحد بالذات فان كان عن جهتين فالعلم متكثر كاللفظ العربي بالنسبة للعلوم العربية و إلا فعلم واحد.

موضوع علم الفقه

المعروف ان موضوع علم الفقه هو فعل المكلف من حيث الاقتضاء و التخيير و من عبر عنه بأفعال المكلفين فهو يريد ذلك لأن موضوع العلم عندهم لا يتعدد و إذا تعدد تعددت العلوم و هذا نظير من عبر عن موضوع علم الأصول بالأدلة فانه يريد الدليل. و المراد بحيثية الاقتضاء هو اقتضاء الدليل لإتيانه أو لتركه أو تخيير الدليل بين إتيانه و تركه كما لو دل الدليل على وجوب الفعل أو حرمته أو استحبابه أو كراهته أو جزئيته للواجب أو شرطيته له أو مانعيته من صحة العمل و المراد بحيثية التخيير هو التخيير فيما إذا دل الدليل على الإباحة أو عدم بطلان العلم به و بعضهم ان لم نقل أكثرهم قد فسر الحيثية المذكورة باقتضاء

باب مدينة العلم، ص: 62

الخطاب بل لم اطلع على غيره من التفسير. و لا يخفى ما فيه فانه لو

أريد الخطاب اللفظي فيخرج البحث عن الأحكام الشرعية الفرعية التي دل عليها العقل أو السيرة. و ان أريد الخطاب الواقعي المسمى الحكم الشرعي فهو غير صحيح لأنه لو كان هو المراد لقالوا من حيث ثبوت الأحكام الشرعية لها لكان أخصر و أوضح. و كيف كان فيرد على جعل موضوع علم الفقه.

ذلك أولًا: خروج البحث عن أحكام أفعال الأطفال و المجانين كفساد معاملاتهم من عقود أو ايقاعات و فساد عبادات المجنون و استحباب عبادات المميز بناء على انها شرعية لا تمرينية.

و أجيب عنه بأن ذلك استطراد. و لا يخفى ما فيه فإنها لا إشكال في كونها أحكام شرعية فرعية فيكون العلم بها من علم الفقه فيصدق عليها تعريف الفقه و يمكن ان يقال ان المخاطب باحكامهما هو الولي لا الصبي و المجنون كما يخاطب صاحب البهيمة بضمان ما اتلفته حيث فرط في حفظها لتنزيل فعلها في هذه الحالة بمنزلة فعله و أما البحث عن صحة عبادة الصبي من صلاة وصوم و ثوابه عليهما فهي بحث عن أمر عقلي من باب ربط الأحكام باسبابها و لم يكن مخاطبا بها و هو من مباحث الكلام فان استحقاق الثواب ليس من الأحكام الشرعية فهو ليس من علم الفقه حتى يورد على الفقهاء به.

و قد يجاب أيضاً بأن المراد نوع المكلفين فان الغالب في الجمع و لو كان مقترناً بأل إذا اضيف إليه العمل هو إرادة النوع منه.

و يرد عليه ثانياً بأن كثيراً من مباحث الفقه لا يتعلق بالفعل فضلًا عن صدوره من المكلف كمباحث الميراث لا سيما إذا كان الوارث أو المورث أو كليهما غير مكلف. و أجيب عنه بالاستطراد و قد تقدم في الجواب عن الإيراد الأول ما

فيه.

و يمكن ان يجاب ان المراد بالفعل ما يعم غير الاختياري كالموت أو يقال ان مثل هذه الابحاث باعتبار ما يترتب عليها من بيان فعل المكلف صح البحث عنها فان الحث عن ميراث الزوجة الثمن يترتب عليه جواز تصرفها بالثمن و حرمة تصرفها بالمثمن و غير ذلك.

و يرد عليه ثالثاً بأن علم الفقه يبحث في الأحكام الوضعية كالسببية و المانعية و الضمان و الملكية و الزوجية و نحو ذلك و هو ليس بحثاً عن العوارض من حيث الاقتضاء و التخيير لأنه قد عرفت ان المراد من الحيثية المذكورة هي الأحكام التكليفية الخمسة.

و الجواب عنه نظير ما ذكرناه في الجواب عن الإيراد الثاني من ان البحث عنها إنما صار من علم الفقه باعتبار انه يرجع إلى البحث عن الأحكام الشرعية للأفعال المرتبطة بها فان البحث عن سببية الزوال للصلاة يرجع إلى ترتب جواز فعل الصلاة عنده. و لذا كان البحث في علم الفقه عن السببية الشرعية لا السببية التكوينية و قد استراح من هذا الإيراد من أنكر وجود الأحكام الوضعية و ارجعها للأحكام التكليفية فان البحث حينئذ يكون فيها عن الأحكام التكليفية نفسها فقط.

و العلامة الطباطبائي جعل في مصابيحه موضوع علم الفقه هو متعلقات الأحكام الشرعية الفرعية من حيث هي كذلك أي من حيث انها متعلقات الأحكام. ثمّ قال و هي (أي متعلقات الأحكام) اكثر أفعال المكلفين من حيث الاقتضاء و التخيير و قد تكون غير فعل أو فعلا لغير مكلف أو المكلف لا من حيث التكليف بل من جهة الوضع كما في الأحكام الوضعية انتهى.

باب مدينة العلم، ص: 63

و لعله فعل ذلك فرارا عن الايرادات المذكورة و لا بد انه" رحمه اللّه" أراد الكلي

المنطبق على موضوعات مسائل علم الفقه و إلا لزم تعدد الموضوع لعلم واحد و قد سلك هذا المسلك صاحب الكفاية في جعله موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائل علم الأصول من دون تعيينه و تشخيصه و قد اشكلنا عليه في كتابنا نقد الآراء الأصولية من الغرض من ذكر موضوع العلم هو البصيرة في الشروع في العلم ليميزه عما عداه كما ذكره القوم و اتفقت عليه كلمتهم و مع الاشارة المبهمة إليه و التعبير عنه بعنوان مجمل لا يحصل به ذلك.

مضافاً إلى ان مقتضى تحديد الموضوع ان يكون الموضوع معلوماً معيناً باسمه أو عنوانه و إلا فكيف يبحث في العلم عن عوارض شي ء و هو مجهول لدى البحث و لا يعلم إلا بعنوان يؤخذ من نفس متعلقات العوارض.

و يرد عليه رابعاً أن الحيثية المأخوذة في موضوع العلم أما ان تكون تعليلية مأخوذة من علة وجود الموضوع فهي لا تنفع لأن علة نفس وجود الموضوع مشتركة بين جميع العلوم الذي جعل موضوعا لها و أما ان تكون مأخوذة من علة موضوعيته للعلم فهي أيضاً لا تنفع لأنها عبارة عن البحث عن عوارضه و هو مشترك بين الجميع و أما ان تكون مأخوذة من علة عروض محمولات العلم على موضوعه فهو فاسد ضرورة ان المسائل لم يؤخذ في ثبوت المحمولات لموضوعاتها علة ثبوت هذه المحمولات لموضوع العلم و قد عرفت انه لا بد من اعتبار ما يؤخذ في موضوع العلم في موضوع المسألة و إلا لكان موضوع المسألة أجنبياً عنه على ان العلل متعددة فيلزم ان يكون موضوع العلم متعدداً بتعددها. و أما ان تكون الحيثية تقيدية فلا يخلو أما ان تؤخذ من محمولات المسائل

فيلزم ان تؤخذ المحمولات في موضوعات المسائل لأنها كما عرفت عين موضوع العلم فيلزم تكرر النسبة و انقلاب القضية إلى ضرورية لأنها تكون قضية بشرط المحمول. و ان أخذت من استعداد الموضوع للحوق المحمولات باعتبار ان الشي ء قد تكون له استعدادات مختلفة و بحسب كل استعداد يكون موضوعاً لعلم كاللفظ العربي تارة يلحظ من حيث خصوص استعداده لقبول الاعراب و البناء فيكون موضوعا لعلم النحو و أخرى يلحظ من حيث خصوص استعداده لقبول الاعلال و الصحة فيكون موضوعا لعلم الصرف و أخرى يلحظ من حيث استعداده لقبول المحسنات البديعية فيكون موضوعا لعلم البديع كما هو المحكي عن السبزواري الحكيم" رحمه اللّه" فهو أيضاً فاسد لأنه لا يستدعي ذلك اختلافا في الموضوع لأن استعداده لقبول نوع خاص من المحمولات لا يباين استعداده لقبول النوع الآخر من المحمولات لعدم التنافي بين الاستعدادين. أ لا ترى ان اللفظ العربي باستعداده لقبول الإعراب يبحث عن عوارضه الذاتية من حيث الاعلال و الصحة و الفصاحة و البلاغة فلم يكن بين موضوع هذه العلوم تغاير مع ان الماهية الواحدة لها استعداد واحد لعروض سائر العوارض عليها لا استعدادات متباينة لأن الذات واحدة فمقتضاها يكون واحداً لأن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد مع ان موضوع العلم متحد

باب مدينة العلم، ص: 64

مع موضوع المسألة فالحيثية لو كانت معتبرة في الموضوع للعلم لكانت معتبرة في موضوع مسائله مع انها غير معتبرة فيه و ان أخذت الحيثية التقيدية من غرض العلم فحينئذٍ رجع التمييز بين العلوم إلى الأغراض و ان أخذت الحيثية من جهة البحث فمثلًا إن علم الفقه لا يبحث عن جميع عوارض فعل المكلف بل يبحث فيه من حيث الاقتضاء

و التخيير و علم النحو لا يبحث عن جميع عوارض اللفظ العربي بل يبحث فيه من حيث الإعراب و البناء كما ذهب إليه صاحب الفصول بدليل ان الفاعل بما هو فاعل موضوع للرفع لا بما هو كلمة معربة أو مبنية موضوع له. فهو فاسد لأن قيود الحث لا توجب تقييد الموضوعات كما لا توجب تقييد المحمولات و تخصيصها بحد خاص و ذلك لأن البحث من توابع الموضوع و المحمولات فهو متأخر عنها رتبة و في مرحلة التعقل و إذا ثبت ان الموضوعات و المحمولات لا تصلح ان تتقيد بقيد البحث فلا يعقل ان يكون قيد البحث يحد تلك المحمولات أو الموضوع و إلا لزم أخذ ما هو متأخر رتبة في المتقدم رتبة و هو محال. مضافاً إلى ان الحيثيات المذكورة ثابتة في الموضوعات و المحمولات قبل البحث و البحث إنما يتعلق بها بأجمعها فكيف يعقل ان يقيد بها فان ما أخذ في المتعلق لا يكون قيداً للعارض عليه إذ المتقدم لو أخذ نفسه في المتأخر لزم تقدمه على نفسه و لذا قيود المعلوم لا تكون قيداً للعلم و بهذا ظهر لك فساد ما ذهب إليه بعض مقرري بحث النائيني" رحمه اللّه" أخذاً من صاحب الفصول من رجوع الحيثيات إلى البحث. و أما ان جعلت الحيثية اشارة لعنوان منتزع منطبق على الموضوع بأن يكون الموضوع في الحقيقة هو ذلك العنوان كما يقال اكرم زيد من حيث علمه فان الموضوع في الحقيقة ليس هو زيد من حيث هو بل العالم المنتزع من الحيثية فقولهم موضوع النحو اللفظ العربي من حيث الإعراب و البناء معناه ان موضوعه المعرب و المبني و هكذا مرادهم موضوع علم الصرف اللفظ العربي

من حيث الصحة و الاعتلال يعنون ان الموضوع له هو الصحيح و المعتل و ان ما عبروا بالحيثيات لبيان إن مورد الموضوعين واحد و هو أيضاً فاسد فان الحيثيات المذكورة لا تصلح لأن تكون العناوين المنتزعة منها مواضيع للعلم فان علم النحو لا يصلح عنوان المعرب بما معرب ان يكون موضوعا له لأنه بما هو معرب لا تعرض له المحمولات في مسائله كالرفع و النصب بل تكون أجزاء مقومة له هذا مضافا إلى إنا لو التزمنا بذلك لم تكن المسألة الواحدة مشتركة بين العلمين لاختلاف موضوعها فيها فمسألة الجمع في النحو تكون هو المعرب من الجمع و في الصرف هو الصحيح من الجمع مثلا لما عرفت ان موضوع العلم معتبر و متحد مع مسائله و إلا لما كانت باحثة عنه.

و يمكن الجواب عنه ان الحيثية تكون اشارة إلى الاستعداد الموجود في الموضوع لقبول نوع خاص من المحمولات و ما ذكره الخصم من عدم التنافي بين الاستعدادين فلا يكون تغايراً بين الموضوعين لعدم التباين بين الحيثيتين فاسد لأنه بما هو مقيد بهذا الاستعداد يغاير نفسه بما هو مقيد باستعداد آخر فانه بكل استعداد له عنوان غير العنوان المنتزع له من الاستعداد الآخر و لذا العوارض التي تعرض له بأحد الاستعدادين لا تعرض له بما هو مقيد بالاستعداد الآخر و حيثية أحد الاستعدادين تمنع من حمل محمولات الاستعداد الآخر عليه فان زيد من حيث انه عالم لا يحمل عليه إلا شئون العالمية دون الهاشمية و لذا قيل الماهية من

باب مدينة العلم، ص: 65

حيث هي ليست إلا هي مع انها لها عوارض أخرى. و عليه فاللفظ العربي بما هو معرب و مبني غيره بما هو صحيح

و معتل و غيره بما هو فصيح و بليغ فان الشي ء الواحد يختلف بالوجوه و العناوين المنتزعة منه و لذا يختلف أحكامه باختلافها و عدم التنافي بين الحيثيات إن أريد به مجرد اجتماعهما فهو صحيح إذ لا ينكر ان الاستعدادين ثابتان له في الواقع لماهيته و لكن لا ينفعه و ان أريد انهما معتبران في الموضوع معاً فهو غير صحيح لأن الموضوع لعلم النحو هو اللفظ العربي بما هو معرب و مبني لا بما هو فصيح و بليغ فاشتبه عليه حال التقييد بشرط التقييد.

(و ما ذكره) الخصم ان الماهية لها استعداد واحد لا استعدادات متعددة (فاسد) لأن الجنس مستعد لقبول الفصول و هي متباينة فلو لم يكن له استعدادات متعددة لما كان له قبول لأمور متباينة.

و ما ذكره الخصم من ان موضوع المسألة متحد مع موضوع العلم فالحيثية لا بد ان تعتبر فيه لو كانت معتبرة في موضوع العلم مع انها غير معتبرة في موضوع المسألة فاسد لأن موضوع المسألة بمناسبة ذكر المحمول يستغني عن ذكر الحيثية معه و تكون ملحوظة إجمالًا في المسألة.

الفصل الثالث: في الغاية من علم الفقه و شرح غاية كل علم و وجه التمييز بها

الغاية لكل علم

اشارة

الأمر الثالث من الأمور التي تذكر في مقدمة العلوم هو بيان الغاية من تدوين هذا العلم بعد ذكر تعريفه و بيان موضوعه لأمور:

أحدها أن لا يكون طلبه عبثاً فان الإنسان الذي يشرع في العمل إذا لم يكن مدركاً للفائدة منه كان طلبه له و شروعه فيه عبثا لا يرضى به العقل.

و ثانيها ان يحترز من الاعتقاد بوجود فائدة أخرى هي ليست له فيكون سعيه بلا جدوى و عمله بلا فائدة.

و ثالثها ان بيان الغاية يوجب معرفة ما للعلم من الأهمية فيسعى بمقدارها في تحصيله له.

و رابعها انه يعرف بذلك انه يوافق

غرضه و مقصوده في هذه الحياة أم لا ثمّ انك قد عرفت ان بيان الغاية للعلم بمنزلة مطلب (لِم) لأنه بيان لعلة وجود هذا العلم و السبب في تدوينه

و قبل الخوض في بيان غاية علم الفقه نقدم مقدمتين:
الفرق بين الغاية و الفائدة و الغرض و العلة و المنفعة

(إحداهما) ان الغاية و الفائدة و الغرض و العلة الغائية و المنفعة ألفاظ متقاربة في المعنى. أما الأولان فمتحدان ذاتا متغايران اعتباراً فان الشي ء باعتبار انه طرف الفعل و آخره يسمى غاية و باعتبار الترتب عليه يسمى فائدة و لا يلاحظ في شي ء منهما كونه باعثاً للفاعل على الفعل، و أما الآخران فيلاحظ فيهما الباعثية للفاعل على الفعل و هما في الاتحاد بالذات و التغاير بالاعتبار مثل الأولين إذ الأول و هو الغرض إنما يطلق بالقياس للفعل و

باب مدينة العلم، ص: 66

الثاني هو العلة الغائية إنما يطلق بالقياس إلى الفعل فان التأديب مثلا علة غائية للضرب و هوة غرض للضارب. و أما الخامس و هي المنفعة فهي عبارة عن الفائدة التي يتشوقها الكل بمقتضى طبعهم.

(ثانيهما) ان الشي ء قد يكون مقتصراً بذاته و يراد لذاته

فتكون غايته عين ذاته و لا غاية له وراء ذلك كعلوم العقائد و قد يراد لغيره. و حيث ان ما بالغير لا بد و ان ينتهي إلى ما بالذات فلا بد ان ينتهي الأمر إلى شي ء يراد لذاته و يكون ذلك الشي ء هو الغاية الذاتية و المتوسطات بينه و بين ذي الغاية غايات بالعرض، فمثلا علم النحو يراد لغيره و هو صون اللسان و صون اللسان قد يريده الإنسان لذاته و قد يريده لكمال نفسه فيكون المقصود بالذات هو كمال النفس.

الغرض من علم الفقه

اشارة

إذا عرفت ذلك فنقول ان الفقهاء قد ذكروا ان الغرض من علم الفقه و تدوينه و تعليمه و تعلمه هو تحصيل السعادتين و الفوز بالدارين الدنيوية و الاخروية و الخلاص من الشقاوة الأبدية. و تحصيل السعادة و الخلاص من الشقاوة هما مقصودان بالذات و لا بد ان يكون مرادهم هو حصول ذلك بمراعاة قوانينه و العمل بها و ان لم يصرحوا بذلك لوضوح انه لو لا العمل بها لم يحصل ذلك. و يمكن ان يرد عليهم أولا أن هذه الغاية تحصل بمعرفة علم الكلام أيضاً لاشتماله على بيان الواجبات الاعتقادية الأصولية التي هي أهم من الواجبات الفرعية و غاية العلم يجب أن تختص به لأن العلم عبارة عن مسائل جمعت لترتب غرض مهم عليها فيكون كل ما له دخل في الغرض داخلا في ذلك العلم و لازمه ان الغرض لا يترتب على علم آخر و لذا قيل ان تمايز العلوم بتمايز الأغراض.

اللهم إلا ان يقال إنا لا نسلم اختصاص غاية العلم به و ما ذهب إليه بعضهم من ان تمايز العلوم بتمايز الأغراض إنما يتم لو كان العلم إنما ألف لتحصيل غاية خاصة لا

لبيان أحوال موضوع خاص فانه لو كان للثاني فلا مانع من ترتب غاية و غرض عليه تترتب على علم آخر.

و يمكن ان يجاب عن ذلك بأخذ الحيثية بأن يقال ان الغاية هي تحصيل السعادتين من حيث العمل و علم الكلام تكون الغاية منه ذلك من حيث الاعتقاد.

و ثانياً ان هذه غاية لتشريع الأحكام الشرعية لا لعلم الفقه إذ العمل بنفس الأحكام الشرعية موجب لذلك و لذا المقلّد العامل بالأحكام الشرعية تحصل له تلك الغاية. و من الواضح ان تشريع الأحكام الشرعية غير علم الفقه فان علم الفقه عبارة عن البحث عن الأحكام و اثباتها بالأدلة. و يمكن الجواب عنه بأن غاية كل علم هي التي تترتب على العمل به فالمنطق غايته صون الذهن عن الخطأ و هي لا تكون إلا بالعمل بقوانينه التي شرعت من قبل جاعلها. و هكذا النحو و الصرف غايتهما صون اللسان عن الخطأ في المقال و هي لا تحصل إلا بالعمل بقوانينها و أما كون ذلك غاية للتشريع فهو لا ينافي ما ذكرناه فان كل مشرع للقوانين يتوخى الفائدة المرتبة على ملاحظة تلك القوانين و رعايتها و العمل بها. و العلم الذي يوضع لها إنما هو لمعرفتها حتى يترتب الغرض من تشريعها على العمل بها المتوقف على معرفتها. فالغاية من كل علم هي ما قصده الواضع من تشريع قوانينه عند العمل بها اعني ما يترتب على

باب مدينة العلم، ص: 67

العمل بها من الفائدة و تلك الفائدة تكون هي الغاية من العلم بتلك القوانين باعتبار انه بملاحظتها و العلم بها و العمل بها تترتب تلك الفائدة و فيما نحن فيه كان الأمر كذلك.

و يرد ثالثاً بحصول الغاية المذكورة للمقلد إذا

علم بالأحكام الشرعية عن طريق التقليد فتكون الغاية المذكورة مرتبة على العلم من الفقه و على العلم من التقليد و ليست مختصة بالعلم من الفقه.

و جوابه انها تختلف بالحيثية فالغاية الحاصلة من العلم بالفقه هو الفوز بالسعادتين من طريق الاجتهاد و الغاية الحاصلة من علم المقلد هي الفوز بالسعادتين من طريق التقليد و لا إشكال ان الأولى اعظم شأناً و اكثر ثواباً من الثانية كما دل على ذلك العقل و النقل.

ما ذكره حكماء الإسلام و علماؤهم من الغايات

و إلى الغاية المذكورة لعلم الفقه يرجع ما ذكره حكماء الإسلام من أن غاية علم الفقه هي حفظ الفرد بنهيه عما يضره و أمره بما ينفعه و حفظ النوع من الفساد بالهرج و المرج لاحتياج بعضهم إلى بعض في حياتهم الدنيوية فان الإنسان مدني بالطبع فلا بد لهم من قانون يحفظهم من ذلك قالوا و الغاية من تشريع العبادات مع انها لا علاقة لها بالغاية المذكورة هي ان النظام المذكور يحتاج في طاعته الخوف من العقاب على مخالفته و الثواب على فعله و هما إنما يحصلان بالتذكر عدة مرات للمشرع لذلك النظام و وعده و وعيده و العبادات يحصل بها التذكر المذكور.

و بعضهم جعل غايته حفظ الشريعة الإسلامية عن الضياع و يرد عليه أولا ما أوردناه على جعل الغاية تحصيل السعادتين من ترتب هذه الغاية على العلم بالفقه من طريق التقليد حيث انه بالتقليد تحفظ الأحكام الشرعية الفرعية.

و الجواب عنه مضافا إلى ما سبق من جواب الإيراد الثالث انه يمكن ان يقال ان بكثرة الاختلافات فيها صار التقليد غير حافظ لها على سبيل اليقين بخلاف ما لو أخذت من الدليل فانه يحصل له الاطمئنان بالظفر بالواقع.

و بعضهم جعل غايته حفظ المقاصد الخمسة و هي

الدين و النفس و العقل و النسب و المال. و بعضهم جعل الغاية من علم الفقه هو إثبات الأحكام الصادرة من الشارع من حيث صدورها عنه لا من حيث صحتها و ثبوتها الواقعي و لا من حيث اشتمال متعلقاتها على المصالح أو المفاسد و لا يضر ذلك توقف ثبوتها من هذه الحيثية على ثبوت الشريعة الذي هو من المطالب الكلامية و لذا عدوا علم الكلام من مبادئ الفقه التصديقية فان الكثير من غايات العلوم تتوقف على غيرها و لذا كان لها تقدّمٌ عليها.

و يرد عليه ما لا يخفى فان الاثبات المذكور عبارة عن نفس العلم المذكور فيكون المغيى و الغاية واحد. و هذا و ان صححناه في العلوم التي تقصد بذاتها لذاتها و تطلب بنفسها لنفسها كعلم العقائد لكنه إنما يتم في العلوم الواجبة و المطلوبة بالذات لا العلوم المطلوبة للغير و علم الفقه إنما هو مطلوب للعمل به.

و الأولى ان تجعل غاية علم الفقه هو اطاعة اللّه و الفرار من مخالفته في العمل عن اجتهاد لا عن تقليد بمراعاة مسائله. فانه هو المقصود بالذات من تعلم علم الفقه و الاطلاع عليه. نعم الغاية من ذلك هو نيل السعادة في الدارين و الفوز بالنشأتين الدنيوية و الأخروية و يمكن أن يجعل له فوائد أخرى.

باب مدينة العلم، ص: 68

إحداها ان العلم المذكور مع الورع و التقوى موجب للتحلي بثوب الزعامة الإلهية و الرئاسة الدينية التي خص اللّه تعالى بها اولياءه و اصفياءه و هي مما يبذل في تحصيلها النفس و النفيس.

ثانيها الخروج من حضيض التقليد إلى ذروة الاجتهاد و المعرفة للأحكام عن دليل. قال اللّه تعالى يَرْفَعِ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

دَرَجٰاتٍ فخص اللّه العلماء بالذكر مع اندراجهم في المؤمنين رفعاً لمنزلتهم.

ثالثها تعليم المسترشدين بايضاح الحجة لهم و إلزام المعاندين باقامة الدليل عليهم.

رابعها حفظ الأحكام الشرعية الفرعية عن ان يزيلها مرور الأيام و يسدل عليها ثوب النسيان أو تلوثها شبهة الجاهلين و تشكيكات المعاندين.

خامسها وقوع الأعمال العبادية و المعاملية عن عقيدة لا عن تقليد.

سادسها الإرشاد للمصالح الدينية و الدنيوية بالاطلاع على أسرار الشريعة الإسلامية. و لا بأس من نقل بعض الشذرات من خطبنا و كلماتنا في فوائد الدين و الثمرات القيمة التي تحصل من التمسك به.

كلمتنا في المولد النبوي

(فمن ذلك) من كلمة لنا في المولد النبوي" صلى اللّه عليه و آله" نشرتها مجلة الثقافة 26، ج 2، ثمّ ما فتئ الأمر حتى تعاكست أنوار الإسلام النفوس و استعبرت به المدارك و العقول يختال بأنظمته القيمة و أصوله الكاملة المبرمة الحقب و الازمان حتى اصبح و من ورائه شعب صار مؤمنا بعقائده مندفعاً بمبادئه لا تأخذه فيها لومة لائم. و لا يهاب في الدفاع عنها سطوة جائر غاشم فأزال مماليك الشك و هدم تقاليد الإلحاد و استأصل العادات القبيحة و نشر الآداب الحسنة و قلب الوضع العالمي رأساً على عقب و ركّز الاخاء في الروح و التعاون على الخير و الصدق في القول و العمل التي تحيى بها الإنسانية و تزدهر بأشعتها البشرية. ناهيك به من انقلاب زعزع أركان دولتي الشرق و الغرب الروم و الفرس و أراح الشعوب من الاستبداد و الاستعباد الذي أرهقها صعوداً و جشمها كئوداً و خلصها من تقاليد ثقيلة لا يطاق حملها و جردها من عقائد تشبه الألغاز و الأحاجي في ابهامها و غموضها و هيأها للدخول في أدوار جديدة من حياة سعيدة موفورة

بالحرية بعد ان غلب عليها الشقاء و ألبسها الحضارة بعد ان كانت بعيدة عن مفاهيم الناس بعد الأرض عن السماء. و تلى ذلك كله ما نراه اليوم من النهضة المستمرة في عالمي العلم و العمل حتى انك لا تجد نظرية تأسست بعقول راجحة و ادمغة ناضجة يكون لها الأثر القيم في تطور الحياة البشرية و ترقيها في مدارج الكمال إلا و هي صدى آية من آيات الكتاب المجيد أو حديث من الأحاديث الشريفة للنبي الكريم.

مقالنا الذي نشرته صحيفة الأمة

(و من ذلك) مقالنا الذي نشرته صحيفة الأمة اللبنانية في عددها 31 لسنتها الثانية تحت عنوان (الإنسانية في طريقها إلى الفناء أو خدمة الدين للإنسانية). ان الإنسان بوضعه الفردي أو وضعه الاجتماعي مفطور على حب الذات و الإيثار لها على الغير مهما بلغ من درجات الرقي و الكمال و هذا الحب و ان جرَّ للإنسان الخير و جعله طالباً للسعادة و الهناء إلا انه لا يزال يدفعه للتغلب على الغير و السيطرة على مقدرات الحياة فتجد الفرد يسابق الآخر ليكسب المغنم لنفسه دون غيره و تجد الأمة تطاول الأخرى لتفوز

باب مدينة العلم، ص: 69

بالفائدة لذاتها دون من عداها. و ما الصراع قائم بين الأمم في هذا الزمن الذي كاد أن يضرم البشرية بنار يفنى فيها الصغير و الكبير و يلتهب اليابس و الأخضر إلا نتيجة لحب الأمم لذاتها و لا تستطيع اشد القوانين المدنية الصارمة مهما صقلتها العقول ان تقف دون هذه الغدة النفسية التي لا زالت تفرز اشد الويلات على البشرية ما لم يكن الرادع فطريا مثلها يغزوها في وكرها و يقضي عليها في مستقرها و ليس هو إلا العقيدة الدينية المرتكزة في النفوس فإنها هي التي

تصرعها في مغرسها و تغتالها في وكرها و معرّسها و تسيّرها نحو السعادة البشرية بأحسن طرقها. و ان كثيراً من الملحدين قد ادركوا هذه الحاجة للوازع الديني و الرادع الإلهي و لكن روحهم الالحادية لا تتركهم يتدانون للحق فيعترفون إن غير الدين لا يمكن ان يكون رادعا لتلك الغريزة الحيوانية و ليست الأحكام المدنية و القواعد الاخلاقية كافية لدوام نظام المجتمع و الحالة ان الإنسان مفطور على حب نفسه و استئثارها على غيره بفواتن الحياة و لذائذها و سواحرها و لا يتحاشى عن أضرار الناس ما رأى نفسه بعيدة عن مراقبة القانون ما لم يكن يشعر بمراقبة غيبية قدسية تطلع مستسر سره و مكنونات نفسه أينما وجد و أينما حل و هذا لا يتوفر لنا ما لم نحيِ بالانسان الغريزة الاعتقادية و الإيمان بالمراقبة الإلهية و الخوف الشديد من تجاوزه على شريعته الدينية. و لعل احسن شاهد نقيمه على ذلك هو انك لو فتحت دفاتر الجرائم في محاكم العدل في سائر الدول الكبيرة و الصغيرة لا تجد في المجرمين من المؤمنين واحداً من ألف و هذا الاستقراء أدل دليل على محاربة العاطفة الدينية للاجرام و موجباته و اسبابه. ألا و ان عدم ادراك الشعوب للقيم الروحية و عدم التفات حكوماتها لمحاسن الثقافة الدينية جعلها بعيدة عن هذه الناحية فسنت قوانين صارمة و فتحت مدارس جامعة لو انفقت بعضاً من ذلك على إضافة الثقافة الدينية إلى الثقافة العلمية لكان خيراً لها و احسن سبيلا حيث بها تنتشل الإنسانية من غمرات الحروب و لهواتها و تبعدها عن مأساة الشرور و آلامها و تنصرف للصالح العام و النفع التام و تجعلهم اخواناً على سرر متقابلين قد تناسوا الفوارق

بأنواعها. و لا اعني بالثقافة الدينية هو مجرد اللقلقة اللسانية و التقاليد المتبعة و إنما اعني بها تركيز العقيدة الدينية في النفوس بحيث تلتهب بها العاطفة و تلتاط بالضمائر و الدخائل و يبذل فيها النفس و النفيس بعد الشعور بأنها التحفة الملكوتية التي ضمنت للعالم الانساني سعادة الدارين و خير النشأتين. و ربما يتخيل المتخيلون ان الدين يصطدم بالعلم الحاضر و لكن الأمر بالعكس فان العلم قد أزال كثيراً من الحجب الكثيفة عن حقائق الدين و لا زال يخدم الدين حتى عند الملحدين فيُدخِل إلى ما استسر في نفوسهم من دخائل الإلحاد فيطبع فيها صوراً عالية من المبادئ الدينية لا تزال تطفح على أقلامهم من دون ان يكونوا هم شاعرين بها فهذا (شبلي شميل) الملحد المعروف يقول في جملة من كلامه (ان الشرائع اجتماعية أو دينية غرضها واحد و هو صلاح حال الإنسان و واضعوها من أنبل المصلحين غاية و الشريعة الإسلامية خاتمتها و فذلكتها و انها الشريعة الوحيدة الاجتماعية العليا المستوفاة التي ترمي إلى أغراض نبيلة دنيوية حقيقية و ان الدين الإسلامي نظام عملي مادي قانوني يتكفل بصلاح حال المجتمع. انتهى) و ان لنا على كلامه هذا اصح شاهد فهذه الأمة العربية كانت بلادها قاحلة و هي على شظف من العيش و انحطاط في درجات سلم العلوم و العرفان تتحكم في عراقها الفرس و في تخوم شامها الروم فارتقت بعد أن منَّ اللّه تعالى عليه بالإسلام أقصى ذرى المجد و تحكمت في ممالك فارس و الروم و حيث إني أريد ان اعالج الموضوع و

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، باب مدينة العلم، در يك جلد، مؤسسه كاشف الغطاء، ه ق

باب مدينة العلم؛ ص: 70

باب مدينة العلم، ص: 70

الجواب عن الشبهة المذكورة عن طريق يؤمن به الملحدون و يدين به الجاهلون لذا كان لزاماً عليَّ ان استشهد بقول من تركن نفوسهم إليه من ان الدين لا تنافى مع العلم فقد سبق منا كلام شبلي و إليك ما صرح به العلامة هرشل حيث يقول كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته فالجيولوجيون و الرياضيون و الفلكيون و الطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صروح العلم و هو صرح عظمة اللّه وحده. و هذا الفيلسوف الغربي صاحب كتاب ثمرات الحياة يقول انه توجد فوق الإنسان قوة أزلية أبدية ينشأ عنها كل شي ء و ما احسن الكلمة المأثورة عن (باكو) التي يقول فيها ان العلوم الطبيعية إذا رشفت بأطراف الشفاه أبعدت عن اللّه تعالى و ان شربت عبا اوصلت إليه تعالى. و هذا الدكتور الذري أخي محمد قال لي إني كنت مقلداً في عقيدتي الدينية أما اليوم بعد درسي للعلوم الطبيعية و تعمقي فيها و خوضي في الذرة و مجرها آمنت بالدين الإلهي ايمانا لا يشوبه شك و لا تزلزله أي شبهة لله الحمد.

خطبتنا في عيد الأضحى في الصحن الحسيني

(و من ذلك) من خطبة لنا بعد صلاة عيد الأضحى في صحن الحسين" عليه السلام" سنة 1382 ه و هي بعد البسملة.

أيتها الأمة المسلمة

حييتم بأبهى تحية تمتزج باللطف الإلهي و العناية الربانية و إذا حييتكم فإنما أحيي قلوبا يقظة و عواطف نبيلة و نفوساً طاهرة تجشمت العناء و التعب في سبيل اعلاء كلمة اللّه و الدعوة لدينه. ان تركيز الدين ضروري للمجموعة الإنسانية على حد ضرورة نشر المعارف فيها بل يزيد عليها بمراتب كثيرة بل

اكثر لما في انتشار المادية و تفشي الالحادية من خسارة الفرد و العائلة و المجتمع. أما خسارة الفرد فلشعوره بأن حياته و ما يحيطها أمر محدود يفنى بفناء الدهر و ينقضي بانقضاء الزمن و هذا ما يجعله في حزنٍ و كمد عند التفاته لذلك و في أسفٍ و تألم عند ادراكه محدودية حياته بل تصبح نفسه ضعيفة إمام محن الأيام و طوارق الزمان فلا يحتمل ابسط الحوادث المؤلمة و اقل الوقائع المزعجة بخلاف المؤمن بربه المتمسك بدينه فانه تضعف في نظره الحوادث بمقدار قوة إيمانه و شدة عقيدته و اني وجدت الكثير ممن آمن بالله لو فقد عزيزه كان كمن سافر عزيزه عنه و يلتقي به بعد حين و إذا حل به البلاء آنس نفسه بما يناله في الآخرة من الجزاء و هوّن عليها الخطب يوم الحساب يوم الاجر و الثواب. و أما خسارة العائلة فهو لا يأمن على عرضه و لا على نفسه و لا على ماله من أهل بيته عند فقدهم العقيدة الدينية فان سلطان الشهوة لا يقهره شي ء لا شرف النفس و لا حسن التربية إذا جد الجد و خلا له الوقت إلا تمركز العقيدة بالله و الحوادث التاريخية أدل دليل على ذلك فقد شهد الكثير منها ان البيت الذي يفقد الوعي الديني تتحكم اللذات الحيوانية بمقدّراته و تكون المادة العمياء هي المقياس الوحيد في حياته و إذ ذاك تنعدم الثقة حتى في أهم أركانه فلا أمان لصاحبه بزوجته و لا لزوجته الأمان به و لا ثقة له بذويه و لا لذويه ثقة به كما لا يطمئن على حياته فيما لو اقتضت الميول البيتية القضاء عليها و لا يأخذه القرار على ماله

و لا على ما في يده فيما لو أراد البيت غصبها من عنده أو سرقتها منه و لنا على ذلك شواهد سجلها التاريخ و قضايا دونتها المحاكم المدنية و عند ذلك ينهار البيت و يزول الحنان و التعاطف من بين يديه و يصبح صاحبه في شقاء مستمر و ذووه في خشية و خوف دائم

باب مدينة العلم، ص: 71

و سرعان ما ينحل الاخاء و يذهب الولاء. و أما خسارة المجتمع فهي لا تحتاج إلى بيان حيث تزول بانعدام القيم الدينية كل صفة انسانية كمالية عن النفوس و تتحكم فيها الأهواء و الرغبات فلا صدق في اللهجة و لا أمانة في المعاملة و لا إخلاص في العمل و تصبح الأمة بين أمرين أما بهائم خرساء في قبضة سائقها و آلة صماء في يد عاملها لا تملك من أمرها شيئاً و أما تخبط في عشواء و تعيش في خطية عمياء تعصف في أجوائها مختلفات الأهواء و تهب في ارجائها الفتن الخرساء. ألا و ان فقدان الوعي الديني في وسطنا الاجتماعي هذا اليوم أوجب ان نصبح في ظرف عصيب و وقت رهيب نقطع فيه اصعب المراحل الخطيرة في تاريخنا الحديث فالصراع قائم بين الأمم الكبيرة و الحق تطغى عليه القوة و على الأماني المنايا و شبح الموت و الفناء يرفرف على العالم كله و أبطال الحرب و مديرو دفاترها يوالون الاجتماعات اثر الاجتماعات و يعقدون المؤتمرات اثر المؤتمرات لإضرام البشرية بنار لا يسهل اخمادها و اثارة فتنة صماء يصعب الخروج منها

المطلب الثاني: في الشريعة و التشريع و فيه فصول

الفصل الأول في معناها و تقسيمها و أي قسم منها يختص باسم الدين

و حيث ان الفقه إنما يكون في الشريعة الإسلامية كان لزاماً علينا ان نتعرض لمعنى الشريعة فنقول ان الشريعة لغة الطريقة المستقيمة. و اصطلاحا عبارة

عن الأحكام و القوانين التي سنت للمصلحة سواء كانت للفرد أو المجتمع و سواء كانت متعلقة بالأفعال أو بالعقائد أو تهذيب النفوس و هي قد تكون سماوية إذا كان المشرع لها هو اللّه تعالى كالشريعة الإسلامية و قد تكون مدنية إذا كان المشرع لها هو الإنسان كشريعة حمورابي فاطلاق الشريعة على الأحكام باعتبار انها الطريق المستقيم الذي يوصل من يسلكه لصالحه و سعادته كما ان الشريعة السماوية تسمى بالدين باعتبار لزوم التدين بها من رب العالمين و الفرق بين التشريع و الشريعة ان التشريع هو سن تلك الأحكام و القوانين و الأنظمة و الشريعة هي نفس القوانين و الأنظمة و الأحكام. و بهذا يظهر لك الفرق بين التشريع و الاجتهاد و التفقه فان التشريع هو سن الأحكام و القوانين و ايجادها. و الاجتهاد هو استنباط الأحكام و القوانين من أدلتها و مصادرها. و التفقه هو معرفة القوانين و الأحكام و الأنظمة من أدلتها. و عليه فليس الفقيه و المجتهد بمشرع و ليس هما من السلطة التشريعية. ثمّ ان الشريعة و المنهاج في لسان الشرع شي ء واحد قال تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهٰاجاً و لكن يظهر من بعضهم ان الشريعة هي الأصول و القواعد الدينية و المنهاج هو الذي يفصّل هذه القواعد.

و الحاصل ان الشريعة و المنهاج عبارة عن نفس الأنظمة و القوانين و الفقه هو معرفتها من الأدلة القائمة عليها.

باب مدينة العلم، ص: 72

الفصل الثاني في وجه الحاجة للتشريع الإلهي

اشارة

لقد كان من وضع الإنسان المحتم ان يقطع مفاوز الحياة مع ابناء نوعه سواء قلنا ان ذلك يقتضيه بطبيعته و فطرته أو كان ذلك من جهة الحاجة في شئونه و معيشته و هذا مما أوجب الحاجة إلى تشريع

يحدد له الارتباط بالغير في المجتمع الذي يعيش فيه منعاً له من شذوذ التصرف و إطلاق العنان للشهوة و الأثرة و حب الذات و الاسفاف و الاسراف في تنفيذ الرغبات. و للقضاء على العلل و مشاكل الاجتماع. و للإرشاد للمصالح و المنافع و لتنظيم الحياة لكسب السعادة فيها. و لإقامة العدل و صيانة حقوق الناس الشخصية و الكلية. و لحفظ الأمن العام و للسلوك بهم نحو مدارج السمو و الكمال. و لاستلهام المثل العليا و الفوز بالنشأتين و السعادة في الدارين و هذا التشريع و ان كانت العقول قد وضعته لأممها حسب معرفتها و علمها إلا انه لا شك ان التشريع الإلهي حيث يستند لأعظم عقلية غيبية تدرك مصير الأعمال و مصالح الأفعال و مفاسدها و يستمد من أوسع علمية بمجاري الأمور و ما تؤول إليها بخيرها و شرها و محاسنها و مساوئها و ابصر معرفة بحقائق الموجودات و دقائقها و أسرارها كان التشريع الصادر منها أسمى و انفع من التشريع الصادر من العقلية البشرية المحدودة في معلوماتها و التي طالما وقعت في الهفوات و الأخطاء حتى فيما يخص نفسها. هذا مع ان النفس لشهواتها طغيان يوقعها في مهامه الهلكات و ينزلها لأخس الدنيات و لا يمكن ان يقف دونه التشريع الانساني حيث ينعدم سلطانه عند الخلوة و الأمن من المراقبة بخلاف التشريع الإلهي فانه لا ينعدم معه الرقيب فالله يعلم السر و أخفى. اضف إلى ذلك ما في التشريع الإلهي من ربط العبد بمولاه و المخلوق بخالقه الموجب لشكره و شكره يوجب شمول رعايته و جميل لطفه و زيادة النعمة و توفير الإحسان و البركة فالغاية من التشريع الإلهي و المنفعة المرتبة عليه هو

سير الناس نحو الحياة الموفرة بالسعادة في الدارين على الوجه الأكمل و نيل الخير في النشأتين على النحو الاحسن ليكونوا خير امة اخرجت للناس بتنظيم حياتهم و وفور السعادة لديهم و إلا لكان الأمر فوضى بينهم تتحكم فيه رغبات القوي و تُغصَب حقوق الضعيف و تسلب عنهم الحريات و تتبع في تصرفاتهم الشهوات و يُفرَّط بمهمات الحياة الخمس الدين و النفس و العرض و المال و العقل و ذلك هو الخسران المبين:

ما يحتاجه التشريع

و لكن التشريع مهما كان نوعه إلهياً أو مدنياً يحتاج إلى الأحكام التي تكفل له القيام بأحكامه و تضمن له الإطاعة لقوانينه أما روادع و زواجر كبطلان العقود و الايقاعات المخالفة للتشريع و أما عقوبات و تأديبات كالحدود و التعزيرات و السجون و القصاص و الغرامات. و يختص التشريع الإلهي بالعقوبات الأخروية مضافا للعقوبات الدنيوية فيكون في النفوس اركز و بالاندفاع نحو العمل أزيد و لنا في هذا المقام مقالات قيمة نشرتها المجلات الإسلامية و الصحف العربية فليراجعها من أراد زيادة البصيرة.

الفصل الثالث في فصل الدين عن السياسة

و يلحق بهذا المطلب ما لاكته الألسن في هذا الوقت من فصل الدين عن السياسة و السبب فيه ان الغرب لما رأى هيمنة الكنيسة على شعوبهم حتى أصبحت الطاقة الروحية تصطدم بقوة الدولة و تزاحمها في نفوذها و سطوتها و سلطانها أخذ رجال الدولة في بذل السعي لفصل الدين عن سياسة الدولة و ابعاد نفوذ رجال الدين عن شئون الحاكمين مستندين في ذلك إلى ما في الأناجيل متى و لوقا و مرقس من قول اليسوع (اعطوا ما لقيصر لقيصر و ما للّٰه

باب مدينة العلم، ص: 73

للّٰه) و تمكن بذلك ولاة الأمور منهم ان يفصلوا رجال الكنيسة و يبعدوا علماءها عن آفاق السياسة و الحياة العملية لشعوبهم. و أما الإسلام فقد ربط السياسة بالدين و الحياة بالشريعة الإسلامية حيث قنن أحكام الحياة للفرد و للبيت و للمجتمع حتى مع الغير و طلب من العلماء ان لا يكفوا على عظة ظالم و لا سغب مظلوم. و أما العبارة المنقولة عن الأناجيل فهي لا تدل على اكثر من ان المال الذي لقيصر لا يعطى لله و المال الذي لله لا يعطى لقيصر فانك لو

راجعت الأناجيل المذكورة تجد هذه الكلمة صدرت من اليسوع في دينار قُدّم له عليه كتابة و صورة لقيصر و قد عالجنا هذا الموضوع بصورة أوسع في كتابنا نقد الآراء الفلسفية.

المطلب الثالث: الإسلام و الشريعة الإسلامية و عمومها و فيه فصول

الفصل الأول في تسميته و عموميته

الإسلام مصدر (أسلم) بمعنى انقاد و ليس كما تُوهم انه مأخوذ من سالم بمعنى وافق لأن مصدره مسالمة لا إسلام. و قد نقل من هذا المعنى عن المسلمين للدين الذي جاء به نبينا محمد" صلى اللّه عليه و آله" لقوله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ و لقوله تعالى وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً و هذا هو مصدر تسميته بالإسلام فإنها تسمية قد جاءت من عند اللّه تعالى. و كان الإسلام آخر الشرائع الدينية و خاتمتها جاء لعامة الناس في شرق الأرض و غربها لقوله تعالى من سورة سبأ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ و لقوله تعالى في سورة الأعراف قُلْ يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً و لهذا نهض نبينا محمد" صلى اللّه عليه و آله" بتبليغ الدعوة الإسلامية حتى أوصل الدعوى لهرقل امبراطور الروم. و لكسرى ملك الفرس و للحارث الحميري ملك اليمن. و للمقوقس حاكم مصر و للحارث الغساني ملك الحيرة. و للنجاشي ملك الحبشة.

الفصل الثاني في أصول الإسلام

و أصول الإسلام ثلاثة التوحيد و هو شهادة ان لا اله إلا اللّه و النبوة و هو شهادة ان محمداً رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله". و المعاد و هو الاعتراف بعود الناس بعد مماتهم يوم القيامة ليأخذ كل منهم حقه ان خيراً فخير و ان شراً فشر سواء عُلِم من المقر انه مصدّق بذلك أم لم يُعلَم فمجرد إقراره و اعترافه بذلك كافي في ثبوت إسلامه و ترتب آثار الإسلام عليه كالطهارة و جواز النكاح و الدية التامة كما صرح بذلك العلماء و الدليل عليه هو ما تواتر عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" و الصحابة انهم كانوا يكتفون في ثبوت

الإسلام بالاقرار بالشهادتين و استغنوا عن الإقرار بالمعاد لأنه لازم بيّن للاقرار بالنبوة ثمّ بعد ذلك ينبهون المُقِر على المعارف الدينية التي يتحقق بها الإيمان ففي رواية سماعة عن أبي عبد اللّه" عليه السلام" في وصف الإسلام انه قال شهادة ان لا اله إلا اللّه و التصديق برسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس. و أما عدّ منكر ضروري الدين و منكر ما قطع به انه من الدين من الكافرين من دون شبهة و لا دليل فلأنه يرجع انكاره إلى إنكار النبوة و لما جاء به النبي" صلى اللّه عليه و آله" و لذا حكم الأصحاب

باب مدينة العلم، ص: 74

بكفر النواصب الذين نصبوا العداوة لأهل البيت" عليهم السلام" لأنهم انكروا الولاية التي هي من ضروريات الدين و من هذا الباب حكم بعضهم يكفر المستخف بالدين كالملقي للقرآن في القاذورات و المستهزئ بالمؤدين للواجبات الدينية استنكارا لها و تعصبا و عنادا و أما ما ورد من إطلاق الكافر على تارك الصلاة و الحج و الزكاة و نحوها فالمراد به هو الفسق أو من تركها انكارا لها بدون شبهة و دليل فانه إذ ذاك يكون منكرا لضروري الدين الراجع لإنكار النبوة.

و أما ما ورد من الحديث المشهور من بناء الإسلام على خمس فلا بد ان يراد به الإسلام الكامل الذي يوجب دخول الجنة لا الإسلام الظاهري بدليل عدَّ اقامة الصلاة و ايتاء الزكاة من الخمسة.

الفصل الثالث في مميزات الشريعة الإسلامية

اشارة

لقد امتازت الشريعة بأمور يعرفها كل من قارن بين الشرائع الدينية إلا إن الأمر البارز في ذلك منها هو تكفلها لسائر الأحكام التي تخص حياة الإنسان

الفردية و الاجتماعية الدينية و الدنيوية. و ظهرت هذه الشريعة بثوب الدولة السياسي و مثلت كل شي ء مما يخص المجتمع أو الفرد بطابع ديني و تشريع إلهي تساير الزمن مهما تقلبت الأحوال و تعالج شئون الحياة في العالم مهما اختلفت الأوساط فكانت النتيجة الحتمية ان صارت خاتمة الشرائع الآلهية و الاديان. بعد ان هبط الوحي المبين بأولها على قلب رسول رب العالمين في مكة المكرمة و الأرض المشرفة كعبة رب العالمين. ثمّ جاءت أحكامها تباعاً و تدريجاً حتى كملت قواعدها و أصولها و تمت أحكامها و اسسها في غدير خم عند ما نزلت الآية الكريمة" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً".

مورد نزول آية (اليوم اكملت لكم دينكم)

ففي روح المعاني للآلوسي ج 6 ص 55 طبع مصر عن أبي سعيد الخدري ان هذه الآية نزلت بعد ان قال النبي" صلى اللّه عليه و آله" لعلي كرم اللّه وجهه في غدير خم (من كنت مولاه فعلي مولاه). فلما نزلت قال" صلى اللّه عليه و آله" اللّه اكبر على إكمال الدين و اتمام النعمة و رضا الرب برسالتي و ولاية علي بعدي. و مثله ما ذكره ابن كثير في تفسيره ج 2 ص 14 طبع مصر. و في تفسير النيسابوري ج 2 ص 4 إنه لما نزلت الآية المذكورة على النبي" صلى اللّه عليه و آله" فرح الصحابة إلا أكابرهم كأبي بكر الصديق و غيره فأنهم حزنوا و قالوا ليس بعد الكمال إلا الزوال و كان كما ظنوا فانه لم يعمر بعدها إلا أحد و ثمانين يوماً أو اثنين و ثمانين يوما و لم يحصل في الشريعة بعدها زيادة و لا نسخ و لا نقص. و

غدير خم هو بين الحرمين مكة المكرمة و المدينة المنورة عند الجحفة و هو الذي خطب فيه رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" بعد حجة الوداع و نصب علياً ولياً على المسلمين.

و من بارز مميزاتها انها حثت على العمل لكسب المغنم في هذه الحياة و تحصيل المعرفة بأسرار هذه الكائنات و وعدت الصالحين الذين يصلحون للتدبير و التقويم بالميراث للسطوة و السلطة بقوله تعالى أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ الصّٰالِحُونَ و لم تغادر صغيرة أو كبيرة إلا و ذكرت حكمها حتى انك لا تجد واقعة من الوقائع التي تخص الإنسان نفسه أو مع غيره أو

باب مدينة العلم، ص: 75

المجتمع نفسه أو مع غيره إلا و يظهر حكمها من نص أو ظاهر أو قاعدة أو أصل و هذه الميزة تفقدها سائر الشرائع السماوية و النظم الحزبية و القوانين الدولية.

و من بارز ميزاتها انها حررت العقل البشري من الأساطير و الخرافات و وجهته نحو المنطق الحر و الدليل و البرهان في العقيدة و الايمان. و لم تأخذ بالجريمة و الجريرة بمجرد التفكير فيها و انما تأخذ بها بعد ارتكابها فلم تأخذ بالتفكير في الزنا و انما تعاقب على ارتكابه كما ينسب ذلك لبعض الشرائع إلى غير ذلك من مميزاتها فإنها لا يمكننا احصاؤها بهذه العجالة.

الفصل الرابع في وجه جعل الرسالة الإسلامية في جزيرة العرب

ان من مميزات البلاد العربية و ما حولها ان الشرائع السماوية الثلاثة التي يعتنقها اكثر العالم الانساني كانت هي مهبطها فاليهودية أوحي بها لموسى" عليه السلام" في صحراء سيناء. و النصرانية في فلسطين و الإسلام في مكة المكرمة. و قد جعل اللّه تعالى تشريعه للإسلام للعالم الانساني من مكة المكرمة لأن الثقافة كانت منعدمة فيها و الفضيلة العلمية غير موجودة

في ناشئتها و الأمية قد ضربت سرادقها على جوانبها لئلا يتخيل متخيل ان هذا التشريع المتقن من صنع البشر فيها. بخلاف ما لو كان من بلاد تقوى الثقافة فيها كاليونان و الرومان و فارس فانه قد يذهب الوهم و يقوى القول و الظن ان هذا التشريع من وضع المثقفين فيها و من هذا الباب جعل الوحي ينزل على الأمي من أم القرى لا على الكاتب القارئ فيها و هذا الوجه الذي ذكرناه أحسن من الوجوه التي ذكرها القوم من كون جزيرة العرب فيها عقائد متباينة واديان مختلفة فجاء الإسلام ليردهم إلى دين الحق. أو من أنهم كانوا متفككي الروابط و كثيري المشاحنات فجاء الإسلام لجمع كلمتهم و لو كان الأمر كما ذكروه للزم القول بعدم حاجة باقي الملل و النحل للإسلام.

الفصل الخامس في علوم الشريعة الإسلامية

ان الشريعة الإسلامية لما كانت أحكامها على أقسام ثلاثة:

أحدها ما يتعلق بالعقائد الإسلامية كالاعتقاد بوجود اللّه و صفاته و رسله و كتبه و المعاد و الثواب و العقاب، و نحو ذلك مما يرتبط بالعقيدة الإسلامية وضع المسلمون لها علماً خاصاً يبحث عنها سموه بعلم الكلام و علم أصول العقائد و علم الفقه الأكبر. و علم التوحيد. و علم العقيدة. و علم المبدأ و المعاد. ثمّ انهم بعد ذلك سلكوا في دراسة هذا العلم مسلكين:

أحدهما مسلك النقل و هو الاعتماد على معرفة ذلك من القرآن الكريم و السنة و تأيدهما بالعقل.

و الثاني مسلك العقل و هو الاعتماد على معرفة ذلك من الأدلة العقلية و ما وصل إلى المسلمين من معارف الفلاسفة و الحكماء مع تأيد النقل فخصوا الأول بعلم الكلام و الثاني بعلم الحكمة و الفلسفة.

و ثانيها ما يتعلق بالأفعال و الأعمال التي تخص المكلف

بوضعه الفردي أو وضعه الاجتماعي من عبادات و معاملات و عقوبات و التزامات و وضع له المسلمون علماً خاصاً به سموه بعلم الفقه الذي هو محل بحثنا و يسمى في عرف الحقوقيين بعلم القانون.

و ثالثها ما يتعلق بكمال الإنسان و آدابه و سيره و سلوكه من تهذيبه و اصلاحه و ما يجب ان يتحلى به من الفضائل و ما يتخلى عنه من الرذائل و وضع له المسلمون علماً خاصاً به

باب مدينة العلم، ص: 76

سموه بعلم الأخلاق. و بيان هذا التقسيم أولى و احسن مما قيل في بيانه من ان العلم الذي يبحث عن أحكام الشريعة الإسلامية التي تخص العقيدة يسمى بعلم الكلام و العلم الذي يبحث عن أحكام الشريعة التي تخص تزكية النفس و تطهيرها يسمى بعلم الأخلاق. و العلم الذي يبحث عن أحكام الشريعة الإسلامية التي تخص اصلاح المجتمع الانساني و ينظم مدنيته يسمى بعلم الفقه. فان إثبات اصل وجود اللّه و صفاته ليس من الأحكام و انما الحكم هو وجوب الاعتقاد بوجوده و هكذا أحوال المعاد ثمّ ان علم الفقه يبحث عن أحكام تخص الفرد كعباداته فكيف يجعله باحثاً عن خصوص ما يصلح المجتمع و ينظم مدنيته.

الفصل السادس في مجي ء الإسلام على سبيل التدريج و حكمة ذلك

و لقد جاء الإسلام باحكامه و أنظمته و قوانينه على سبيل التدريج حسب ما تقتضيه المصلحة و من اجل هذا نزل القرآن نجوماً أي على دفعات متقطعة حسب مقتضيات الأحوال و الاحداث و الأوضاع. و كانت الآيات النازلة يسأل من النبي" صلى اللّه عليه و آله" عن وضعها في أي سورة من سور القرآن الكريم و يحكى ان الصلاة أول تشريعها ركعتان صبحاً و ركعتان مساءً ثمّ لما اعتادت عليها النفوس جعلت خمس صلوات.

و ان الصيام أول ما شرع كان ثلاثة أيام في كل شهر ثمّ جعل عليهم صوم شهر رمضان بأجمعه. و كانت القبلة إلى بيت المقدس ثمّ بعد ستة عشر شهراً أو اكثر جعلت القبلة الكعبة المشرفة. و هذا أدل دليل على ان أحكامه تابعة للمصالح و المفاسد الكائنة في متعلقاتها يتوخى منها سعادة الفرد و المجتمع في الدارين و الفوز بالنشأتين كما يرشد إلى ذلك مجي ء التخصيص أو التقييد في بعضها بعد مضي زمان العموم و الإطلاق و مجي ء النسخ في بعض آخر منها بعد مضي زمان المنسوخ إلى غير ذلك مما تقتضيه المصلحة أو المفسدة.

الفصل السابع في ان لكل واقعة حكم شرعي

لقد قام الإجماع منا بل من جميع المسلمين على ان الوقائع و الحوادث على مختلف انواعها و أزمانها و ظروفها و حاضرها و مستحدثها لا تخلو عن حكم إسلامي و تشريع إلهي اقتضائي أو تخييري بدليل قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... و أما الرجوع إلى العقل فهو أما في معرفة مقاصد الأدلة الشرعية و أهدافها و ما ترمي إليه من القواعد و تَتَطلع إليه من الدفائن و الحقائق و أما في كشفه عن الحكم الشرعي نظير كشف القرآن و السنة و هو مضافاً إلى قلته لأنه لا يكون إلا في الأمور الواضحة الحكم كرد الوديعة و نحوها ففي مورده لا بد و ان يكون من الأدلة الشرعية ما يدل عليه.

و الحاصل ان كل واقعة لا تخلو عن الحكم الشرعي نعم بعض الوقائع لا يمكن التشريع فيها كالاعتقاد بوجود اللّه تعالى و كالإطاعة و الامتثال للتكليف الشرعي للزوم الدور أو التسلسل و لكن هذا ليس قصورا في التشريع بل هو من جهة عدم قابلية المحل نظير اجتماع النقيضين

فان عدم قدرة اللّه تعالى عليه ليس نقصا في القدرة بل هو من جهة عدم قابلية المحل. و عليه ففي مثل تلك الموارد يكون المرجع هو حكم العقل و لله ان يؤاخذ و يعاقب على مخالفته. نعم الملازمات العقلية كوجوب المقدمة و النهي عن الضد يكون العقل مرجعاً فيها و هكذا الأصول العملية و هكذا الظن بناء على الانسداد كما ان القرآن و السنة تكون مرجعاً في

باب مدينة العلم، ص: 77

الأحكام بمعنى انه يكشف حكم الشارع في الواقعة بها لا انها تقتضي عدم حكم للشارع في الواقعة.

الفصل الثامن في بيان الرسول لجميع أحكام الوقائع

هذا و لكن وقع الكلام بين المسلمين في إن الرسول" صلى اللّه عليه و آله" بلغ و بيّن جميع أحكام الوقائع بالكتاب و بالسنة النبوية و اظهرها بأجمعها فيهما و لم يكتم شيئاً منها أو إن الرسول بلغ خصوص الأحكام الشرعية التي تخص الوقائع التي حدثت في زمانه و كانت محل الابتلاء في وقته و أودع باقي الأحكام عند علي" عليه السلام" و علي" عليه السلام" صنع الرسول" صلى اللّه عليه و آله" فأظهر منها التي تخص الحوادث التي وقعت في زمانه و كانت محل الابتلاء فيه و أودع الباقي من الأحكام للإمام الذي يكون بعده و هكذا كل إمام يصنع كذا فيُظْهر ذلك الإمام مما تبقى عنده من الأحكام بحسب الحاجة و يودع ما بقي من الأحكام عند من بعده و هكذا إلى الإمام الثاني عشر و كل واحد منهم يُظْهِر منها ما يخص الحوادث النازلة في وقته و يودع ما تبقى من الأحكام عند من بعده من الأئمة ليظهرها وقت الحاجة و الإمام الثاني عشر حي موجود يظهرها بالمناسبات التي تقتضي ذلك بل انه"

عليه السلام" ينتفع بوجوده كأن انتفاع عالمنا بالشمس حتى حين يغطيها الغمام. و ذهب إلى القول الأول أهل السنة و ذهب إلى الثاني الشيعة و الكلام يقع أولا في تجويزه و أخرى في تحققه أما جوازه فهو لا إشكال فيه لأن العقل لا يمنع من تأخير البيان للحكم قبل مجي ء وقت الحاجة إلى بيانه و إنما يمنع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه و فرض كلامنا ان الأحكام التي أخر بيانها لم نكن نحتاج بيانها وقت وجود الرسول" صلى اللّه عليه و آله" و إنما نحتاجه بعده للوقائع المتجددة بعده" صلى اللّه عليه و آله" بل قد يلزم تأخير بيان بعض الأحكام لبعض الوقائع كما إذا كانت المصلحة تقتضي تأخير بيانها أو كانت مفسدة في بيانها و يرشدك إلى ذلك هو تأخير بيان بعض الأحكام في نفس زمان الرسول" صلى اللّه عليه و آله" فانه لم يكن قد بيّن جميع الأحكام أول رسالته و إنما اظهرها على سبيل التدريج فأول ما بين التكليف بالشهادتين ثمّ أخذ يظهر التكاليف تدريجا فإذا جاز التأخير في إظهار بعض الأحكام في زمانه" صلى اللّه عليه و آله" فإذن يجوز تأخير بيان بعض الأحكام بعد وفاته" صلى اللّه عليه و آله" لأن حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد. و يرشدك لذلك: قوله تعالى في سورة المائدة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيٰاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فانه تدل على تأخير بيان حكم هذه الأشياء و ان المصلحة تقتضي عدم إظهار حكمها فعلا بل يمكن ان نقول انه يجوز ان يكون" صلى اللّه عليه و آله" أودع إظهار نسخ بعض الأحكام الواقع ذلك النسخ في

زمن وجوده" صلى اللّه عليه و آله" عند أوصيائه المأمونين على سره لكون أمد بقاء الحكم المنسوخ ينتهي في زمانهم" عليهم السلام" لا في زمانه" صلى اللّه عليه و آله".

و الحاصل ان العقل يجوّز تأخير البيان للحكم بعد الرسول بأن يودع بيانه لأحد أوصيائه المؤتمنين على الدنيا و الدين إلى الوقت المطلوب إظهاره من دون قبح في ذلك بل يُلْزِم بتأخيره إذا اقتضت المصلحة ذلك أو كانت المفسدة في إظهاره في زمان وجوده" صلى اللّه عليه و آله" بل و حتى نسخه إذا كان أمد الحكم المنسوخ ينتهي إلى ما بعد زمن الرسول" صلى اللّه عليه و آله" فيكون إظهار نسخه مودعاً عند المأمون على سره" صلى اللّه عليه و آله" هذا ما يقتضيه حكم العقل ...

باب مدينة العلم، ص: 78

و أما النقل فقد ورد منه من طريق العامة و الخاصة ما يدل على ذلك فالمطابقة أو الالتزام ما يبلغ اكثر من حد التواتر. أما ما روي عن طريق العامة فهو حديث الثقلين الدال على التمسك بعد النبي" صلى اللّه عليه و آله" بالكتاب و بعترته أهل بيته و انهما لم يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فقد رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى و الطبراني في المعجم الصغير و الطبري في ذخائر العقبى و السيوطي في أحياء الميت و الترمذي في صحيحه و مسلم في صحيحه و غيرهم حتى كاد ان يكون متواتراً أو بلغ حد التواتر عندهم. فلو لم يكن عند عترته بيان بعض الأحكام الشرعية للأزمنة اللاحقة بعد موته" صلى اللّه عليه و آله" لما أوصى بالتمسك بها على حد التمسك بالكتاب.

و ما روي عن كنز العمال و عن مفتاح النجا و

عن اسعاف الراغبين من ان النبي" صلى اللّه عليه و آله" علي باب علمي و مبين من بعدي لأمتي و ما أرسلت به. و ما روي عن المناقب لابن المغازلي عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" ما علمت شيئاً إلا علّمته عليا فهو باب مدينة علمي و ما تواتر نقله عن الفريقين من ان عليا باب مدينة علم الرسول و من أراد العلم فليأته من بابه فلو لم يكن هناك أحكام شريعة اختص بمعرفتها علي" عليه السلام" لما حصر معرفتها من طريقه.

و أما ما ذكروه من الرد على ذلك فوجوه:

أحدها قوله" صلى اللّه عليه و آله" (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب اللّه و سنتي) باعتبار انه يدل على ان الأحكام للوقائع قد بيّنها رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" بالكتاب و السنة و لم يودع عند أحد منها شيئا و إلا لكان التمسك بذلك غير رافع للضلال ففيه ان الحديث قد توتر حتى عند أهل السنة بدل (سنتي) عترتي فلتراجع كتب أخبار السنة فلو فرض بينهما منافاة فلا بد من الأخذ بالمتواتر و ترك ما عداه و لو سلم فهو لا ينافي ما ذكرته الشيعة لأن من سنته هو الرجوع للعترة و معرفة أحكام الوقائع منهم و انهم سفن النجاة و انهم أبواب مدينة علمه" صلى اللّه عليه و آله".

ثانيها قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية فان الرسول لما كان رسولا لكافة الناس لا لأهل بيته خاصة فالتبليغ يجب ان يكون إلى الناس كافة لا لبعض دون بعض.

و فيه ان الرسالة و ان كانت لكافة الناس لكن لا يلزم ان تكون

جميع أحكامها يظهرها دفعة واحدة بل يجب الأمانة في تأديتها و التحفظ بابلاغ من أراد الشارع تبليغه فمن الأحكام ما أرد اللّه تعالى من الرسول تبليغه لعامة الناس و من الأحكام ما أراد اللّه تعالى تبليغه لبعض بخصوصه فلو بلّغه على نحو العموم لخالف أمانة الرسالة. و الحاصل ان المراد به التبليغ على الوجه المأمور به سعةً و ضيقاً خصوصاً و عموماً فوراً أو في المستقبل أ لا ترى ان الملك يرسل رسولًا للمحاربين بين يده و يأمره بتبليغهم بعض الأمور بنحو العموم و يأمره بتبليغ بعض الأمور بنحو السر لبعض الجيش فهل ترى انه لو قام بالرسالة مع المحافظة على التبليغ بالنحو المذكور يصح ان يقال ان تبليغه بنحو السر ينافي رسالته لهم عموما بل لو فرض انه بلغ على نحو العموم جميع ما كلف به و لم يراع قيود التبليغ وسعة دائرته و ضيقها يقال في حقه انه قد خان الأمانة و لم يحسن التبليغ. و عليه فاختصاص الأئمة بتبليغ بعض الأحكام الشرعية من قبل الرسول" صلى اللّه عليه و آله" لا ينافي رسالته لكافة الناس بعد ان كان اللّه تعالى قد أمره بذلك و بينه بقوله" صلى اللّه عليه و آله" انهم سفن النجاة و أمره" صلى اللّه عليه و آله" بالرجوع إليهم في الحوادث مع انا لو سلمنا ذلك فالآية إنما تقتضي تبليغ ما كان قد انزله اللّه إليه قبلها لا ما انزل إليه بعدها لأن لفظ

باب مدينة العلم، ص: 79

(أنزل) للماضي لا يتناول الحال أو الاستقبال هذا مع ما نقله الكثير من المفسرين من علماء أهل السنة من ان الآية الشريفة وردت في حق علي" عليه السلام".

ثالثها قوله

تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي الآية فإنها واردة في مقام الامتنان على المسلمين بإكمال الدين عليهم و هو يستلزم بيانه لهم لا كتمان شي ء عليهم.

و فيه ان المنة بإتمام القانون لا يستلزم بيانه فورا بل إنما يستلزم حفظه أو إظهاره وقت الحاجة إلى البيان و الرسول" صلى اللّه عليه و آله" حسب الفرض قد اظهر من مواده ما هو محتاج إلى إظهاره و أخر بيان ما بقي إلى وقت الحاجة لمصلحة هناك أو لمفسدة في البيان و أودع ما هو غير محتاج للبيان عند الأمنة الحفظة يبينونه عند الحاجة للبيان فان في ذلك كمال الامتنان على الأمة إذ لو قدم بيانه مع انه خلاف المصلحة أو فيه المفسدة لكان في ذلك تفويتٌ للمصلحة أو ايقاعٌ في المفسدة و هو خلاف الامتنان.

رابعها ان المنقول عن أئمة الشيعة لا يفي بالحوادث و الوقائع المستجدة لوجود الاجتهاد عندهم في مسائل كثيرة جدا. و وجود الاختلاف الكثير في هذه المسائل يقتضي عدم كفاية بيانات أئمة الشيعة لبيان الأحكام أو عدم وفاء الشريعة و تماميتها للوقائع و الأحداث.

و فيه ان هذا الإيراد لو تم فهو وارد على الجميع فانه بمثل ذلك يقال في حق أهل السنة بأن الموجود في الكتاب و السنة لا يفي بالحوادث المستجدة لوجود الاجتهاد عندهم في اغلب مسائلهم و رجوعهم للاستحسان و القياس و غيرها من الظنون بالأحكام الشرعية التي لم تقم الحجة من الشرع على اعتبارها و هذا يقتضي عدم كفاية بيان الكتاب و السنة عندهم كيف و قد صرح الكثير منهم بذلك و اعترفوا بأن المأثور من تشريعات الرسول و أحكامه و أقضيته اصبح غير واف بالحوادث النازلة و الوقائع

المتجددة في كل وقت و زمان و في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يقول فيه (الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب اللّه و لا سنة النبي" صلى اللّه عليه و آله") و هذا الشهرستاني في الملل و النحل يقول (ان الحوادث و الوقائع في العبادات و التصرفات مما لا تقبل الحصر و العد و نعلم قطعاً انه لم يرد في كل حادثة نص و لا يتصور ذلك. و النصوص إذا كانت متناهية و الوقائع غير متناهية و ما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى علم قطعا ان الاجتهاد و القياس واجب الاعتبار حتى يكون بعدد كل حادثة من اجتهاد).

و لكن الذي تذهب إليه الشيعة أن القرآن و السنة النبوية و المأثور من العترة الطاهرة الزكية قد اظهرت الأحكام الشرعية لكل حادثة من الحوادث النازلة و الوقائع المستجدة إلى يوم القيامة أما بالنص عليها بالخصوص أو بنحو العموم شأن الأنظمة و القوانين الدولية فإنها تشرع أحكام الحوادث النازلة و الوقائع المتجددة بموادها الكلية و أصولها العامة و مبادئها الشاملة تاركة فهم الجزئيات و استنباط التفاصيل و ما تهدف إليه من حقائق و مقاصد لأهل البصيرة و حسن السليقة و معتمدة على استخراج أحكام الوقائع من نصوصها و ظواهرها و مفاهيمها و سياق بيانها و لوازمها على أهل المعرفة و التفكير المستنير. و هذا هو الاجتهاد الذي عند الشيعة الذي يحتاجه كل أحد في معرفة منطق القوانين و الأنظمة حتى لو كانت موادها بأسمى بيان و احسن توضيح و اختلاف فقهاء الشيعة في بعض أحكام الوقائع لم يكن من جهة نقصان البيان للأحكام الشرعية فانك لا تجد حادثة من الحوادث

إلا و هي صدى آية قرآنية أو سنة نبوية أو اثر للعترة الزكية حتى في موارد حكم العقل المستقل الذي لا يحتاج

باب مدينة العلم، ص: 80

للبيان الشرعي فانه لا بد و ان يدل على حكمه نص من نصوص الشرع الخاصة أو اصل من أصوله المطلقة أو قاعدة من قواعده العامة بل العترة النبوية بينت حتى حكم الواقعة التي يلتبس على المجتهد حكمها بأنه الإباحة أو الاستصحاب لحكمها السابق أو الاحتياط بإتيان أطراف المحتملات أو التخيير بينها.

و الحاصل ان اختلاف فقهاء الشيعة لم يكن من جهة تقصير الرسول أو العترة في البيان لأحكام الشريعة و إنما كان من جهة اختلاف الافهام و الدس في الأحكام و بسوء اختيار الأمة مما اوجده ابناؤها من الحجب عن وصول البيان إلينا و غير ذلك مما كان من تصرفاتها التي أحالت بيننا و بين معرفة الأحكام الشرعية و المعارف الإلهية.

المطلب الرابع: في الدين و المذهب و الغريزة الدينية و الفطرة الإلهية

الفصل الأول في شرح الدين

اشارة

اشتهر تعريف الدين عند علماء الإسلام بأنه الإيمان بالذات الإلهية الجديرة بالطاعة و العبادة. و الحق ان الدين له عدة اطلاقات فقد يطلق على ما ذكر و قد يطلق على نفس الأحكام الإلهية كما يقال ان الدين عند اللّه الإسلام و قد يطلق على إتباع الشي ء كما يقال أدين بدين الحب و الهوى. و دينكم دنانيركم. و الغريزة الدينية هي ميل النفس للايمان بما وراء الطبيعة التي يعبر عنها بالفطرة الدينية.

كلمة الوالد القيمة في الدين

و قد ظفرت في هذا الموضوع بكلمة قيمة لوالدي الشيخ محمد رضا استاذي و له الحق عليّ في تربيتي الدينية احببت نقلها هنا لما فيها من الفائدة قال" رحمه اللّه" من المتعذّر أن نعرف الدين تعريفاً منطقياً عاماً يشمل الدين بأوسع معانيه تعريفاً نشرح به مفهومه الذي ترمي إليه جميع الفرق و الطوائف سواء كان حقاً أو باطلًا لأن الدين عند كل فرقة له شأن و ممميزات غير ما هو عند الأخرى فأنا نجد قوما يرون الدين عبارة عن بعض الاساطير و الخرافات و البعض الآخر يرون انه عبارة عن الإلهام و الشعور و بعضهم انه الطقوس و العبادات و بعضهم انه التقاليد الموروثة و الأنظمة المسيطرة و الانعطاف على الزعماء و تقديس آرائهم. و لكن من تعمق و تبصر في هذا الموضوع يرى ان الدين هو الإيمان الكامن في أعماق النفوس و السر الغامض القائم فيها و الشعور الخفي الذي يجعل الإنسان يرهب شيئاً و يؤمن به و يقدسه. فذلك المعنى و الروح و السر و الصلة و الخشية التي تتمثل لنا في النظام و الطقس و العبادة و المنسك و حتى في الاسطورة التي هي واقعة تاريخية نحتها الخيال و حرّفها البشر

و اسدى عليها هالة من العظمة و القداسة هو الدين بأوسع معانيه يمكن ان نحلل ذلك الشعور تحليلًا كيمياوياً نفسياً بما حلله علماء النفس إلى عناصر ثلاثة:

أولها اعتقاد الناس بوجود قوة أو قوى متعددة اعظم منهم شأناً غير مسخرة لهم.

ثانيها تصوير الناس ان لهم تعلقاً بهذه القوة أو القوى.

باب مدينة العلم، ص: 81

ثالثها اندفاع الناس إلى إيجاد علاقة لهم بها و يمكن ان نزيد على قولهم (غير مسخرة) و انهم مسخرون لها فاعتقاد البشر بتلك القوة العظيم شأنها التي تقودهم و لا تنقاد لهم و تسخرهم و لا يسخرونها هي قوام الدين من أول أدواره الهلامية إلى نهاية أدواره التكاملية فالاديان الأولية البائدة و الحاضرة المتكاملة مشتركة في هذا المبدأ الديني الواسع و هذا المبدأ المشترك بين الأديان هو غريزة من غرائز النفس و قواها التي فُطِرتْ عليها و من تلك الغريزة نشأت الأديان و قد أشار لذلك القرآن الكريم بقوله تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ إلا أن بعض الملحدين حاولوا دحض هذه الفكرة و إثبات ان فكرة الدين إنما نشأت بين البشر من عاطفتي الخوف و الأمل بتقريب ان الإنسان في أدواره الأولى عند ما شاهد مظاهر الطبيعة خاف من بعضها و أنس بالآخر رأى البرق تتلمض بين السحب. و العواصف و الأعاصير تزأر في الأجواء. و الزلازل و الاهتزاز يميد بالارض و السيول الجارفة تصارع الاثقال و الرعد المزمجر يفسر الصخر الأصم رأى هذه المظاهر الجبارة المدهشة فخاف منها و ألفى نفسه ضعيفاً لديها و ألجأه الخوف و الخشية إلى ان يتضرع إليها و يتوسل يقرّب لها القرابين و يصنع المناسك و الطقوس

و يتقيها بالادعية و الحجب و الاحراز و الصلوات و لم تكن مشاهداته للمظاهر الطبيعية كلها مخيفة فان منها ما ترتاح له انفس و تأنس بمرآها الجميل فوقف أمامها خاشعاً حيراناً. رأى الشمس تطلع و تغرب بجمالها الساحر و جلالها الباهر و رأى البدر ينير الأفق و شاهد الربيع يفرغ على الأرض ألواناً من الحلل و يكسو أديم الأرض حللًا من الأزهار. و الأشجار تحمل مختلف الألوان من التمر اليانع.

رأى هذه المشاهدات الرائعة البديعة فسكن إليها لتقيه خطر العاصفة و زمجرة الرعد و دمدمة الزلزلة و استجار بها من تلك الأهوال و لاذ بها و توسل إليها. فعاطفتي الخوف من المشاهدة الأولى و الأمل بالمشاهدة الثانية نشأت منها فكرته الدينية و بنوا على ذلك ان النفوس الضعيفة لما كان مفعول العاطفة اشد فيها من النفوس القوية كانت العقيدة الدينية في نفس المرأة أقوى و اظهر لأن مفعول العاطفة عليها اشد ثمّ يتمشى القياس في الأقوام المتوحشة التي لم تتذوق الحقائق العلمية فان العقيدة الدينية شاملة لجميع فروع الحياة عندهم. قال و يكفينا قناعة بفساد هذه النظرية ان نجد الأمم الراقية التي افتضحت لديها أسرار الطبيعة و درست نواميسها و أصبحت لديها هذه المشاهدات كأمر عادي ليس فيه شي ء من الروعة و الخشية و الغرابة و أمكن لها بواسطة معرفتها بالنواميس الطبيعية الجوية ان تتنبأ بوقوع تلك المشاهدات قبل زمانها و ما تزال متمسكة بعقيدتها الدينية و لو كان الدين حاصلا من الخوف و الأمل وحدهما لنبذ البشر الدين عند ما شعر بماهية المظاهر الطبيعية و انكشف له القناع عن غوامضها و لما بقي منقاداً لفكرة الدين جيلا بعد جيل و قرنا بعد قرن و لو

دققنا النظر وجدنا أن عاطفتي الخوف و الأمل إنما نشأتا من تلك الموهبة الإلهية و الفطرة الربانية قبل ان يستنير الإنسان بانوار الهداية و تتجلى له مقاييس الحقيقة انتهى ملخصا.

الفصل الثاني في فلسفة الدين

اشارة

فلسفة الدين هي البحث عن الحقائق الدينية بحثا مستقلا من ناحية تاريخها و تطور الفكرة فيها أو من ناحية وصف الحالات النفسية التي يبتني عليها الحياة الدينية في الإنسان أو من ناحية الأدلة عليها و ردّ الشكوك و الاعتراضات عنها و تمحيصها نقداً و تحليلا.

باب مدينة العلم، ص: 82

العناصر المقومة للدين

ثمّ ان لكل دين سماوي عناصر ثلاثة الإيمان بالخالق لهذا العالم. و الإيمان باليوم الآخر. و شريعة جاء بها رسول من خالق هذا العالم إلى مخلوقاته الحية العاقلة القابلة للتكليف.

ما هو المجتمع الديني و المجتمع المادي

المجتمع الديني هو المجتمع الذي يتمشى مع الشريعة الإلهية و يتقيد بقيودها و أنظمتها و من مزاياه أن تسوده المثل العليا و الأمن و الأمان و القيم الروحية و الأخلاق الفاضلة و الاخلاص في العمل بقلب سليم ونية طاهرة. و المجتمع المادي هو المجتمع الذي يتحكم في مقدراته النفع الذاتي المتبادل و يكون هو الهدف الأول في سلوك الفرد أو الجماعة فإذا انعدم النفع انفصمت عراه و تفككت اوصاله و يتجه في مساره حيث ما توجهت ركاب المادة العمياء فهو كبناء منسق لا ارتباط بين أجزائه ارتباط ذاتي و لا يتركز على قواعد محكمة و أسس قوية سرعان ما ينهار لعدم ديمومة النفع الذي يتركز عليه بخلاف المجتمع الديني فانه يكون متراص البناء يشد بعضه بعضاً ما دام الدين قائماً فيه و القيم الروحية متركزة فيه.

الفصل الثالث في المذهب الديني

و مما يناسب هذا المقام الكلام في المذهب فنقول ان المذهب هو الطريق الخاص الذي يسلك لمعرفة أحكام الشريعة و إذا كان له صاحب واحد سمي بالإمام و إذا كان له أصحاب متعددة سمي بالأئمة و قد انقسمت الشريعة الإسلامية إلى مذهبين فمن قال بأن الخليفة بعد رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" بلا فصل هو علي" عليه السلام" كان مذهبه التشيع و من قال ان الخليفة بعد رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" بلا فصل هو أبو بكر كان مذهبه التسنن ثمّ كل منهم انقسم إلى مذاهب متعددة فالتشيع إلى جعفرية و زيدية و غيرهم و التسنن إلى حنفية و شافعية و غيرهم. و كان لكل منهم مبادئ و أصول و آراء تخصهم في معرفة الأحكام الشرعية و لكل منهم طريق خاص في استنباط القوانين الإلهية

فالمذهب إنما يكون مذهباً إذا كانت له أدلة و مبادئ و أصول و أسس خاصة متميزة عمّا عداه من المذاهب و ليس مجرد المخالفة في الحكم الشرعي مع الاتفاق في المبدأ و المرجع موجباً لتعدد المذهب و إلا فالمجتهدون في المذهب الجعفري يلزم ان يكون لكل منهم مذهب و المختلفون في المذهب الحنفي يقتضي ان يكون لكل منهم مذهب و لو أطلق المذهب على ذلك كان خلاف الاصطلاح كما إن إطلاق الدين على المذهب خلاف الاصطلاح و لهذا أعبنا على أبي تمام حيث قال (و كوّفني ديني) فانه إنما كَوَّفَهُ" رحمه اللّه" مذهبه لا دينه. و قد تعارف عند الأصوليين و الفقهاء إطلاق (ذهب) على الرأي و القول في مقام تعدد آراء العلماء في المسألة فيقولون ذهب فلان إلى كذا و ذهب فلان إلى كذا بل قد يستعملوها بالنسبة لشخص واحد إذا كان له في المسألة اكثر من رأي واحد في عدة من كتبه أو في مواضع مختلفة من كتابه فكان استعمال الفعل الماضي لهذا اللفظ في غير ما اصطلح عليه في لفظ (مذهب) ثمّ ان المذهب على قسمين مذهب جماعي و هو ما كان له أتباع. و مذهب فردي و هو ما ليس له أتباع فالمجتهد الذي له آراء في المسائل الفقهية إن كان

باب مدينة العلم، ص: 83

له أتباع سمي مذهبه مذهب جماعي و ان لم يكن له أتباع سمي مذهبه مذهب فردي و انفرادي.

المطلب الخامس: في القانون و أقسامه

اشارة

و حيث ان الفقه يشتمل على القوانين الآلهية ناسب لشرح القانون فنقول ان القانون هو مسطرة الكتابة و هو لفظ يوناني ثمّ نقل إلى اللغة السريانية ثمّ منها إلى اللغة العربية. و في الاصطلاح هو القاعدة الكلية

التي يعرف منها أحكام أفراد موضوعها و يستعملها الفقهاء في أحكام الشريعة الإسلامية فيقولون القوانين الشرعية و يكثر إطلاقهم له على أحكام المعاملات و على الأحكام المتعلقة بالاموال و الملكيات و التعامل بين الناس من بيع و إجارة و رهن و شركة و نحوها مما ينظم الشئون المالية بين الأفراد و الجماعات و ما يتبع ذلك من الأهلية و الولاية بالمعاملات.

قانون الأحوال الشخصية في الفقه

و قانون الأحوال الشخصية في الفقه هو الأحكام التي تخص الإنسان و ما يعرف للفقهاء هذا الاصطلاح من قبل و إنما حدث في الأيام المتأخرة فان الحقوقيين قد أطلقوا على القوانين التي تخص شخص الإنسان من الزواج و الطلاق و العدّة و النسب و النفقة و الحضانة و الولادة و الوصية و الإرث و نحوها اسم الأحوال الشخصية و تسمى أيضاً بقانون العائلة و الأسرة.

القانون المدني في الفقه

و القانون المدني في الفقه هو عبارة عن قوانين الأحوال الشخصية المذكورة مع القوانين التي تخص البيوع و الاجارة و الهبة و الاعارة و الوديعة و الكفالة و الشركة و الصلح و الغصب و الإتلاف و ما شابه ذلك.

قانون المرافعات في الفقه

و قانون المرافعات و أصول المحاكمات في الفقه هي ما يخص القضاء و الدعاوي و البيانات.

القانون الدولي في الفقه

و القانون الدولي في الفقه هو ما يخص الجهاد و الغنائم و الأمان و عقد الذمة و الحرب و السلم و المعاهدات و المواثيق و علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم و نحوها و هو المسمى بالسير و المغازي فان القانون الدولي العام إنما يخص علاقة الدولة فيما بينها في السلم و الحرب. و القانون الدولي الخاص في الفقه هو ما يخص شخصية المسلم و جنسيته و تابعيته لأي مذهب من مذاهب الإسلام باعتبار ان القانون الدولي الخاص هو ما يخص الجنسية و التابعية.

قانون العقوبات في الفقه

و قانون الجزاء أو قانون العقوبات في الفقه هو ما يعيّن عقاب المجرمين الذين يتعدون على الراحة الخاصة أو العامة أو على الأمن الخاص أو العام و هو ما يخص الحدود و القصاص و الديات.

باب مدينة العلم، ص: 84

ثمّ انه في الأزمنة المتأخرة اختص اسم القانون بمجموع القواعد التي تضعها و تقررها الهيئة الحاكمة و السلطة الزمنية بواسطة المقننين لها لسير الرعية فيما يخص شئونهم الدنيوية سواء كان عاما كقانون منع السرقة فانه لا يخص طائفة دون أخرى، أو خاصاً كقانون الشرطة فإنها تخص خصوص الشرطة. و من مقومات القانون وجود الجزاء و العقاب من السلطة على مخالفته.

التنفيذ المباشر و غير المباشر

و يسمى إلزام الشخص بالعمل به بالتنفيذ الجبري المباشر كالزام الشاهد بتأدية شهادته أمام الحاكم و قابله التنفيذ غير المباشر فيما إذا كان التنفيذ الجبري غير ممكن كأن يحجر على ماله أو يحبس من يخصه.

القانون الوضعي و الطبيعي

و قد قسموا القانون إلى الوضعي و الطبيعي و الأصح في تفسيرهما هو أن القانون ان أخذ و استمد من قوانين موضوعه سابقاً أو من تقاليد موجودة حالًا أو من أمور عرفية عامة ثابتة سمي وضعيّاً لوضعه سابقا و ان استمد واخذ من أحكام العقل بحسب ما تقتضيه المصالح و المفاسد سمي طبيعياً لأن الطبيعة هي التي أوحت به لعقل المقننين.

القانون المدون أو المسطور

ثمّ ان القانون إذا وضعت صيغة قوانينه في شكل المواد سمي بالقانون المدوّن أو القانون المسطور و إذا لم يكن كذلك سمي بغير المدوّن و منه يمكن ان نسمي الأحكام الشرعية المسطورة في الكتاب و السنة بالفقه المدوّن و التي تستخرج بالاجتهاد الفقهي بالفقه غير المدوّن.

الزواجر و المؤيدات و الضوامن

و القوانين التي تحمل الرعية على العمل بالأوامر و النواهي المشرعة في حقهم و تكسب النظام المشرّع في حقهم قوة و منعة و تجعله محترما مطاعاً تسمى عند الفقهاء بالزواجر لأنها تردع و تزجر عند المخالفة لنظام المشرّع لهم و تسمى عند الحقوقيين بالمؤيدات لأنه تؤيد النظام المشرّع لهم و تقويه و تسمى بالضوامن جمع (ضامن) لأنها تضمن الطاعة للنظام المشرّع في حقهم و تكفل تنفيذه و تصونه عن مخالفة الرعية له و في الشريعة الإسلامية تكون أحكام القصاص و الحدود و التعزيرات بل و الكفارات و نحوها من الزواجر و الضوامن و المؤيدات. ثمّ ان الزواجر تكون على قسمين:

الأول الترغيبية و هو ما يرتب من النفع على العلم بالقانون كقانون اعطاء الغنائم للمجاهدين في سبيل اللّه و كحق الإمام الذي يعطي للإمام أو لنائبه و كالاجور التي تعطى للقيم على الصغار أو للمتولي على المال.

و الثاني الترهيبية و التأديبية و هو ما يرتب من الجزاء و العقاب على المخالفين للقانون كقانون قطع يد السارق على مخالفته بارتكابه السرقة المنهي عنها أو الحكم بفساد المعاملة عند فقدها لشرائطها و كقوانين الحدود و القصاص و التعزيرات.

باب مدينة العلم، ص: 85

المطلب السادس في أجزاء العلوم و بيان أجزاء علم الفقه

الفصل الأول في أجزاء العلوم

اشارة

و مما يذكر قبل الشروع في العلم أجزاؤه فقد ذهب أرباب العلوم إلى ان أجزاء العلوم ثلاثة الموضوعات و المبادئ و المسائل (و المراد من العلوم) العلوم المدوّنة في الكتب لا القائمة في صدور العلماء لأن العلوم القائمة في الصدور اما عبارة عن نفس مسائلها أو عبارة عن ملكاتها و على الأول فأجزاؤها نفس المسائل و على الثاني فلا أجزاء لها نعم العلوم التي دوّنت لها تلك الأجزاء و قد صرح بهذا القيد اعني قيد

(المدوّنة) جماعة. منهم ملا عبد اللّه" رحمه اللّه".

فلا يرد عليهم ما قيل من ان حقيقة كل علم مسائله فكيف يجعل الموضوع و المبادئ من أجزاء العلم. و ذلك لأن مرادهم بالعلوم في هذا المقام هي العلوم المدوّنة لإثبات مسائلها بالدليل و لا ريب انه لا يقتصر فيها على ذكر مسائلها مجردة عن الدليل و مجردة عما يفيد تصور موضوعاتها و محمولاتها إذ لا فائدة معتد بها في تدوينها بدون تصورها و بدون الحجة عليها و بهذا الاعتبار صارت تلك المقدمات التي تفيد تصور المسائل و التي يستدل بها عليها أجزاء من تلك العلوم. فالمراد بكون أجزاء العلم ثلاثة هو أجزاء العلم المدوّن. و المراد بكون حقيقة العلم مسائله هو العلم في حد ذاته مع قطع النظر عن تدوينه.

(و يمكن الجواب أيضاً عن هذا الإشكال) بما أجبنا عنه في كتابنا نقد الآراء المنطقية و هو ان الأجزاء أعم من الأجزاء المقومة و غيرها. و المسائل هي الأجزاء المقوّمة و ما عداها هي أجزاء غير مقوّمة نظير الصلاة فان لها أجزاء مقومة كالركوع و اجزاء غير مقوّمة كالقنوت.

المراد بالموضوع الذي جز العلم

(و المراد من الموضوعات) هو نفس موضوعات العلوم و ذاتها لأنها هي التي يبحث في العلم عن أحوالها فلا يعقل ان تكون خارجة عن العلم المدوّن للبحث عن أحوالها فان الموضوع للشي ء له تمام الدخول في قوامه بل لدى التحقيق تكون هي المقصودة بالذات في العلم للبحث عن احوالها فلا يعقل تحقق العلم المذكور بدون الموضوع. و بهذا يندفع الإشكال المعروف على عدّ الموضوعات من اجزاء العلوم.

الإشكال المعروف على عدّ الموضوع من أجزاء العلم

(و توضيح الإشكال) ان من عدّ الموضوع من أجزاء العلم أن أراد به نفس الموضوع فهو باطل لأنه مندرج في موضوعات المسائل لأن موضوعات المسائل كما قد تقرر في محله أما ان تكون عين موضوع العلم كقول النحوي الكلمة اما مبنية أو معربة و لا ريب ان الكلمة موضوع علم النحو أو تكون نوعاً منه كقول النحوي الحرف مبني فان الحرف نوع من الكلمة أو تكون عرضا ذاتياً له كقول النحوي المثنى يرفع بالألف. فان التثنية

باب مدينة العلم، ص: 86

تعرض الكلمة أو تكون مركَّبة منهما كقول النحوي كل كلمة كان أولها ساكن يبدأ فيها بهمزة الوصل. فكان موضوع العلم مندرجاً في موضوعات المسائل التي هي أجزاء المسائل فلا يصح عده جزءاً على حده في مقابل المسائل و إلا لعدّ المحمولات جزء أيضاً فتكون أجزاء العلوم أربعة. و ان أراد به تعريف و تصور ماهية كلي الموضوع التي هي عبارة عما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية اعني وصف الموضوعية فهذا من صناعة البرهان لأنه إنما يذكر في صدر الكتب و يذكرونه للبرهان على أن الشي ء الفلاني موضوع لهذا العلم فليس له اختصاص بشي ء من العلوم فالمناسب ايراده في علم المنطق لأن المنطق آلة لجميع العلوم فلا

وجه لعده من أجزاء العلم. و ان أراد به تصور ذات موضوع العلم و مصداقه كتعريف الكلمة التي هي موضوع علم النحو فهذا مندرج و داخل في المبادئ التصورية لأنه يتوقف عليه معرفة موضوع المسألة لما عرفت من ان موضوع العلم قد يكون عين موضوع المسألة و لأن البحث في المسائل إنما يكون عنه فمعرفة المسألة موقوف على معرفته فهو مندرج في المبادئ التصورية بل هو أيضاً مقدمة لمقدمة الشروع لأن من مقدمة الشروع التصديق بموضوعية الموضوع.

و هي متوقفة على تصور الموضوع و هكذا لو قلنا بأن التصديق بوجود الموضوع من اجزاء العلم أو من مقدمة الشروع فهو متوقف أيضاً على تصور الموضوع فلا وجه لعده جزءاً على حده. و ان أراد به التصديق بوجود الموضوع كالتصديق بوجود الكلمة فهو داخل في المبادئ التصديقية لأن البرهان على وجود الموضوع يتوقف عليه التصديق بالمسألة لنا عرفت من أن البحث في المسائل إنما يكون عن احواله فلا يعقل ان يصدّق بالمسألة إذا لم يصدق بوجوده و إلا لكان البحث عن احواله أمراً موهوماً فيكون التصديق بوجوده مندرجاً في المبادئ التصديقية فلا وجه لعده جزء على حده و لذا قالوا ان التصديق بوجود الموضوع اما ان يكون بديهياً كالموجود بما هو موجود الذي هو موضوع الفلسفة الأولى و اما مبيناً في علم آخر كالعدد للحساب و المقدار للهندسة المبيّن وجودها في الفلسفة الأولى.

قالوا و التكفل لبيان جميع الموضوعات هو الفلسفة الأولى و انه لها الرئاسة المطلقة و لا يجوز بيانه في العلم الذي يكون هو موضوعاً له. ضرورة ان ما لا يعلم ثبوته كيف يطلب ثبوت شي ء له. و ان أراد التصديق بموضوعيته للعلم كأن يصدق بأن الكلمة

موضوع لعلم النحو فهو من مقدمات الشروع في العلم و لذا يعرفون فيها مطلق الموضوع و يذكرون فيه ان العلم يبحث عن أحوال هذا الشي ء كل ذلك للتصديق بأن العلم المسمى بهذا الاسم هو الذي بحث عن أحوال هذا الشي ء و لا ريب ان مقدمة الشروع في العلم خارجة عنه فكيف يعد ما هو جزء منها جزءاً من العلم لأن الشروع في العلم موقوف على الشروع فيها فلو كان جزؤها جزءاً للعلم للزم توقف الشي ء على نفسه بل يمكن ان يقال ان التصديق بموضوعية الموضوع من ثمرات العلم لأنه لا يمكن التصديق بذلك إلا بعد الاحاطة بمسائل ذلك العلم حتى يعلم انه يبحث عن أحوال ذلك الشي ء و ان كان يمكن ان يقال ان التصديق بالموضوعية إجمالًا من سوابق العلم و مقدمات الشروع و التصديق بذلك تحقيقاً و تفصيلًا من ثمرات العلم و لواحقه.

باب مدينة العلم، ص: 87

الجواب عن الإشكال المعروف

و الجواب عن الإشكال المذكور ان مرادهم بالموضوعات نفسها لا تصورها و لا التصديق بوجودها و لا التصديق بموضوعيتها للعلم كما هو الحال في المسائل فانهم لا يريدون بها تصورها و لا التصديق بوجودها و لا التصديق بكونها مسألة للعلم أو مبدأ تصورياً أو تصديقياً له و انما يريدون ان نفسها و ذاتها جزء للعلم. و دعوى ان نفس الموضوع مندرج في موضوعات المسائل فهو جزء من المسائل.

مندفعة بأن الذي هو جزء للعلم هو نفس الموضوع في حد ذاته لا باعتبار انه موضوع للمسألة و أما موضوع المسألة فهو إنما يكون موضوعا باعتبار المسألة بل الكثير من المتأخرين ظاهر كلامهم ان موضوع العلم يغاير موضوعات مسائله تغاير الكلي الطبيعي مع مصاديقه كما انه استراح من هذا

الإشكال من قال بأن المسائل هي المحمولات المنتسبة للموضوعات كما ينسب ذلك للمحقق الدواني و غيره من المتأخرين.

و قد أجاب عن الإشكال المذكور التفتازاني ان الذي هو جزء من العلم هو التصديق بوجود الموضوع فان ما لم يعلم وجوده كيف يبحث عن عوارضه. ورد عليه السيد الشريف بأن التصديق بالوجود من المبادئ التصديقية للعلم على ما صرح به الشيخ في الشفاء و أورد بأن المبادئ التصديقية هي التي يتألف منها قياسات العلم. و التصديق بوجود الموضوع ليس كذلك نعم لو فسرنا المبادي بما فسرها التفتازاني من انها ما يبتني عليها قياسات المسائل لا خصوص المقدمات التي يتألف منها قياسات المسائل كان التصديق بوجود الموضوع داخلًا في المبادي لتوقف التصديق بالمسألة على التصديق بوجود موضوعها و هو يرجع إلى التصديق بوجود موضوع العلم لما عرفت من أن موضوع المسألة اما عين موضوع العلم أو جزئي منه أو عرضي ذاتي له أو مركَّب منهما و لا ريب ان التصديق بوجود ذلك يستدعي التصديق بوجود موضوع العلم. و قد ظهر مما ذكرناه فساد ما ذكره صاحب البدائع في الجواب عن الإشكال بأن المعدود من مقدمات الشروع هو تصور موضوعات المسائل بالعنوان الإجمالي و الذي هو جزء من العلم هو تصوراتها التفصيلية لأنه إنما يتم لو جعلنا المسائل عبارة عن المحمولات المنتسبة.

و قد استدل بعضهم على ان التصديق بوجود الموضوع ليس من أجزاء العلوم بما هو المنسوب لصاحب المحاكمات من ان مسائل العلم هي إثبات الأعراض الذاتية للموضوع و أجزاؤه و هو يتوقف على ثبوت الموضوع فلو كان ثبوت الموضوع و أجزائه من مسائل العلم لزم توقف الشي ء على نفسه.

و لا يخفى ما فيه فان هذا إنما يصلح دليلا

لنفي كونه مسألة من مسائل العلم لا لنفي جزئيته للعلم فانه لو كان جزءاً للعلم في مقابل مسائله لم يلزم ذلك.

بيان المراد بالمبادي التي هي جزء العلم

(و المراد بالمبادي) إذا اطلقت في هذا المقام هو ما يتوقف توقفاً قريباً لا بعيداً عليه معرفة المسائل تصورا كتعاريف موضوعاتها و محمولاتها أو تصديقا كالأدلة عليها و هي على قسمين:

(أحدهما) مبادي تصورية و هي تعاريف موضوعات المسائل و محمولاتها و تعاريف أجزائها فيما لو كان موضوع المسألة أو محمولها مركباً و تعاريف أقسامها و أعراضها فيما

باب مدينة العلم، ص: 88

لو احتيج إلى ذكرها و عليه فتعريف مثل البلوغ أو العدالة في علم الفقه من المبادئ لكونها مأخوذة في موضوع مسائله.

(و ثانيهما) المبادئ التصديقية و هي المقدمات التي تتألف منها أدلة المسائل لا ما يتوقف عليه التصديق بالمسائل و إلا لكان اغلب العلوم مبادئ تصديقية لغيرها من العلوم. و هذه المقدمات التي تتألف منها أدلة المسائل ان كانت واضحة بيّنة سميت علوماً متعارفة أو أصولًا متعارفة و ان كانت غير بيّنة فان كانت قد برهن عليها في علم و أخذت في هذا العلم على سبيل التسليم سميت بالمسلمات و ان برهن عليها في نفس العلم سميت بالبرهانيات و ان لم يبرهن عليها فيه و لم تكن قد برهن عليها في علم آخر فان كانت قريبة من الطبع يسكن إليها المتعلم سميت أصولا موضوعة أو سميت مصادرات. و هذا بخلاف المبادئ التصورية فإنها لا بد و ان تبين في نفس العلم لتوقف تصور المسائل عليها و لذا الفقهاء يعرفون في كتبهم موضوعات مسائل الفقه التي هي غير واضحة و لا يحوّلون الأمر لكتب اللغة و غيرها بخلاف أدلتهم فانهم يأخذون مقدماتها على سبيل

التسليم أ لا ترى يستدلون بالاستصحاب و الخبر الواحد و الدور و التسلسل دون ان يقيموا البرهان على دليليتها اعتمادا على العلوم المتكفلة لذلك كعلم الأصول و علم الحكمة و الكلام و نحوها. ثمّ هذه المبادئ قد تكون عامة تستعمل في كل علم كقولهم النقيضان لا يجتمعان و لا يرتفعان. و إذا وجدت العلة وجد المعلول. و الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل فيه الاستدلال. و قد تكون خاصة بالعلم كقاعدة الثقل في التلفظ في علم النحو و كقاعدة ما لا يدرك كله لا يترك كله في علم الفقه و كقاعدة الشك بعد الفراغ. و قد تكون المبادي للعلم مسائل له أيضاً كقاعدة الطهارة فإنها مسألة فقهية و مبدأ لمسألة الطهارة ماء الغسالة مثلًا. (و قد تطلق المبادئ) على الأعم من ذلك و هو ما يبدأ به قبل الشروع في مسائل العلم سواء كان داخلًا في العلم فيكون من المبادي المصطلحة المتقدم ذكرها كتصور موضوع المسألة و محمولها و كالتصديقات التي يتألف منها قياسات مسائل العلم أو خارجاً عن العلم يتوقف عليه الشروع على وجه البصيرة و يسمى بالمقدمات للعلم كتعريف العلم و بيان غايته و موضوعه و طالما أطلقناها بهذا المعنى في صدر هذا الكتاب. و هي بهذا المعنى تطلق على الرءوس الثمانية و قد تطلق المبادئ على الأعم من ذلك و هو ما يتوقف عليه معرفة المسائل و لو توقفاً بعيداً. و عليه فتكون كثيرٌ من العلوم من مبادئ العلم المتوقف مسائله عليها. و بهذا الاعتبار سميت العلوم التي يتوقف عليها علم الفقه بالمبادئ.

المسائل التي هي من اجراء العلم

(و المراد بالمسائل) هي المطالب المقصود بيانها في العلم و هي تكون مشتملة على بيان عوارض موضوع العلم الذاتية كقول

النحوي الفاعل مرفوع فإنها تسمى مسألة نحوية لأنها مشتملة على بيان ثبوت الرفع للكلمة التي تكون فاعلا و هكذا قول الفقيه الصلاة واجبة فإنها مسألة فقهية لأنها مشتملة على بيان ثبوت الوجوب لفعل المكلف الذي هو الصلاة. و ذلك لأن موضوع العلم هو الذي يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية و الذي يشتمل على هذا البحث هو مسائل العلم فلا بد ان تكون مسائل العلم هي التي تشتمل على البحث عن عوارض موضوع العلم. هذا فيما إذا كان العلم قد دوّن لبيان عوارض موضوع خاص و أما إذا دوّن لغاية خاصة فتكون مسائله هي القضايا التي تترتب عليها تلك الغاية.

باب مدينة العلم، ص: 89

البحث عن المسألة من جهات ثلاثة

ثمّ لا يخفى ان الكلام في المسائل وقع في جهات ثلاثة بعد الاتفاق على إنها هي المطالب المقصودة بيانها في العلم.

(الجهة الأولى) في انها عبارة عن نفس القضايا كما هو ظاهر عبارة التفتازاني حيث قال المسائل هي قضايا تطلب في العلم و ظاهر عبارة العلامة الحلي أيضاً في شرحه لتجريد المنطق بل لعله ظاهر الأكثر. أو المسائل عبارة عن المحمولات المنسوبة إلى الموضوعات بحيث تكون موضوعات المسائل خارجة عن المسائل كما هو المحكي في شرح المطالع عن المحقق الدواني. و المسائل النسب التامة الخبرية التي يتعلق بها التصديق كما هو مذهب الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية على المعالم. و أُستُدِل على الأخير بأن المراد من وضع الفن هو التصديق بمسائله و الذي يتعلق به التصديق هو النسبة التامة الخبرية لا أطرافها التي هي الموضوعات و المحمولات. و لا يخفى ما فيه فان كون متعلق التصديق هو ذلك أو كونه هو الذي يقام عليه الدليل لا يستدعي أن تكون المسألة عبارة

عنه فان المركَّبات طالما يتعلق القصد ببعض أجزائها فان ذلك لا يستدعي كون المركب هو ذلك الجزء أ لا ترى انا نقصد من المركَّبات كالحيوانات بعض أجزائها فانه لا يلزم ان يكون ذلك الحيوان عبارة عن نفس ذلك المقصود منه على انا لا نسلم ذلك فان المقصود هو معرفة حال الموضوع غاية الأمر ان هذه المعرفة بعضها يحصل بالتصور و هو تصور الموضوع و تصور حاله و عوارضه و بعضها يحصل بالتصديق و هو التصديق بالنسبة التامة بينه و بين عوارضه فلا بد ان نبقي المسألة على معناها و لا نخرجها عنه و هو القضية فانه المتبادر منها.

مضافاً إلى ان المسألة لو كانت هي النسبة التامة الخبرية و ان الموضوعات خارجة عنها لزم ان تكون المحمولات أيضاً خارجة عنها فيلزم ان تكون أجزاء العلوم أربعة الموضوعات و المحمولات و المبادئ و المسائل بل خمسة بناء على ان موضوع العلم غير موضوعات المسائل. و دعوى ان المسألة هي حيثية ثبوت المحمولات و انتسابها لا انها نفس المحمولات فحينئذ لا مجال لعدها جزءاً من العلم بعد مدخليتها في المسائل مدخلية تامة.

فاسدة فان الحيثية المذكورة ان كانت نفس النسبة القائمة بين الطرفين فهي بالنسبة للموضوع و المحمول على حد سواء فان كانت المحمولات داخلة فيها فالموضوعات كذلك و ان كانت غيرها فنحن لا نتعقل في القضية وراء الموضوع و المحمول و النسبة التامة الخبرية و وقوعها شيئاً آخر.

اشتراط نظرية المسألة

(الجهة الثانية) في ان المسألة التي هي جزء من العلم هل يشترط ان تكون نظرية أم يجوز ان تكون بديهية ظاهر الأكثر كالتفتازاني و غيره اشتراط ذلك بل ادعي عليه الإجماع و من هذه الجهة اخرج الفقهاء المسائل الفقهية الضرورية

عن علم الفقه و ظاهر المحقق الطوسي في تجريده للمنطق و العلامة الحلي" رحمه اللّه" في شرحه للتجريد عدم

باب مدينة العلم، ص: 90

الاشتراط حيث قال" رحمه اللّه" في شرحه لتجريد المنطق المسائل في كل علم هي القضايا الخاصة بذلك العلم التي يشك في انتساب محمولاتها إلى موضوعاتها و يطلب في ذلك العلم البرهان عليها ان لم تكن بينة انتهى.

و صريح شارح المواقف حيث جوز كون المسألة بديهية تورد في العلم أما لإزالة خفائها أو لبيان لمّيتها.

و الحق انه لا بد في ان تكون المسألة من العلم فيها نوع من الخفاء و الا لم يصدق عليها انها يبحث فيها عن عارض موضوع ذلك العلم فان كانت بديهية فيجلى عنها ذلك الخفاء في العلم و لو من جهة اشتباه موضوعها كمسالة حرمة الغناء فإنها ضرورية و لكن فيها خفاء من جهة تشخيص موضوعها و هو الغناء. و إلا لما كان يحصل بها البحث عن عوارض موضوع العلم. مع ان العلم مفروض فيه ان يبحث عن عوارضه.

جواز ان يكون المحمول عرضاً غريباً

(الجهة الثالثة) في ان محمول المسألة هل يجوز ان يكون عرضاً غريباً لموضوع المسألة أم لا بد و ان يكون عرضا ذاتيا لموضوعها بعد اتفاقهم على ان محمولها لا بد و ان يكون عرضا ذاتيا لموضوع العلم المدونة فيه و إلا لما كان العلم باحثاً عن الأعراض الذاتية لموضوعه.

ذهب إلى الثاني الشيخ ابن سينا و التفتازاني و اكثر العلماء و ذهب إلى الأول المحقق الطوسي" رحمه اللّه" و غيره على ما حكي عنه فجوّزوا كونه عرضاً غريباً لموضوع المسألة و الحق مع الشيخ لو فسرنا الأعراض الذاتية بالذي يعرض للشي ء بلا واسطة في العروض و قلنا ان موضوع العلم

لا بد و ان يكون عين موضوعات مسائله إذ لا بد من رجوع موضوعات المسائل إليه و إلا لكان البحث فيها عن غير عوارضه فانه على هذا لا بد و ان يكون المحمول من عوارض موضوع المسألة الذاتية لرجوع موضوع المسألة لموضوع العلم و المحمول عرض ذاتي لموضوع العلم فيكون عرضاً ذاتياً لموضوع المسألة و عليه فالمسائل الفقهية التي كان محمولها عرضاً غريباً لموضوعها ليست من مسائل العلم فقول الفقهاء الخمر حرام لا تكن مسألة فقهية لأن عروض الحرمة للخمر بالعرض و المجاز و إنما المسألة الفقهية هي شرب الخمر حرام. (ثمّ) ان الذين اشترطوا ان يكون محمول المسألة عرضاً ذاتياً اختلفوا فيما بينهم فذهب بعضهم بل أكثرهم إلى عدم جواز ان تكون محمولات المسائل من مقومات موضوعاتها لأن المقوّم للشي ء لا يطلب بالبرهان ثبوته له إذ لا يطلب البرهان على المسألة إلا بعد تصور أجزائها فلا يطلب البرهان على المسألة إلا بعد تصور موضوعها و معرفته و من المستحيل ان يحصل معناه في الذهن خالياً عن حصول ما هو ذاتي له في الذهن لأنه محال معرفة الشي ء مع الجهل بمقوماته فجميع مقومات الماهية داخلة مع الماهية في التصور فكيف تأخذ الماهية و يثبت لها أحد أجزائها المقوّمة لها بالبرهان.

باب مدينة العلم، ص: 91

و لكن التحقيق جواز ذلك فأنا كثيراً ما نتصور الماهية بعارض من عوارضها و نشك في ثبوت بعض الأجزاء لها لأن الأجزاء ليست أجزاء للعارض المتصور و إنما هي أجزاء للمعروض. نعم لو كانت الماهية متصورة بكنهها و حقيقتها لا يطلب ثبوت ذاتيتها لها بالبرهان. و عليه فالمسائل المشتملة على بيان أجزاء بعض الموضوعات الفقهية كالمسائل الباحثة عن الأجزاء المقوّمة للوضوء

و الغسل و الصلاة و الحج كلها من المسائل الفقهية و لا وجه لاخراجها تبعاً لما هو المشهور بين الحكماء و الفلاسفة.

عينية موضوعات المسائل لموضوع العلم

ثمّ ان موضوعات المسائل لا بد و ان تكون اما عين موضوع العلم كقول النحوي الكلمة اسم أو فعل أو حرف فان موضوع هذه المسألة هو الكلمة و هو عين موضوع علم النحو و كقول الفقيه الفعل اما يمنع من تركه فهو الواجب و أما يمنع من إتيانه فهو المحرم و أما يرجّح إتيانه فهو المستحب و أما يرجّح تركه فهو المكروه و أما يتساوى طرفاه فهو المباح. فان موضوع هذه المسألة هو فعل المكلف و هو عين موضوع علم الفقه و كقول الفقيه الفعل بلا اجتهاد و لا تقليد و لا احتياط باطل. و أما ان يكون موضوع المسألة نوع من موضوع العلم كقول النحوي الحرف مبني فان الحرف نوع من الكلمة التي هي موضوع علم النحو و كقول الفقيه الغصب حرام فان الغصب نوع من فعل المكلف الذي هو موضوع علم الفقه. و أما ان يكون موضوع المسألة عرض لموضوع العلم كقول الفقيه عبادية العمل لا بد فيها من قصد القربة فان العبادية عرض لفعل المكلف الذي هو موضوع علم الفقه و كقولنا الصلاة واجبة فان الصلاة عرض للفعل نظير قول النحوي الفاعل مرفوع فان الفاعلية عرض للكلمة أو يكون موضوع المسألة مركباً منهما كقول الفقيه الفعل الضار يحرم ارتكابه. و إنما اشترطوا في موضوع المسألة ان يكون كذلك لأجل ان يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لموضوع العلم فان موضوع المسألة لو لم يكن كذلك لما كان محمولها من الأعراض الذاتية لموضوع العلم فلا يكون البحث في المسألة عن العوارض

الذاتية لموضوع العلم فتكون خارجة عن العلم.

و من هنا يظهر لك ان قول الفقيه الخمر حرام و الكلب نجس و العذرة ثمنها سحت ليست بمسالة فقهية إذ ليس موضوعها أحد الأقسام الأربعة المذكورة فلا بد من تأويلها بأن يقال شرب الخمر حرام و ان مباشرته سبب لتنجس المباشر برطوبة و ان أكل ثمن العذرة حرام.

المطلب السابع: في ما يميز به مسائل كل علم عن مسائل علم آخر

اشارة

لما كان تمييز مسائل العلم عن غيرها مما يحتاج إليه المؤلف و المتعلم لئلا يطلب ما لا يهمه و يترك ما يهمه. مضافا إلى ان الفقهاء و الأصوليين طالما وقع منهم النزاع في بعض المسائل انها من علم الفقه أو من علم الأصول وجب علينا ان نذكر الميزان في عدّ المسألة من العلم ليميز به مسألة العلم عن غيرها فنقول

ان ما ذكر ميزانا لعد المسألة من العلم أو يمكن ان يكون ميزانا لعدها منه أمور:

اشارة

باب مدينة العلم، ص: 92

الميزان الأول [ان تكون المسألة باحثة عن الأعراض الذاتية لموضوع العلم]

(أحدها) ان تكون المسألة باحثة عن الأعراض الذاتية لموضوع العلم و هي إنما تكون كذلك إذا كان محمولها من الأعراض الذاتية لموضوع العلم و هو إنما يكون كذلك إذا كان موضع المسألة عين موضوع العلم أو نوعا منه أو عرضا ذاتيا له أو المركب منهما كما تقدم إذ لو لم يكن كذلك كان موضوعها أجنبيا عن موضوع العلم فلا يكون محمولها عرضاً ذاتياً له.

و لا يخفى ان هذا الميزان إنما يتم لو كان للعلم موضوع و إلا لو جمعت المسائل لغرض خاص و سميت باسم علم فالميزان هو ترتب ذلك الغرض عليها.

الميزان الثاني [انه بواسطة تعريف ذلك العلم تحصل مقدمتان كليتان موجبتان للزوم التساوي بين المعرَّف و المعرِّف]

(ثانيها) انه بواسطة تعريف ذلك العلم تحصل مقدمتان كليتان موجبتان للزوم التساوي بين المعرَّف و المعرِّف للزوم صدق المعرِّف (بالكسر) على جميع ما صدق عليه المعرَّف (بالفتح) و صدق المعرَّف (بالفتح) على جميع ما صدق عليه المعرِّف (بالكسر) أو موجبة كلية و أخرى سالبة كلية معدولة الموضوع للزوم سلب المعرِّف (بالكسر) عن كل ما ليس بالمعرف (بالفتح) للزوم التساوي بينهما و بسبب العلم بهاتين المقدمتين يقتدر على تميز مسائل ذلك العلم عن غيرها بواسطة مقدمة وجدانية فمثلًا إذا علمنا بأن علم الفقه عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية يحصل لنا العلم بكليتين موجبتين: إحداهما كل علم يكون فقهاً فهو علم بالحكم الشرعي الفرعي عن دليل تفصيلي.

و ثانيهما و كل علم بالحكم الشرعي الفرعي عن دليل تفصيلي فهو من علم الفقه أو نقول بدلا عن هذه المقدمة الثانية لا شي ء مما هو ليس بعلم بالحكم الشرعي الفرعي عن دليل تفصيلي بفقه. ثمّ إذا وجدنا مسألة يحصل بها العلم المذكور بالوجدان السليم و الطبع المستقيم نضمها إلى المقدمة الثانية و نقول هكذا:

هذا العلم من هذه المسألة علم بالحكم الشرعي الفرعي عن دليل تفصيلي. و كل علم كذلك فهو من علم الفقه فينتج هذا العلم من هذه المسألة من علم الفقه بالضرب الأول من الشكل الأول. و ليست مسألة العلم إلا التي يحصل منها ذلك العلم و إذا وجدناها مسألة لا يحصل بها العلم المذكور نضمها إلى المقدمة الأولى فنقول هكذا. هذا العلم من هذه المسألة ليس بالعلم المذكور و كل علم يكون من الفقه هو العلم بالحكم الشرعي الفرعي عن دليله التفصيلي ينتج هذا العلم من هذه المسألة ليس بعلم فقه بالضرب الثاني من الشكل الثاني أو نقول هذا العلم من هذه المسألة هو اللاعلم بالحكم الشرعي الفرعي عن دليل تفصيلي بنحو الموجبة المعدولة المحمول. و لا شي ء من اللاعلم بذلك بفقه ينتج لا شي ء من هذا العلم من هذه المسألة بفقه بالضرب الثاني من الشكل الأول.

الميزان الثالث [ما يظهر من صاحب المعالم من ان مسائل العلم هي المطالب الجزئية المستدل عليه في العلم]

(ثالثها) ما يظهر من صاحب المعالم من ان مسائل العلم هي المطالب الجزئية المستدل عليه في العلم (و فيه):

أولًا: ان من المبادئ التصديقية ما يستدل عليها في العلم إذا لم يستدل عليها في علم آخر كأمارية اليد فانه يستدل بها على ملكية ما في يد الإنسان في الفقه.

باب مدينة العلم، ص: 93

و ثانياً: ان المسألة الفقهية المستحدثة و التي غفل عن ذكرها لا تعرف بهذا التعريف لعدم الاستدلال عليها في العلم كمسالة المعاملات المصرفية و التأمين على الحياة و السرقفلية.

و ثالثاً: ان مسائل العلم هي مطالب كلية و قواعد عامة و لعل الأصح قراءة الجزئية بالخبرية.

الميزان الرابع [ما ذكره بعض المحققين من الحكماء و المنطقيين]

(رابعها) ما ذكره بعض المحققين من الحكماء و المنطقيين و تبعهم عليه صاحب الكفاية" رحمه اللّه" في ان الميزان و الضابط في عدّ المسألة من العلم ترتب غرض المدوّن عليها و إنما اعتبروا غرض المدوّن هو الميزان دون غرض المتعلم أو المعلم لأن الذي جعل هذه المسائل المتشتتة علماً واحداً هو المدوّن و هو إنما جعلها من العلم الذي دوّنه لكون الغرض الذي تصوره كان مترتبا عليها و لذا لو فرض مسألة لم يدونها المدوّن للعلم في مسائل العلم و بعد ذلك اطلعنا على دخولها في غرضه عددناها من مسائل العلم لأن المقياس عنده في وحدة المسائل و عدّها من علم واحد هو دخولها في ذلك الغرض.

كما لو اطلعنا على مسألة لا دخل لها في غرض المدوّن لم نعدّها من مسائل العلم و ان عدّها المدوّن من العلم. ثمّ ان دخل المسائل في الغرض تارة يكون بنحو العلية كمسائل الحكمة فان غرض المدوّن منها هو كمال النفس و تارة يكون بنحو الآلة من قبيل دخل الضوء في معرفة

الرائي للأشياء و نظير دخل المرشد في دلالة الضال على الطريق و نظير دخل العقل في تركيب العمل من العامل و إتقان صنعة له و ذلك مثل علم النحو و علم المنطق فان علم النحو بواسطته يصون المتكلم لسانه عن الخطأ و علم المنطق بواسطته يصون المفكر ذهنه عن الخطأ في الفكر.

و يرد عليهم أولا ان ما ذكروه إنما يتم لو كان تدوين العلم لغرض خاص أما إذا كان تدوين العلم لأجل البحث عن حالات موضوع خاص فالميزان في عدّ المسألة من العلم كون محمولها من حالات ذلك الموضوع الخاص و هكذا لو كان تدوين العلم لأجل غرض خاص و بيان حالات موضوع خاص فالميزان في عدّ المسألة من العلم ثبوتهما كليهما فيها. و لا يخفى ما فيه فانه أيضاً يكون عدّ المسألة من العلم لترتب غرض المدوّن عليها غاية الأمر يكون غرض المدوّن هو معرفة حالات ذلك الموضوع الخاص. و لكن يمكن أن يقال ان مرادهم ان ترتب غاية العلم يكون هو الميزان حتى لو كان له موضوع و ليس كون المسألة تبحث عن حالات الموضوع من الغرض المذكور.

و يرد عليهم ثانياً بما أورده والدي بأن مسائل العلوم متفقة في الغرض و هو تكميل النفس أو كما قيل معرفة اللّه (تعالى) فيجب ان تكون مسائل العلوم مسائل لعلم واحد و تكون العلوم علماً واحداً.

و جوابه ما قدمناه ان الميزان هو ترتب غرض المدوّن عليها و هو نوع من تكميل النفس.

باب مدينة العلم، ص: 94

و يرد عليهم ثالثاً بأن بعض مسائل الهيئة و العلوم العربية و الحساب لها دخل في الغرض الذي لأجله دوّن علم الفقه فان علم الهيئة له دخل في معرفة الجهة

التي يجب ان يستقبل فيها الصلاة و الذبح و نحو ذلك و هكذا الحساب بالنسبة إلى المواريث و هكذا معرفة اوضاع اللغة لها دخل في معرفة الأحكام الشرعية من السنة و الكتاب بل الكثير من مسائل العلوم العربية لها دخل في الغرض الذي لأجله دوّن علم الأصول فإنها توجب القدرة على الاستنباط.

و جوابه كما ذكره بعض المحققين بتوضيح منا ان المراد انها له دخل في الغرض الذي لأجله دوّن العلم بلا واسطة فالمسائل المذكورة ان كان لها دخل في الغرض بلا واسطة كانت من العلم و ان كان لها دخل في الغرض بالواسطة لم تكن من مسائل العلم. على إنهم التزموا بكون المسألة التي يرتب عليها غرضان أو أغراض لعلوم متعددة تكون من مسائل تلك العلوم.

و يرد عليهم رابعاً ان الميزان في عدّ المسألة من العلم لو كان ما ذكروه لزم ان يصح في المسألة التي رتب عليها غرض المدوّن ان تعد من مسائل العلم و لو كان موضوعها لا ينطبق عليه موضوع العلم مع انه اشترطوا ان يصدق موضوع العلم على موضوعها.

و التحقيق ما عرفته منا من إن العلم المدوّن للبحث عن موضوعات خاصة شرط عدّ المسألة منها و هو صدق موضوعه على موضوع المسألة أو يكون موضع المسألة عرضاً ذاتياً له و إلا لكانت غير باحثة عنه. و أما العلم المدوّن للبحث عن غاية و غرض خاص شرط عدّ المسألة منه دخلها في الغرض الذي دوّن له العلم سواء كان له موضوع أم لا و سواء صدق موضوعه على موضوع المسألة أم لا لأن المهم معرفة ترتب الغرض لا غير. نعم لو كان المقصود كليهما وجب في المسألة التي تعد منه ثبوتهما بأن

يصدق على موضوعها موضوع العلم. و ترتب الغاية عليها فمثلًا ان الميزان في عدّ المسألة من علم الأصول يكون أما بانطباق موضوع علم الأصول على موضوعها و هذا إنما يتم لو قلنا بأن علم الأصول قد دوّن للبحث عن حالات موضوع خاص كأن قلنا انه دوّن للبحث عن الأدلة و أما بدخل المسألة في غرض علم الأصول و هذا إنما يتم لو قلنا بأن علم الأصول قد دوّن لغرض خاص كالقدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية.

الميزان في عدّ المسألة من علم الأصول لا من الفقه

اشارة

و بهذه المناسبة لا بأس بالتعرض لما ذكره بعض الأصوليين من الموازين في عدّ المسألة من علم الأصول لكثرة الاشتباه بينها و بين مسائل علم الفقه.

الميزان الأول [ان مسألة علم الأصول تقع كبرى لقياس ينتج حكماً شرعياً كلياً]

الميزان الأول هو ان مسألة علم الأصول تقع كبرى لقياس ينتج حكماً شرعياً كلياً. و تقريب ذلك على ما ذكره والدي" رحمه اللّه" في تقريراته لبحث استاذه النائيني" رحمه اللّه" بتوضيح منا. ان علم الأصول تثبت به كبريات تكون الجزء الأخير لدليل الاستنباط للحكم الشرعي الكلي و تنقيح صغريات هذه الكبريات في العلوم السابقة على الأصول

باب مدينة العلم، ص: 95

كالنحو و الصرف و البيان و الرجال و اللغة فانه بأحدها تثبت صغرى و هي (ان هذه الآية أو الحديث ظاهر في كذا) و في علم الأصول يبين كبرى هذه الصغرى و هي (ان الظواهر حجة يعمل على طبقها) كما يقال ان الوجوب ظاهر الآية و الظاهر حجة يعمل على طبقه فالوجوب يعمل على طبقه و بعلم الرجال يثبت ان هذا الراوي ثقة و بالاصول تنقح كبرى ذلك و هي ان الوثاقة موجبة لحجية الخبر و مرجحة له عند التعارض أو غير ذلك.

(و يرد عليه" رحمه اللّه" أولا) ان القواعد الفقهية كقاعدة الحلية تقع كبرى لقياس يستنبط منه حكم شرعي نظير المسألة الأصولية فيقال الدخان مشكوك الحلية و كل مشكوك الحلية حلال استعماله فالدخان حلال استعماله.

و جوابه كما هو أجاب عنه" رحمه اللّه" ان المستنتج من المسألة الأصولية لا يكون إلا حكماً كلياً بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهية فانه يكون حكما جزئياً و ان صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الكلي. فالمائز بينهما هو قابلية استنتاج الحكم الجزئي بالقاعدة الفقهية و عدمه في المسألة الأصولية و سيجي ء ما فيه

إن شاء اللّه في الإيراد الثالث.

(و يرد عليه ثانياً) كما يظهر من كلام بعض مقرري بحثه" رحمه اللّه" ان بعض المسائل الأصولية تقع صغرى لقياس استنباط الحكم الشرعي فتكون فاقدة للمائز المذكور كالبحث عن معنى صيغة افعل و معنى النهي.

و جوابه كما هو أجاب عنه ان هذه المسألة الأصولية التي تقع صغرى لقياس الاستنباط تقع كبرى في قياس استنباط آخر فيكون المائز موجوداً فيها بخلاف مسائل باقي العلوم التي تكون صغرى لقياس الاستنباط فإنها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط أصلا.

(و يرد عليه ثالثا) بمثل القواعد الفقهية العامة التي تقع كبرى في قياس الاستنباط لحكم كلي مثل قاعدة الضرر و قاعدة ما يضمن بصحيحه و قاعدة الطهارة و قاعدة الحرج و قاعدة الصلح جارٍ بين المسلمين إلا ما احل حلالا و حرّم حراماً و قاعدة لا يطل دم امرء مسلم و قاعدة الحدود تدرأ بالشبهات و قاعدة القرعة لكل أمر مشتبه و قاعدة ما يحرم من الرضاع يحرم من النسب فإنها تقع كبرى لقياس يستنبط منه حكم كلي و هو حرمة الأم الرضاعية بأن يقال ان الأم تحرم من النسب و كلما يحرم من النسب يحرم من الرضاع فالأم تحرم من الرضاع و هو حكم كلي نظير استصحاب حرمة زوجة الأب بعد وفاة أبيه على تقدير الشك في حرمتها فان استصحاب حرمتها من المسائل الأصولية. بل و هكذا مثل قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية مثل بعض المستحدثة كالقهوة التي يشك في طهارتها فانه أي فرق بين قاعدة الطهارة و اصالة البراءة من حرمة شربها فكما أن البراءة في الشبهات

باب مدينة العلم، ص: 96

الحكمية من مسائل الأصول فهكذا أصالة الطهارة في الشبهات الحكمية فان

كل منهما يستنتج به حكم كلي لموضوع عام.

ان قلت انه قد سبق ان المائز هو الصلاحية لاستنتاج الحكم الجزئي فان قاعدة الطهارة يستنتج بها حكم جزئي.

قلنا ان ذلك لا يصلح مائزا فان القواعد الأصولية كالاستصحاب أو البراءة أيضاً يستنتج بها حكم جزئي كما لو أجريت في الشبهات الموضوعية فهي فيها قابلية الاستنتاج للحكم الجزئي كالقواعد الفقهية بل حتى حجية الخبر قد تقع كبرى لاستنتاج حكم جزئي كأحكام الحجر الأسود و أحكام مكة و المدينة و مقام إبراهيم و لعن يزيد بن معاوية و البراءة منه. فإنها تستنتج أحكامها من أخبار الآحاد الواردة فيها بواسطة حجية خبر الواحد.

ان قلت ان اصل البراءة و الاستصحاب في الشبهات الحكمية من المسائل الأصولية دون ما كان يجري في الشبهات الموضوعية فانه ليس من المسائل الأصولية.

قلنا فلازم ذلك الالتزام في اصل الطهارة كذلك بأن تكون في الشبهات الموضوعية من الفقه و في الشبهات الحكمية من مسائل الأصول مع ان الأصوليين لا يلتزمون بذلك.

ان قلت ان المسألة الأصولية هي ما تقع كبرى لقياس يستنتج به حكم شرعي مجعول و القياس الذي تقع فيه القاعدة الفقهية العامة لا يستنتج منه حكم شرعي مجعول و انما يستنتج منه حكم عقلي و ذلك لأن الحكم الشرعي الفقهي المجعول إنما هو تلك القاعدة العامة و الحكم المستفاد من ضمها إلى صغرى وجدانية ليس بحكم شرعي مجعول فكون الأم تحرم من الرضاع و القهوة حلال شربها في الأمثلة المذكورة ليست بحكم شرعي مجعول للشارع و انما المجعول للشارع هو حل المشكوك و حرمة الرضاع لما يحرم من النسب و أما كون القهوة حلال و الأم الرضاعية حرام فهو مما يحكم به العقل بملاحظة كونه من جزئيات

ذلك الحكم الشرعي الفقهي العام و إلا فنفسه لم يجعله الشارع. و يدلك على ذلك ان هذا الحكم المستنتج يدور مدار صغرى وجدانية تختلف باختلاف الآراء و الوجدانيات و الحكم الشرعي لا يعقل ان يختلف باختلاف الآراء و الوجدان فمن يرى ان القهوة مشكوكة الحكم ضم هذه الصغرى الوجدانية إلى تلك القاعدة الفقهية و استنتج الحكم المذكور و إلا فلا و هكذا قاعدة الضرر يستنتج بها الحكم لمورد خاص بعد رؤية الضرر فيه و هذا يجري في سائر العلوم فقولنا زيد فاعل و كل فاعل مرفوع ينتج زيد مرفوع و هو ليس بحكم نحوي و انما الحكم النحوي هو كل فاعل مرفوع و أما كون زيد مرفوع فهو تابع لصغرى وجدانية و هو كونه فاعلا و هي تختلف باختلاف الآراء و الوجدان و ليس أمره راجعاً للنحوي فهكذا الأحكام الفقهية التي تستنتج بضمها لصغريات وجدانية ليس بحكم شرعي فقهي حقيقة و ان كان المستنتج بها حكماً كلياً و لا يستنتجه إلا الفقيه إلا انه حكم عقلي استنتج من حكم مجعول شرعي فقهي و هذا بخلاف المسألة الأصولية فانها يستنتج بها نفس الحكم الفقهي المجعول للشارع.

قلنا هذا مضافا إلى عدم تماميته في بعض القواعد الفقهية فانها تضم إلى صغرى فقهية لا وجدانية كما في قاعدة الرضاع فانها تضم إلى صغرى ان الأم حرام من النسب كما في المثال المتقدم و هي صغرى ليست بوجدانية و أيضاً يلزم منه خروج الأصول العملية في الشبهات الحكمية فانها تضم إلى صغرى وجدانية مع انها من علم الأصول بلا كلام بل يلزم خروج مسألة التعادل و التراجيح من الأصول لأنه يضم إليه صغرى وجدانية و هي تعارض الخبرين.

باب مدينة العلم،

ص: 97

اللهم إلا ان يقال ان الكبرى تصلح لأن تقع في طريق الاستكشاف في كل باب من أبواب الفقه بخلاف القواعد المذكورة فانها ليست فيها تلك الصلاحية فان قاعدة ما يحرم من الرضاع مختصة بباب النكاح و قاعدة الطهارة بباب الطهارة.

و فيه ان هذا خروج عن الميزان الذي ذكره و يكون الميزان في عد المسألة أصولية هو الوقوع في طريق الاستنباط في سائر أبواب الفقه مضافا إلى عدم تماميته في قاعدة الحرج و الضرر لوقوعهما في طريق الاستنباط في سائر أبواب الفقه مع انها من القواعد الفقهية.

(و يرد عليه رابعا) خروج مباحث الألفاظ المتكفلة لتعين المدلول كمباحث صيغة الأمر و النهي و المفاهيم و مبحث العموم و الخصوص و المطلق و المقيد فانها لا تقع نتيجتها كبرى في قياس الاستنباط للحكم الشرعي لأنها انما تشخص الظاهر عن غيره فهي دائما متكفلة لصغرى دليل الحكم الشرعي و لا تقع كبرى لدليل الاستنباط و لا يصح الالتزام بخروج هذه المباحث عن مسائل علم الأصول كيف و هي من مهماتها و القسم الأول منها و هذا الإيراد يرجع للايراد الثاني.

و ما ذكره المرحوم آغا ضياء في تقريراته من ان مباحث المفاهيم و ما بعدها مما يستكشف بها مقدار الوظيفة العملية و كيفية تعلقها بفعل المكلّف فهي من المسائل الأصولية بخلاف غيرها من علم الرجال و النحو و الصرف فان تلك متمحضة للبحث عن تشخيص موضوع الإمارة من حيث السند أو من حيث المفهوم منها فهو لا يرفع الإشكال عن هذا المائز إذ لا يوجب وقوع نتيجتها كبرى قياس يستكشف به الحكم الشرعي.

مضافا إلى ان بعض مسائل الأصول كمبحث دلالة صيغة افعل و دلالة النهي فانها تشخص موضوع

الإمارة من حيث الظهور مع انها من المسائل الأصولية.

الميزان الثاني لعدّ المسألة من علم الأصول هو ان تكون من المبادئ التصورية أو التصديقية لمسائل الفقه

و توضيح ذلك ان ما يفيد تصور أطراف المسألة فهو مبدأ تصوري و ما يفيد التصديق بالنسبة في المسألة فهو مبدأ تصديقي و نسبة علم الأصول إلى الفقه نسبة المبادئ. فما يفيد تصور الصلاة كمبحث الحقيقة الشرعية يكون مبدأً تصورياً و هكذا ما يفيد تصور (أقيموا) كمبحث دلالة الأمر يكون مبدأً تصورياً و ما يبحث عن حجية الظواهر و حجية الخبر و الاستصحاب مبدأ تصديقي فعلم الأصول عبارة عن مبادئ تصورية لمسائل الفقه بمعونتها تحصل صغريات و مبادئ تصديقية لمسائل الفقه بمعونتها تحصل كبريات ينتج منها المسألة الفقهية و هو يرجع إلى ما ذكروه من ان علم الأصول يتوقف على مسائله الاستنباط توقفاً قريباً لا بعيداً. و إليه يرجع ما ذكره المرحوم احمد الحسيني من ان المسألة الأصولية يقصد منها العلم الكلي المستنبط منه الأحكام.

و المسألة الفقهية يقصد منها العلم فالأولى متقدمة بحسب الرتبة على الثانية و مقدمة لها. و لعل إليه يرجع من ذكر ان المائز هو ان المسألة الأصولية يكون البحث فيها عن الأدلة الشرعية و جزئياتها و كيفياتها و شرائطها و كل ما يتعلق بها من حيث كونه مرتبطاً بالدليل الشرعي و المسألة الفقهية ما يبحث فيها عن الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين تكليفية كانت أو وضعية.

باب مدينة العلم، ص: 98

و يرد عليه بما تنبه هو له من لزوم دخول مسائل علم الرجال و الحديث و علم النحو و بعض مسائل علم الكلام و أجاب عن الإيراد بعدة أجوبة أوجهها ان مسائل الأصول هي المبادئ للفقه بلا واسطة و هذه مبادئ لمسائل علم الأصول فهي مبادئ لمبادئ الفقه.

و لا يخفى ما فيه فان

الكثير من مسائل علمي المعاني و البيان ما هي مبادئ المسائل الفقهية لأنها تعين الظاهر. على ان حجية الخبر يتوقف استفادة الحكم منها على تشكيل صغرى و كبرى جامعة للشرائط فتكون الحجية لمبدإ المسألة الفقهية.

الميزان الثالث لعدّ المسألة من علم الأصول هو ان نتيجة البحث لا تنفع المقلدين

و إنما تنفع المجتهدين أ لا ترى ان البحث في مثل خبر الواحد نتيجته سواء كانت حجية خبر الواحد أو عدمها فانه لا يصح من المجتهد أن يفتي في رسالته بها لأن تطبيقها في الخارج ليس بيد المقلد بل هو من وظيفة المجتهد.

و أما المسألة الفقهية فنتيجة البحث فيها تنفع المقلد و للمجتهد ان يفتي بها و للمقلد ان يعمل بها في الخارج كالبحث في حرمة العصير العنبي فان نتيجة البحث فيها للمجتهد الفتوى بها و للمقلد العمل بها و بعبارة أخرى ان المسألة الأصولية لا تنفع في مقام العمل ما لم يصرف فيها قوة الاجتهاد و يستعمل فيها ملكته فلا تفيد المقلد بخلاف المسألة الفقهية فان المجتهد بعد صرف قوة اجتهاده و اعمال ملكته إذا القاها للمقلد تفيد المقلد و يستطيع العمل بها فمثل حجية خبر الواحد لا يستفيد بها المقلد في مقام العمل لاحتياجه إلى فهم مدلول الخير و البحث عن معارضه و علاج التعارض و نحو ذلك و ليس ذلك إلا وظيفة المجتهد بخلاف مثل حرمة الخمر و وجوب الصلاة فان المقلد يعمل بها كالمجتهد و ان كان المجتهد احتاج في استنتاجها إلى ملكة الاجتهاد إلا انه في مقام العمل على حد سواء.

و الغريب هو جعل المرحوم النائيني على ما في تقريراته هذا المائز للمسألة الأصولية تقريباً آخر للمائز الأول مع وضوح الفرق بينهما فان المائز السابق وقوع المسألة الأصولية جزءاً أخيراً لدليل الحكم الشرعي الكلي الذي

للمجتهد الفتوى به لمقلده و هذا المائز الثالث إنما هو صحة الفتوى بالمسألة و عدم صحتها.

و كيف كان فقد ذكر هذا المائز المرحوم الشيخ عبد الكريم اليزدي" رحمه اللّه" و نسبه بعضهم للمرحوم الشيخ الأنصاري و أورد عليه الشيخ المذكور" رحمه اللّه" و المرحوم آغا ضياء" رحمه اللّه" في تقريراته بأن مثل قاعدة ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده من القواعد الفقهية و من المعلوم عدم تمكن المقلِّد من العمل بها بعد فتوى المجتهد بها بل يحتاج إلى تعيين ما هو

باب مدينة العلم، ص: 99

صغرى لتلك القاعدة و بان مثل قاعدة نفوذ الصلح و الشرط باعتبار كونهما غير مخالفين للكتاب أو السنة أو مخالفين مما ينحصر أمره بنظر المجتهد.

و جوابه ان المراد عدم القدرة ليس من جهة الجهل بالموضوع و إلا لو علم المقلِّد بالعقد الصحيح المضمن عمل بهذه القاعدة فللمجتهد الفتوى بهما كما يفتي بقاعدة التجاوز و الفراغ و اليد و يشخص مواضيعها و يعمل بها المقلِّد (بالكسر). و هذا بخلاف مسألة حجية خبر العدل فانه لو أفتى بها المجتهد و شخَّص خبر العدل لم يجز للمقلد العمل به لأن شرطه الاجتهاد و هو مفقود منه. و بعبارة أخرى المراد عدم القدرة و عدم التمكن من العمل من جهة عدم الاجتهاد لا من جهة الجهل بالموضوع و إلا فلا حاجة للاشكال بالقاعدة المذكورة بل حتى مسألة وجوب الصلاة فانه إذا لم يعرف المقلد الصلاة لا يقدر ان يعمل بها حتى يعين المجتهد له الصلاة و يعرّفه بها.

و الأولى ان يورد على هذا المائز بقواعد النحو و الصرف و البيان و المنطق التي تنفع المجتهد فانها لا يجوز للمجتهد ان يفتي بها للمقلد لكي

يعمل بها في معرفة الحكم الشرعي فهي تنفع المجتهد فالمائز موجود فيها تماما و كمالا.

و يرد عليه أيضاً بالقواعد الفقهية في الشبهات الحكمية فانها معدودة من علم الفقه مع عدم جواز فتوى المجتهد بها لمقلديه و عملهم بها. و ما يتراءى من رجوع المقلد (بالكسر) إلى أصالة الطهارة و اصالة الحل في بعض الموضوعات الكلية فإنما هو من جهة فهمه من المجتهد انحصار النجاسات و المحرمات و ان ما عداها طاهر و حلال و إلا لو لم يفهم ذلك منه لم يجز له الرجوع إلى ذلك.

و أيضاً يرد عليه ان مباحث التقليد يفتي فيها المجتهد و يرجع إليه فيها المقلِّد إلا ان يلتزم انها من مباحث الفقه.

المطلب الثامن: في مطالب علم الفقه الثلاثة و هي مطلب: ما. هل و لم

اشارة

و مما ينبغي ذكره قبل الشروع في العلم بيان مطالبه الثلاثة فانه قد ذكر علماء الفلسفة ان امهات المطالب العلمية الكلية الأصلية التي لا يقوم غيرها مقامها لكل ناظر في استعلام شي ء من الأشياء ثلاثة مطلب (ما) مطلب (هل) مطلب (لِم) و ذلك لأن الطالب لمعرفة الشي ء ما ان يطلب معرفة ماهيته و تصورها و هو مطلب (ما). و أما ان يطلب معرفة وجوده و هو مطلب (هل) و أما ان يطلب علة وجوده و هو مطلب (لم) و قد زاد بعضهم مطلب (أي) و هو ما يميز الماهية عما يشاركها في الوجود كما لو كانت بسيطة أو في الجنس كما لو كانت مركَّبة من جنس و فصل و طلب تميزها عما يشاركها في أمر ذاتي أو في العرض أو طلب لها المميز بالخاصة و قد زاد آخرون مطلب (كيف. و كم. و اين. و متى). و لكن التحقيق انه يستغنى عنها بمطلب هل المركبة كما سيجي ء إن

شاء اللّه و توضيح الحال و تنقيحه.

باب مدينة العلم، ص: 100

مطلب ما

(ان مطلب ما) على ثلاثة أقسام لأن (ما) قد يطلب بها شرح الاسم و بيان مدلول لفظه و تسمى بما اللفظية فيقع في جوابها مفهوم الاسم و معناه و هو قد يكون الموضوع له اللفظ و قد يكون المستعمل فيه فعبروا عن كل مفهوم للفظ و مدلوله بمطلب ما اللفظية و قد يطلب ب (ما) تمييز ماهية مفهوم اللفظ و حقيقة مدلوله و يقع في جوابها أما الحد التام أو الناقص أو الرسم التام أو الناقص و تسمى ما الاسمية و عبّروا عن كل حد تام أو ناقص أو رسم تام أو ناقص، بمطلب (ما) الاسمية أو الماهوية إذا كان ذلك قبل العلم بوجود مدلول اللفظ و أما بعد العلم بوجوده فإذا طلب (بما) تمييز ماهيته فتسمى (ما) الحقيقية و ما يقع في جوابها يسمى مطلب ما الحقيقة و عبّروا عن كل حد و رسم تام أو ناقص للشي ء المفروض الوجود بمطلب (ما) الحقيقية و ذلك لأن الماهية لا تسمى بالحقيقة إلا بعد وجودها. و من هنا ظهر للأوجه ما هو المعروف عندهم ان التعاريف المثبتة في أوائل العلوم المدوّنة للأشياء قبل إثبات وجودها حدود اسمية و بعد وجودها حدود حقيقية. و كيف كان فهذه الأقسام الثلاثة تسمى (ما) بما الشارحة و مطلبها بمطلب (ما) الشارحة. فعلم الفقه المفهوم منه عند إطلاقه و يستعملونه فيه علماء الفقه يكون مطلب ما اللفظية. و تعريفه مع قطع النظر عن وجوده يسمى بمطلب ما الاسمية و تعريفه بعد فرض وجوده و تدوينه يسمى بمطلب ما الحقيقة و الجميع يقال له مطلب ما الشارحة.

مطلب هل

(أن مطلب هل) على قسمين لأن هل قد يطلب بها الجزم بوجود الشي ء في حد

ذاته و تسمى بهل البسيطة لأن المطلوب بها الوجود البسيط و عبّروا عن ثبوت الوجود البسيط للماهية بمطلب هل البسيطة و قد يعبّرون عنه بمفاد (كان) التامة كما يعبّرون عن عدم الشي ء في حد ذاته بمفاد (ليس) التامة و قد يطلب بهل ثبوت وجود شي ء لشي ء آخر كما يقال هل القمر منخسف فيطلب ثبوت وجود الانخساف للقمر و تسمى بهل المركبة و ما يقع في جوابها يسمى بمطلب هل المركبة لأنه هو الذي يطلب بها. و عبّروا عن ثبوت كل صفة لموصوفها و كل عرض لمعروضه بمطلب هل المركبة و قد يعبّرون عنه بمفاد كان الناقصة كما يعبّرون عن عدم شي ء لشي ء كعدم الحركة للجماد بمفاد (ليس الناقصة) فعلم الفقه ثبوت اصل وجوده و تحققه و انه موجود.

يكون مطلب هل البسيطة و لعل إثبات وجود موضوع العلم يكون فيه نحو من الاثبات لوجود العلم فيكون فيه مطلب هل البسيطة و أما ثبوت انه مقدم على غيره من العلوم أو شرفه فهو مطلب هل المركبة و منه إثبات الغاية له.

مطلب لم

(أن مطلب لِم) فهو أيضاً على قسمين لأن (لِم) قد يطلب بها علة ثبوت الوجود للشي ء في الأعيان أو ثبوت صفة له فيها فيقع في جوابها ما هو العلة لذلك و يسمى بالواسطة في الثبوت و قد طلب بها علة التصديق و الاعتقاد بذلك فيقع في جوابها الحد الأوسط و يسمى بالواسطة في الاثبات كقولنا لِم كان العالم حادثا فيقال لكونه ممكنناً و كل ممكن حادث فالعالم حادث فيعبرون عن كل ما كان علة لتحقق الحكم أو علة لمعرفته بمطلب (لِم) و لعل منه طلب العلة الغائية و ان كان لم أر أحد تعرض لذلك لأنها

أيضاً علة لتحقق فعلم الفقه يكون البحث عن المدوّن له و المؤسس له بل البحث عن غايته بحثا عن مطلب (لِم) و بحثا عن الواسطة

باب مدينة العلم، ص: 101

في الثبوت كما ان البحث عن إثبات وجوده في عصر النبي" صلى اللّه عليه و آله" أو الأئمة في رد من أنكر ذلك يكون بحثاً عن مطلب لِم، و بحثا عن الواسطة في الاثبات في ذلك العصر.

مطلب أي و أين و كم و متى

ان مطلب أي و أين و كيف و كم و متى فهي ترجع إلى ما ذكر أما مطلب أي فهو يرجع لمطلب (ما) لأنه يطلب بها التمييز للماهية و أما مطلب (أين و كيف. و كم. و متى) فهي ترجع لمطلب هل المركبة لأنه يطلب بها عوارض الشي ء من الكمية و الكيفية و المتى و الاين و هي ترجع لمطلب هل المركبة و تحقيق ذلك يطلب من شرحنا على منظومة السبزواري" رحمه اللّه".

و ما يقدم من المطالب

ان مطلب ما الذي هو بحسب مفهوم الاسم يتقدم على جميع المطالب لأن من لم يفهم الاسم يستحيل منه طلب الحقيقة الموجودة له فانه لا يحسن ان يسأل عن وجود الشي ء فيقول هل هو موجود أو هل هو موجود بحال كذا أو ان يطلب العلة في انتسابه إلى الغير أو العلة في وجوده في الخارج أو في اتصافه بصفة كذا فان ذلك كله إنما يكون بعد مفهوم الاسم و مطلب (هل البسيطة) تتقدم على مطلب ما الحقيقية لأن الذي يطلب حقيقة أمر فإنما يطلب حقيقة أمر موجود لأن الحقيقة كما تقدم لا تكون إلا لأمر موجود فوجب ان يتقدم علمه بوجوده و ذلك مطلب هل البسيطة و يجوز ان يكون الشي ء موجوداً في ذاته مع الجهل أو الشك بوجوده فيطلب معنى مفهوم الاسم الدال عليه لأن طلب مفهوم الاسم مع الجهل أو الشك في وجوده جائز فإذا أجاب عن مفهوم الاسم كان ذلك الجواب حدا بحسب الاسم فإذا عرف وجوده يصير ذلك بعينه حدا بحسب الحقيقة فعلم ان الجواب الواحد يجوز ان يكون حدا بحسب المفهوم و بحسب الحقيقة و بالنسبة إلى شخصين أو إلى واحد في زمانين.

المطلب التاسع: في العلل الأربعة لعلم الفقه

و مما ينبغي ذكره قبل الشروع في العلم بيان علله الأربعة إذ ان الأمور المركبة الحادثة لا بد لها من علل أربعة العلة المادية و العلة الصورية و العلة الفاعلية و العلة الغائية فعلم الفقه لا بد له من هذه العلل الأربعة.

أما علته المادية فهي عبارة عن موضوعه و مسائله و مبادئه لأنها هي الأجزاء المادية التي تقبل الصور للعلوم. و أما علته الصورية فهي الهيئة الحاصلة من جمع مسائله مترتبة على هذا النحو الخاص مع ذكر

أدلتها و تعاريف موضوعاتها و محمولاتها و متعلقاتها التي بواسطتها صح إطلاق اسم الفقه عليها فان المركَّبات الاعتبارية علتها الصورية هي الهيئة الطارئة على أجزائها بالنحو المختص بها المصحح لإطلاق اسم ذلك المركب عليها فان العلة الصورية كما

باب مدينة العلم، ص: 102

حقق في محله هي ما يكون بها الشي ء هو هو كالناطقية للإنسان و الهيئة المذكورة للمركبات الاعتبارية تكون للمركبات كذلك.

و أما علته الفاعلية فهي المدوّن الأول سيجي ء إن شاء اللّٰه بيانه.

و ما علته الغائية فهي الغرض الذي كان من تدوينه و قد تقدم في مبحث الغاية الكلام فيه.

المطلب العاشر: في الرءوس الثمانية لعلم الفقه

فائدتها

كان القدماء يذكرون في صدر كتبهم ما يسمونه بالرءوس الثمانية لكونها تفيد بصيرة بالعلم عند الشروع فيه و مشعرة بمقاصده على سبيل الإجمال عند الدخول فيه و سموها بالرءوس الثمانية لأن الرأس يطلق على (المقصد ج و الأصل) حقيقة أو مجازاً و هذه الأمور تشعر بأصول العلم و مقاصده و كانوا يذكرونها بعد ان يذكروا تعريفه. و موضوعه. و غايته. و أجزائه الثلاثة لأنها ليست لها من الأهمية بمقدار ما لتلك في الأهمية حيث ان البصيرة في الشروع بالعلم الحاصل من الرءوس الثمانية اقل من البصيرة الحاصلة من تلك بل انه لا يتوقف عليها الشروع كما يتوقف على تلك و كيف كان فقد عدّها القوم ثمانية.

الرأس الأول: بيان الغرض من علم الفقه

اشارة

الرأس الأول من الرءوس الثمانية بيان الغرض الذي دعا المدوِّن لتدوين العلم و من أجله ألف العلم و صنفه و جمع شتات مسائله و هذا قد يكون عين وجه الحاجة للعلم الذي يذكر في مقدمة العلم. و عليه فيستغنى عن ذكره مرة ثانية في الرءوس الثمانية و قد يكون غيره بأن يكون وجه الحاجة لتعلم العلم و الغرض من درسه غير الغرض الذي دون المدوّن له العلم كما يذكر في علم السحر فان الغرض الذي دوّن له المدوّن السحر هو الشعوذة و لكن حاجة المؤمنين له هو دفع كيد السحرة كما أن له منافع كمعرفة خواص بعض الأشياء و فوائدها.

و الحاصل إن ما يذكر في المقدمة هو بيان وجه حاجة الناس للعلم فانه المرغّب لهم في قراءته و دراسته. و الذي يذكر هنا اعني في مبحث الرءوس الثمانية هو الغرض الذي دعا المدوّن لتدوين العلم و هما قد يتحدان كما هو الغالب في العلوم و قد يختلفان كما في

علم الفقه فان المدون الأول له هو الإمام علي" عليه السلام" كان غرضه حفظ الأحكام الشرعية من الضياع و لكن وجه حاجة الناس إليه هو اطاعة اللّه و عدم الخروج عن معاصيه و قد تقدم تحقيق ذلك في المطلب الثالث من مطالب المقدمة.

وجُوب تعلم الفقه كفائياً

و مما يناسب هذا الرأس الأول من الرءوس الثمانية لعلم الفقه التعرض لوجوب تعلم علم الفقه فنقول انه يجب تعلمه بالإجماع إذ لا ينكر أحد وجوبه و إنما النزاع في وجوبه عيناً أو كفايةً أو تعيناً أو تخييراً بينه و بين التقليد و الاحتياط. مضافا للأمر في الآية بالتفقه الظاهر في الوجوب. و للأخبار الدالة على الوجوب كقوله" صلى اللّه عليه و آله" ان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال و التي سيجي ء إن شاء اللّه نقل بعض منها في مبحث فضل علم الفقه.

باب مدينة العلم، ص: 103

و لبقاء التكليف في الفروع فلا بد من معرفتها للخروج من عهدة التكليف أما بالتفقه أو التقليد أو الاحتياط فمن لم يكن مقلدا أو محتاطاً وجب عليه التفقه. و لحاجة الناس إليه في القضاء و الولايات و الوقائع المتجددة. و أما ان كون وجوبه على سبيل التخيير كفائياً فللسيرة على ذلك و لآية التفقه فإنها تقتضي وجوبه على بعض الأفراد دون بعض لأخذ الطائفة فيها و للزوم العسر و الحرج. إن قلت قد اشتهر عند الجميع ان رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" قال طلب العلم فريضة على كل مسلم. و قال" صلى اللّه عليه و آله" أيضاً اطلبوا العلم و لو بالصين. فان الحديثين المذكورين ظاهران في ان ما جاء به الرسول" صلى اللّه عليه و آله" فرض عين العلم به

على كل مسلم.

قلنا هذا لا ينافي كون وجوبه على سبيل الكفاية فان الواجبات الكفائية مفروضة على كل أحد لكنه يسقط وجوبها على الغير بقيام شخص بها.

المراد بالعلم في حديثي طلب العلم

هذا مضافا إلى انهم اختلفوا في المراد بالعلم في الحديثين المذكورين فقال الفقهاء هو علم الفقه إذ به يعرف الحلال من الحرام و الصحيح و الفاسد من المعاملات و قال المتكلمون هو علم الكلام إذ به تعرف العقائد الدينية التي يجب التدين بها كالتوحيد و غيره و قال المفسرون و المحدثون هو علم الكتاب و السنة إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها و قال المتصوفة هو علم التصوف. و الحق انه هو العلم بالعقائد الدينية و هو العلم بالأصول الخمسة من التوحيد و النبوة و الإمامة و العدل و المعاد مع التصديق بما جاء به النبي" صلى اللّه عليه و آله".

الرأس الثاني بيان منفعة علم الفقه

الرأس الثاني من الرءوس الثمانية لعلم الفقه بيان المنفعة في تعلمه فان المتقدمين قد جعلوا الرأس الثاني من الرءوس الثمانية التي تذكر في صدر كل علم هو بيان منفعة العلم و الفوائد التي تترتب على معرفته و هي قد تكون نفس غرض المدوّن للعلم و نفس وجه حاجة الناس لتعلمه و قد تكون غيرهما من الفوائد التي تترتب على دراسته فان كانت غيرهما ذكرت و ان كانت عبارة عن أحدهما أو عنهما مما استغني عن ذكرها بذكرهما.

إن قلت انا لا نتصور ان تكون المنفعة غيرهما.

قلنا المنفعة هي الفائدة. و العمل قد تكون له فوائد غير ما هو مقصود منه فمثلا ان عمل الرياضة الغرض منه تقوية العضلات و لكن قد تترتب عليه منافع كهضم الطعام و شفاء بعض الاسقام. ثمّ انه قد ظهر لك ما في تعلم علم الفقه من الفوائد و المنافع عن التعرض للمطلب الثالث من مطالب المقدمة.

الرأس الثالث: وجه تسمية علم الفقه بعلم الفقه

اشارة

الرأس الثالث من الرءوس الثمانية لعلم الفقه بيان وجه تسميته بهذا الاسم فان المتقدمين قد جعلوا الرأس الثالث من الرءوس الثمانية التي تذكر في صدر كل علم هو بيان وجه تسمية العلم باسمه و يعبر عنه القدماء بالسمة و يريدون بذلك وجه تسمية العلم باسمه و إنما يذكرون ذلك قبل الشروع في العلم لأن في بيان التسمية اشارة إجمالية إلى ما يفصّله العلم

باب مدينة العلم، ص: 104

فيكون للطالب كمال الاستبصار بشأنه. و وجه تسمية هذا العلم بالفقه لأنه من أعلى الأنواع للفهم و كثر استعمال هذه المادة من قبل الرسول" صلى اللّه عليه و آله" و اتباعه في مطلق الأحكام الشرعية الأصلية و الفرعية باعتبار انه أهم ما يجب على الإنسان معرفته ثمّ

كثر استعماله في خصوص العلم بالأحكام الشرعية الفرعية و خصوا العلم بالعقائد باسم الكلام و علم الفقه الأكبر فكانوا إذا أرادوا علم العقائد عبروا عنه بالاسمين المذكورين فأوجب ذلك كثرة استعمال لفظ الفقه في خصوص العلم المذكور حتى صار منقولًا إليه لا يتبادر من إطلاقه إلا العلم المذكور لا عن تقليد.

فيكون لفظ (الفقه) منقولًا من الفقه عند أهل الإسلام المنقول من الفقه عند أهل اللغة نظير ما قيل في (المقدمة) انها منقولة من مقدمة الجيش المنقولة من المقدمة التي هي الوصف. أو لأن الفقهاء في الصدر الأول يرون ان الفقه الذي ندب له الشارع بلفظ الفقه هو العلم المذكور لا العلم بالعقائد المسمى بعلم الكلام و لا العلم بها عن تقليد فأنهم حرموا العلم بالعقائد المسمى بعلم الكلام و قالوا ان العقائد تؤخذ من الكتاب و السنة لا من هذه الأدلة التي ذكرت في علم الكلام.

تحريم علم الكلام و نقل كلمات العلماء فيه

و قد حكى الغزالي و غيره عن الشافعي و مالك و احمد بن حنبل و سفيان و جميع أهل الحديث من أهل السلف تحريم علم الكلام و عن أبي يوسف انه قال لبشر المرسي العلم بالكلام هو الجهل و الجهل بالكلام هو العلم و انه لا تجوز الصلاة خلف المتكلم و ان تكلم بحق. و نقل عن الشافعي انه قال حكمي في أهل الكلام ان يضربوا بالجريد و النعال و يطاف بهم في العشائر و يقال هذا جزاء من ترك الكتاب و السنة و اقبل على كلام أهل البدعة و انه قال إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى فأشهد بأنه من أهل الكلام و لا دين له. و نقل عن جلال الدين السيوطي و ابن

صلاح و النووي انه يحرم علوم الفلسفة كالمنطق لإجماع السلف و ذكر الحافظ سراج الدين القزويني من الحنفية في كتاب ألفه في تحريم علم الكلام: ان الغزالي رجع إلى تحريمه بعد ثنائه عليه في أول المنتقى.

و ذهب السلفي و ابن رشد من المالكية إلى ان المشتغل به لا تقبل روايته.

و حكي عن ابن المعالي الجويني انه قال يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت ان الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به و قال عند موته لقد خضت البحر الخضم و خلّيت أهل الإسلام و علومهم و دخلت في الذين نهوني عنه و الآن إذا لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني و ها أنا ذا أموت على عقيدة أمي أو قال على عقيدة أهل نيسابور و قال الرازي:

نهاية اقدام العقول عقال و ارواحنا في وحشة من جسومنا و لم نستفد من بحثنا طول عمرنا و غاية سعي العالمين ضلال و حاصل دنيانا أذى و وبال سوى ان جمعنا فيه قيل و قالوا و خاطب الخسروشاهي (و كان من اجل تلامذة الفخر الرازي) بعض الفضلاء فقال له الخسروشاهي ما تعتقده فقال الفاضل ما يعتقد المسلمون فقال و أنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به قال نعم فقال (أشكر اللّه على هذه النعمة و لكني و اللّه لا ادري ما اعتقده و اللّه ما ادري ما اعتقده) و بكى حتى اخضلت لحيته.

باب مدينة العلم، ص: 105

و قال ابن عبد البر اجمع أهل الفقه و الآثار في جميع الأمصار على ان أهل الكلام أهل بدع و زيغ لا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء.

و الحاصل ان الفقهاء في الصدر الأول يكون قد

سموا العلم المذكور بالفقه في مقابل المتكلمين لبيان انه هو الفقه الصحيح و ليس علم الكلام بفقه. أو لأنه يورث شدة الفهم و قوة التفقه في الأحكام الشرعية حتى الأصولية و الاعتقادية منها. نظير تسمية علم المنطق بالمنطق لأنه يقوى به على المنطق الباطني و الظاهري و نظير تسمية علم الطب بالحكمة مع انه من أنواعها. ثمّ ان ما تعارف في بعض التصانيف من ذكر المعنى اللغوي قبل الاصطلاحي لأجل الاشارة إلى وجه التسمية.

أسماء العلوم أعلام لها

و مما ينبغي الحاقه بالرأس الثالث من الرءوس الثمانية هو البحث عن أسماء العلوم اعلاماً لها أم لا فقد اختلف العلماء في ان أسماء العلوم اعلامٌ لها على أقوال:

القول الأول انها من قبيل العلم الشخصي لأنه علم لتلك المسائل المخصوصة و قد نسب هذا القول إلى بعض الحنفية.

و قد أورد عليه أولا ان العلم الشخصي ما كان مسماه جزئياً حقيقياً و الجزئي الحقيقي لا يكون كاسباً و لا مكتسباً و لا يعرِّف و لا يعرَّف و لا كمال في معرفة الجزئيات لتغيرها و عدم ثباتها و إنما يبحث عنها في ضمن الكليات التي يحكم فيها على الأشخاص إجمالًا. و لأن الجزئيات إنما تدرك بالآلات الحسّية أما بالحواس الظاهرية أو الباطنية.

و ليس الاحساس مما يؤدي بالنظر إلى احساس آخر بأن يحس بمحسوسات متعددة و ترتب على وجه يؤدي إلى الاحساس بمحسوس آخر بل لا بد لذلك المحسوس الآخر في الحس به من الاحساس ابتداء. و الحال ان الفقه هنا عرف بالتعريف المتقدم فليس هو بأمر شخصي جزئي.

و ثانياً انه ليس القصد فيه تسمية شخص معيّن بالاسم المخصوص لما ترى من تزايد كل علم بتلاحق الأفكار.

و ثالثاً ان لو كان من قبيل العلم

الشخصي لامتنع من الاضافة و دخول اللام مع أن اسامي العلوم تضاف و يدخل عليها اللام كما يقال النحو و الصرف و الفقه و يقال (نحو زيد اكثر من نحو عمرو). و هكذا. و دعوى عدم دخول ال على أصول الفقه و عدم اضافته. مدفوعة بأن ذلك ليس من جهة العلمية بل لمانع و هو كونه مركباً اضافياً و إلا لم يتفاوت حاله مع اسامي العلوم.

و قد أجيب عن الأول هو إنما ذكر إنما يصح في الجزئيات المادية الحسية لا في الجزئيات المجردة المعقولة لأنها لا تدرك بالاحساس بل تدرك بالعقول و ما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأول و أيضاً ان المانع من تعريف الجزئي هو تغيره و عدم ثباته و ما نحن فيه كان ثابتاً مستقراً و الأولى ان يقال ان ما يذكر للعلوم هي من قبيل الخواص المميزة له عما عداه.

و قد أجيب عن الثاني بعدم تزايد المعنى العلمي بتلاحق الأفكار لأن الفقه مثلا موضوع لأمهات المسائل المعيّنة الواقعية و هذه المسائل لا تتزايد أصلا و الزيادة المشاهدة إنما هي في الفروع و الملحقات لا في الأصول و الامهات و مثل هذه الزيادة لا تضر بالاعلام الشخصية و الا لم يوجد علم شخصي أصلا إذ ما من علم شخصي إلا يزيد أو ينقص بعد العلمية. أ لا ترى ان الطفل في أول تولده كان جسمه اصغر و بعد تسميته يكبر و يزداد آناً فآنا حتى يبلغ

باب مدينة العلم، ص: 106

إلى ما يبلغ من عظم الجثة و نبات اللحية و غير ذلك و مع ذلك يصح إطلاق التسمية عليه حقيقة و القول بأنه اسم للنفس الناطقة يكذبه الوجدان من جهة

كون المسمى جسماً لا من المجردات فان أرباب التسمية العوام و هم لم يدركوا النفس الناطقة و إنما يشاهدون الجسم فكما ان أمثال هذه الزيادة لا تضر في الأعلام الشخصية فكذا ما نحن فيه.

و قد أجيب عن الثالث هو ان الاضافة بعد تسليم صحة استعمالها نمنع كونها بالمعنى العلمي لأن لفظ النحو مثلا باعتبار معناه العلمي اسم لجميع مسائل النحو أو التصديق به أو ملكة التصديق به على خلاف في ذلك فلا معنى لأكثرية جميع مسائل نحو زيد من جميع مسائل عمرو و هكذا بل معناه حينئذ ان ادراك زيد لمسائل النحو اكثر من ادراك عمرو لها. و عليه فأما ان يكون الكلام على الحذف و التقدير أو اخرج العلم عن علميته نظير قولهم علا زيدنا يوم اللقا رأس زيدكم فان الاعلام قد تنكر فتستعمل في المسمى كما في تثنيتها و جمعها و أسماء العلوم قد تنكر فتستعمل في بعض المسائل. على ان لا نسلّم صحة الاستعمال المذكور فلا يقال زيد اكثر نحواً من بكر و إنما يقال اكثر علما بالنحو من بكر و يكون النحو باقٍ على علميته و أما دخول اللام فالممتنع هو دخول لام التعريف عليه لا مطلقاً فإنها تدخل للمح الأصل كما في قولنا (الصادق) علماً لشخص و للتحلية كالحسن و الحسين و اللازم في اسامي العلوم أيضاً كذلك لأن جميعها منقولات.

القول الثاني انه من قبيل العلم الجنسي لأن القصد فيه إلى تسمية الطبيعة من حيث هي. و هذا معنى العلم الجنسي كيف لا تكون كذلك و الحال ان العلوم بتلاحق الأفكار و الازمان تتزايد في كل وقت و زمان.

و لكن يرد عليه الإيراد الأخير من الإيرادات الواردة على العلم الشخصي

لأن العلم الجنسي يشبهه في الأحكام اللفظية فيمتنع من الاضافة و من دخول (ال) فلا يقال اسامتكم كما لا يقال زيدكم و لا الاسامة كما لا يقال (الزيد) مع ان اسامي العلوم تضاف و تدخل على اللام. و الجواب عن هذا الجواب هو الجواب عن ذلك. القول الثالث انها من قبيل اسم الجنس و الظاهر ان هذا هو مراد السيد علي القزويني" رحمه اللّه" بقوله و الظاهر ان المراد بالعلمية هنا ما في كلام بعض النحاة الرفع علم الفاعلية و النصب على المفعولية أي علامة كون الشي ء فاعلًا أو مفعولًا. و لا يخفى بُعد هذا بعد صحة كونها من قبيل العلم الشخصي أو الجنسي.

أسماء الكتب أعلام شخصية

و مما يلحق بذلك بيان ان أسماء الكتب اعلامٌ شخصية أو جنسية فقد ذهب بعضهم إلى ان أسماء الكتب أيضاً من قبيل العلم الجنسي و ارتضاه بعض أهل التحقيق من النحاة حيث قال ان أسماء الكتب ليست من الأعلام الشخصية و إلا كان اطلاقها على النسخ المتعددة لكتاب واحد مجازاً بل من الأعلام الجنسية الموضوعة للاشارة إلى الحقائق الكلية و قيل انها من قبيل اسم الجنس و التحقيق انها من قبيل الأعلام الشخصية لأنها موضوعة للمعاني الذهنية التي تكشف عن الألفاظ و النقوش الثابتة في الكتاب فالمصنف للكتاب تصور المعاني التي تكشف عنها نقوش الكتاب و ألفاظه ثمّ وضع اسم الكتاب لهذه المعاني الذهنية المعلومة

باب مدينة العلم، ص: 107

المشخصة. فمجموع هذه المعاني من حيث هو واحد شخصي لا تعدد له أصلًا حتى يرد ما ذكره البعض و ما ترى من التعدد حيث ان بعضه بخط زيد و بعضه بخط عمر و هكذا فهو بمنزلة الألبسة المتعددة لشخص واحد فأفهم.

الرأس الرابع: في مدوّن علم الفقه و واضعه

اشارة

الرأس الرابع من الرءوس الثمانية لعلم الفقه بيان المدوّن له فان المتقدمين قد جعلوا الرأس الرابع من الرءوس الثمانية التي تذكر في صدر كل علم هو بيان المدوّن له ليسكن في قلب المتعلم فان طالب العلم إذا عرف ان مدونه من رجالات الفكر أدرك هذا العلم لأن الفطرة البشرية تقدر المقال بمراتب الرجال فالمتعلم إذا عرف إن واضع العلم و مدوّنه من العباقرة أدرك جلالة قدر ذلك العلم و اشتاقت نفسه لطلبه كما هو المشاهد في الكتب و الصحف و المجلات فانه إذا رأى ان مؤلف الكتاب أو كاتب المقال من فطاحل العلم اشتاقت النفس لمطالعة ذلك الكتاب و ذلك المقال و بهذا تعرف

وجه ذكر اسم مؤلف الكتاب أو المقال في أوائل الكتب و المقالات.

مسيس الحاجة لتدوين علم الفقه

ثمّ انه لا ريب في ان تدوين علم الفقه تقتضيه الحاجة الملحة لشدة احتياج المسلمين إليه في أمور دينهم و دنياهم لأن مسائله هي دستور حياتهم العملية و الفقه هو الذي يبيّنها و يشرحها و لما كان كتاب اللّه المجيد لا يستطيع المسلمون فهم أحكامهم الشرعية بأجمعها منه لما فيه من مجملات تحتاج إلى تفصيل و عمومات لا بد لها من تخصيص و مطلقات فيها تقييد كان المسلمون في أمس الحاجة لتدوين تلك القوانين الشرعية و المسائل الفقهية فدوّنوا تلك الموسوعات الفقهية المهمة و ألفوا فيه الكتب القيمة التي لولاها لانسدّ علينا معرفة الأحكام الشرعية و تعطلت الشرعية الإسلامية.

منع ولاة الأمور في الدور الأول من تدوين الفقه

و لكن كانت عوامل مهمة في عدم توجه الصحابة لتدوين الفقه في صدر الإسلام كما توجهوا لجمع القرآن.

و اهمها منع ولاة الأمور عن كتابة الأحاديث لأسباب ليس هنا محل ذكرها فقد نقل صاحب تذكرة الحفاظ عن أبي بكر انه كتب جملة من الأحاديث ثمّ حرقها. و روى الحافظ عبد الرزاق الصنعاني ان عمر بن الخطاب قد منع من كتابة السنن و منع من إتيان الدواة و القلم ليكتب النبي" صلى اللّه عليه و آله" ما ينفعهم من الأحكام في مرضه.

إلا انه لا يكاد ينكر ان علم الفقه اعني معرفة المسائل عن دليلها التفصيلي موجودٌ في صدور أصحاب النبي" صلى اللّه عليه و آله" في عصره و زمان حياته لا في سطورهم فقد كانوا يعلمون بالحكم الشرعي و المسألة الفقهية عن دليلها التفصيلي من الكتاب أو من سنة النبي" صلى اللّه عليه و آله" أو ممن يعتمد على روايته عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" أو عن حكم عقله و اجتهاده عند عدم التمكن من الظفر

بالنص كما هو المروي عن كتاب الملل و النحل للشهرستاني من انه قد استفاض الخبر عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" انه لما بعث معاذاً إلى اليمن قال" صلى اللّه عليه و آله" يا معاذ بم تحكم قال بكتاب اللّه قال" صلى اللّه عليه و آله" فان لم تجد قال بسنة رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" قال فان لم تجد قال اجتهد رأيي قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" لما

باب مدينة العلم، ص: 108

يرضاه. و في مستطرفات المسائل من نوادر البزنطي المصحح بخط جدي الهادي" رحمه اللّه" انه ذكر عبد اللّه بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر" عليه السلام" قال أتى عمار بن ياسر رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" فقال يا رسول اللّه اجنبت الليلة و لم يكن معي ماء قال" صلى اللّه عليه و آله" فكيف صنعت قال طرحت ثيابي و قمت على الصعيد فتمعكت فيه فقال" صلى اللّه عليه و آله" هكذا يصنع الحمار إنما قال اللّه عز و جل فتيمموا صعيداً طيبا فضرب بيديه على الأرض ثمّ ضرب احداهما على الأخرى ثمّ مسح جبينه ثمّ مسح كفيه كل واحدة على الأخرى فمسح باليسرى على اليمنى و اليمنى على اليسرى. و كيف كان فلا إشكال و لا ريب في ان مسائل علم الفقه في صدر الإسلام كانت كسائر العلوم من النحو و الصرف و المعاني و البيان موجودة في الصدور إلا ان الكلام في أول من قام بتدوينها في السطور و تقسيمها إلى العبادات و المعاملات و تبويبها إلى الطهارة و الصلاة و الزكاة و غيرها من العبادات

و إلى البيع و الاجارة و النكاح و غيرها من المعاملات و ذكر الدليل عليها. كما لا ريب في تدوين المصدر الأول لعلم الفقه و هو القرآن الكريم و حرص المسلمين على حفظه و عدم مخالفته و إليك بسط المقام و توضيحه و تحقيقه.

المراد بالتدوين و المدوّن الأول للفقه

و قبل الخوض في معرفة المدوّن للفقه لا بد لنا من البحث في المراد من تدوين العلم و إلا فمسائل العلم قد تكون موجودة بوجود موضوعاتها قبل تدوينه فمثلًا النحو مسائله كانت موجودة في الجاهلية عند العرب فإذا وجد الفاعل رفعوه و إذا وجد المفعول نصبوه و لكن لم يكن مدوّناً تدويناً بالمعنى المقصود لأرباب العلوم و الفنون من هذه الكلمة فإذن لا بد لنا قبل البحث في تدوين الفقه ان نفهم المعنى المراد لأرباب العلوم من هذه الكلمة إذا اطلقوها في كتبهم. و لعل ما وقع من الخلط و الخبط في بحث الباحثين عن تدوين علم الفقه هو عدم تشخيصهم لمعنى تدوين العلم و الفن.

فنقول ان معنى تدوين العلم هو تحرير مسائله كتابة أو بياناً مع ذكر مبادئها التصورية و التصديقية و ضم بعضها إلى البعض الذي يناسبها و يشترك معها في البحث عن مطلب واحد و يسمى ذلك بالباب أو المطلب أو نحو ذلك. و عليه فالفقه لما كان هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية كان تدوينه بالمعنى الصحيح هو جمع مسائله بياناً أو كتابة على نحو تجعل كل مسألة و ما يتبعها في محلها و مرتبتها و بابها و بيان موضوعاتها النظرية تصوراً و محمولاتها النظرية تصورا مع ذكر الأدلة للنظري من تلك المسائل للتصديق بها. فالمدوّن هو الجامع لتلك المسائل كتابة أو بيانا بذلك النحو. و

التدوين هو نفس هذا الجمع لتلك المسائل بذلك النحو.

و عليه فلا وجه لجعل القرآن الكريم من كتب الفقه و إنما هو مصدر من مصادره و هكذا لا وجه لجعل كتب الحديث من كتب الفقه و إنما هي مصدر من مصادره إلا إذا كان مؤلفها قد رتبها على أبواب الفقه جاعلا لكل مسألة من مسائل كل باب الحديث الذي يثبتها على نحو يكون ذكر الأحاديث منه لبيان الدليل على المسألة التي جعلها عنواناً لنقله فان مثل ذلك يكون تدويناً لعلم الفقه لذكره للمسألة مع الدليل عليها كما يكون تدويناً للحديث لنقله له في

باب مدينة العلم، ص: 109

كل مسألة من المسائل. و عليه فمثل هذا التأليف يجمع بين الصفتين الفقه و الحديث كالكافي للشيخ الكليني و صحيح البخاري و صحيح مسلم و الوسائل و مستدركها فانه من الممكن ان يقال ان مثل تلك الكتب تجمع بين الصفتين علم الحديث و علم الفقه أما مثل كتب المسانيد كمسند حنبل أو الصحائف غير المرتبة أو الأصول غير المبوبة من كتب الأخبار فهي ليست من كتب الفقه و إنما هي مصادر لعلم الفقه كالقران الكريم. و لا لجعل كتب الفتاوي المجردة عن الدليل عليها كالرسائل العملية من كتب الفقه و إنما هي كتب أحكام الفقه أو قواعده نعم قد تسمى بكتب الفقه على ضرب من المجاز و الحذف و عليه فيكون المدون الأول لهذا العلم هو المحرر الأول لمسائل علم الفقه و قواعده الكلية مع اقامة الدليل عليها و التعرض لمداركها و مبانيها و بيان موضوعاتها و محمولاتها و ما يتعلق بها.

اقدم مؤلف وصل إلينا في الفقه

و قد ذكر الفقهاء ان اقدم مؤلف وصل إلينا في الفقه الإسلامي هو مجموع الإمام زيد

بن علي بن الحسين الذي استشهد عام 121 ه أيام خلافة هشام بن عبد الملك و الذي تلمذ عليه أبو حنيفة و رواه عنه عمر بن خالد الواسطي يشتمل على اغلب أبواب الفقه إلا ما قل و طبع بمدينة (ميلانو) من أعمال ايطاليا 1919 م و يكون اقدم من كتاب الموطأ اكثر من نصف قرن إلا ان الظاهر ان الكتاب يلحق بكتب الحديث كالموطإ و لو سلمنا انه يجمع بين الصفتين الحديث و الفقه إلا ان ذلك لا يثبت انه هو أول مدون في علم الفقه إلا إذا لم يثبت تأليف في هذا العلم قبله.

و التحقيق في ان النصوص التاريخية الواضحة الجلية تثبت ان أول من دوّن علم الفقه هو الإمام علي بن أبي طالب" عليه السلام" فقد ورد بعدة طرق ان له كتاباً خطه بيده من املاء رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و فيه جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى ان فيه أرش الخدش، فعن كتاب سليم بن قيس إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال لطلحة كل حلال و حرام أو حكم أو حد تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و خط بيدي حتى ارش الخدش.

حديث الجامعة للأحكام الشرعية عند أهل البيت" عليهم السلام"

و في الكافي في كتاب الحجة في باب ذكر الصحيفة عند عدة من الأصحاب عن احمد بن محمد بسنده عن أبي بصير فيما رواه عن أبي عبد اللّه انه قال" عليه السلام" ان عندنا الجامعة و ما يدريهم ما الجامعة قال قلت جعلت فداك و ما الجامعة قال صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللّه و املائه من فَلْق فيه (أي

من شفتيه) و خط علي بيمينه فيها كل حلال و حرام و كل شي ء يحتاج الناس حتى أرش الخدش (أي دية الجرح) الخبر.

و في بصائر الدرجات مسنداً إلى أبي عبد اللّه" عليه السلام" ما يكاد يبلغ حد التواتر مما يدل ان عندهم" عليهم السلام" الجامعة و هي الصحيفة و طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم (أي جلد المدبوغ) مثل فخد البعير الضخم بخط علي و املاء رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" فيها من كل حلال و حرام حتى أرش الخدش.

اختلاف الإمام الباقر" عليه السلام" مع الحكم

و في رجال النجاشي بسنده عن عذافر الصيرفي قال كنت مع الحكم ابن عتيبة عند أبي جعفر" عليه السلام" فجعل يسأله و كان أبو جعفر" عليه السلام" له مكرما فاختلفا في شي ء فقال أبو جعفر" عليه السلام" لابنه يا

باب مدينة العلم، ص: 110

بني قم فقام فاخرج كتاباً مدروجاً عظيماً ففتحه و جعل ينظر حتى اخرج المسألة فقال أبو جعفر" عليه السلام" هذا خط علي و املاء رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله".

و عن الكافي بسنده عن أبي عبيدة قال سأل أبو عبد اللّه" عليه السلام" بعض أصحابنا عن الجفر فقال هو جلد ثور مملوء علما قال له فالجامعة قال تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا و عرض الأديم (أي الجلد المدبوغ) مثل فخذ الفالج (أي اخير الجمل الضخم ذي السنامين) فيها كل ما يحتاج الناس إليه و ليس من قضية إلا و هي فيها حتى أرش الخدش قال فمصحف فاطمة فسكت طويلا ثمّ قال أنكم لتبحثون عما تريدون و عما لا تريدون ان فاطمة مكثت بعد رسول اللّه خمسة و سبعين يوما و كان دخلها حزن شديد على ابيها و كان

جبريل" عليه السلام" يأتيها فيحسن عزاءها على ابيها و يطيب نفسها و يخبرها عن أبيها و مكانه و يخبرها بما يكون بعدها في ذرّيتها و كان علي" عليه السلام" يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة

و عن الكافي في كتاب فضل العلم في باب البدع فيما رواه أبان عن أبي شيبة قال سمعت أبا عبد اللّه يقول: خل ابن شبرمة عندنا الجامعة املاء رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و خط علي" عليه السلام" بيده ان الجامعة لم تدع لأحد كلاماً فيها علم الحلال و الحرام.

و عن كتاب أدب الاملاء و الاستملاء طبع ليدن ان أبا سعيد السمعاني روى بسنده عن أم سلمة" رض" زوج النبي قالت دعا رسول اللّه بأديم و علي بن أبي طالب" عليه السلام" عنده فلم يزل رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" يملي و علي" عليه السلام" يكتب حتى ملأ بطن الأديم و ظهره و اكراعه و قد رأى هذه الصحيفة عبد الملك و عذافر الصيرفي و غيرهم ممن يجده المتتبع في كتب الأخبار. و مما يؤيده ما ذكرناه من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" عليه السلام" هو أول من دون علم الفقه. ما ذكره النجاشي من ان علي بن أبي رافع كان كاتباً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب و جمع كتاباً في فنون الفقه و الوضوء و الصلاة و سائر الأبواب و ان تفقهه كان على أمير المؤمنين و جمعه في أيامه و كانوا يعظمون هذا الكتاب و قد نقل ان أصحابه" عليه السلام" كسلمان الفارسي و أبي ذر الغفاري و سليم بن قيس انه قد ألف كل منهم كتاباً في الأحكام. و مما يزيدك بصيرة

في هذا الموضوع هو عهده إلى جدنا مالك الأشتر و وصيته لابنه محمد بن الحنفية و لشبله الحسن" عليه السلام"، و مما يؤكد ذلك و يدل عليه تصريح علماء التاريخ و موثقيهم.

كلام ابن أبي الحديد في حق أمير المؤمنين" عليه السلام"

فقد ذكر العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج (ج 1 ص 6 طبع القاهرة) علم الفقه اصله و أساسه هو علي بن أبي طالب" عليه السلام" و كل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه و مستفيد من فقهه. و يؤيد ذلك ما عن كتاب الألف باء ج 1 ص 222 إن معاوية لما بلغه قتل الإمام علي" عليه السلام" قال: لقد ذهب الفقه و العلم بموت ابن أبي طالب.

فساد ما ذهب إليه السيوطي و الغزالي و ابن عبد البر و المستشرقون و غيرهم

و بهذا ظهر لك فساد ما ذهب إليه السيوطي من ان أول من دون الفقه الإمام أبو حنيفة و في مناقب الشافعي الرّد عليه. بأنه ان أراد السيوطي بالتدوين التصنيف فلم يثبت لأبي حنيفة شي ء و إنما أصحابه الذين صنفوا. و ان أراد التفريع فقد سبقه الصحابة و التابعون.

باب مدينة العلم، ص: 111

كما ظهر لك فساد ما في أحياء العلوم من ان الكتب و التصانيف محدثة لم يكن شي ء منها في زمن الصحابة و التابعين لهم و إنما حدثت بعد سنة 120 ه بعد الهجرة و بعد وفاة جميع الصحابة و جلّ التابعين. كما ظهر أيضاً فساد ما ذكره ابن عبد البر في جامعه عن عبد العزيز بن محمد المتوفي سنة 186 ه انه قال أول من دوّن العلم و كتبه ابن شهاب ثمّ نقل عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال كنا نكتب الحلال

و الحرام و كان ابن شهاب يكتب كلما سمع فلما احتيج إليه علمت انه اعلم الناس. و كما ظهر لك أيضاً فساد ما ذهب إليه المستشرقون من ان الأحاديث قد دوّنت في رأس القرن الثاني الهجري. و كما ظهر فساد ما أصر عليه بعض المتأخرين و ذكره ابن حجر العسقلاني من ان التدوين كان في عهد عمر بن عبد العزيز كما ظهر فساد ما عن الغزالي ان أول كتاب صنف في الإسلام هو كتاب ابن جريح في الآثار عن مجاهد و عطاء و بعده كتاب معتمر بن راشد الصنعاني باليمن و بعده موطأ مالك و ما عن فتح الباري ان أول من جمع الحديث الربيع بن صبيح و كان في آخر عصر التابعين.

دفع شبهة تدوين الصحائف

و أما ما ذكره البعض من ان عبد اللّه بن عمر كانت له صحيفة قد جمع فيها الأحاديث عن رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و ان لسعد بن عبادة المتوفي سنة 15 ه صحيفة جمع فيها طائفة من أحاديث رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و سننه و ان لجابر بن عبد اللّه الأنصاري المتوفي سنة 78 ه صحيفة فيها مناسك الحج. و لعبد اللّه بن عباس المتوفي سنة 69 ه كتب كثيرة فيها الكثير من سنن رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و سيرته. فأنا لو سلمنا صحة ذلك فهو لا يدل على تدوين الأحكام الشرعية بالمعنى الذي يقصد بكلمة التدوين فيما نحن فيه إذ لعل ما فيها أحاديث لا تخص الأحكام الشرعية بل قد قيل ذلك في الصحيفة المنسوبة لعبد اللّه بن عمر بن العاص. فقد ذكر بعضهم انها في الأدعية و الصلوات و ليس فيها

شي ء من الفقه مع ان عبد اللّه المذكور لم يسلم هو و أبوه إلا قبل وفاة النبي" صلى اللّه عليه و آله" بسنتين و كان سنه آنذاك خمس عشرة سنة و ليس له كثير صلة بالنبي" صلى اللّه عليه و آله".

و أما باقي الصحائف فقد ذكر القوم انها غير مرتبة على أبواب الفقه و إنما اشتملت على موضوعات خاصة. و عليه فيكون الذي دلت عليه الأحاديث و التاريخ صريحاً هو كون الإمام علي" عليه السلام" هو المدوّن الأول لعلم الفقه و ان صحيفته هي الأولى في هذا العلم.

الرأس الخامس: في بيان ان علم الفقه من أي العلوم هو و تقسيم العلوم و فيه فصول

في بيان الرأس الخامس

اشارة

الرأس الخامس من الرءوس الثمانية لعلم الفقه بيان انه من أي علم هو فان المتقدمين قد جعلوا الرأس الخامس من الرءوس الثمانية التي تذكر في صدر كل علم هو بيان ان ذلك العلم من أي جنس من أجناس العلوم ليطلب ما يليق به و ليتجنب في طلبه عمّا لا يليق به و ليعرف هل ان في نفسه استعداد لتلقي مسائله أو عدم قابليتها ذلك. و قبل الخوض في بيان ان علم الفقه من أي العلوم لا بد لنا من الاشارة الإجمالية إليها.

باب مدينة العلم، ص: 112

شرح العلوم العالمية الكونية

و توضيح ذلك ان العلوم تنقسم إلى علوم حِكَمية و غير حِكمِية و قد سمى العامري القسم الثاني بالعلوم الملّية حيث قسم العلوم إلى مِلِّية و حكمية و سماه الخوارزمي بالشرعية حيث قسم العلوم إلى شرعية و فلسفية.

أساس هذا التقسيم

و أساس هذا التقسيم الوحي و العقل فان أساس العلوم الشرعية هو الوحي و أساس العلوم الحكمية هو العقل.

العلوم الحكمية

و العلوم الحكمية على ما هو المشهور بينهم هي العلوم التي تبحث عن أحوال الموجودات على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية فان كان البحث فيها عن الأعيان التي كان وجودها تحت قدرتنا و اختيارنا بأن كان المبحوث فيها هو الأفعال و الأعمال التي هي مقدورة لنا فهي:

الحكمة العملية و ان كان البحث فيها عن الأعيان التي ليست تحت قدرتنا و اختيارنا كالسماء و العناصر و النفس و الآلة و العقول فهي:

الحكمة النظرية كالبحث عن ان الجسم متحيز و السماء كروية و النفس باقية.

وجه التسمية بالنظرية

و إنما سميت بالنظرية لأن الغرض منها العلم التصوري و التصديقي الحاصل بالنظر فغايتها نفس المعرفة لحصول الدرجة الكبرى في المعارف. لا يقال ان الغاية و ذا الغاية لا يتحدان. لأنا نقول ان ذا الغاية هو التحصيل و الغاية نفس المعرفة.

لا يقال هذا ينافي ما اشتهر من ان غاية الحكمة الفوز بالسعادة و الرقي أعلى درجات الكمال.

لانا نقول ذلك غاية الغاية و فائدة الغاية على إنه يجوز أن يكون للشي ء عدة غايات.

توجيه كلام صدر الدين الشيرازي

لا يقال انه وقع في كلام العلامة صدر الدين الشيرازي من ان غايتها استكمال القوة النظرية مع ان المرتب عليها هو الكمال لا الاستكمال الذي هو طلب الكمال.

لأنا نقول إنما عبر بالاستكمال تنبيها على ان الكمال الحاصل بغير الطلب لا يسمى حكمة. و الحاصل انه ان كان البحث فيها عن الأعيان الموجودة من نوع الأفعال و الأعمال سميت بالحكمة العملية و إلا فتسمى بالحكمة النظرية تسمية للنوع بوصف جنسه.

تقسيم العلوم الحكمية و العلوم النظرية

و كل منهما على ثلاثة أقسام أما العملية فان كان البحث فيها عن الأعمال المتعلقة بمصالح الشخص المنفرد ليتحلى بالفضائل و يتخلى عن الرذائل و ينظم معاشه و يصلح معاده فتسمى:

بعلم الأخلاق و علم القلب و بعلم تهذيب الأخلاق و بالحكمة الخُلقية.

الحكمة الخُلقية

و ان كان البحث فيها عن الأعمال المتعلقة بمصالح الجماعة المشتركة في المنزل كالوالد و المولود و الزوج و الزوجة و المالك و المملوك فتسمى بعلم تدبير المنزل.

باب مدينة العلم، ص: 113

و ان كان البحث فيها عن الأعمال المتعلقة بمصالح الجماعة المشتركة في المدينة التي فيها تدبير المعاش و انتظام الاجتماع و ادارة الشئون العامة فتسمى بعلم السياسة.

و بعضهم سمى ما يخص تدبير الملك و السلطة الحاكمة بعلم السياسة. و ما يخص النبوات و الشرائع بعلم النواميس.

علم النواميس

و جعل أقسام الحكمة العملية أربعة:

تقسيم العلوم النظرية

و أما النظرية فهي على ثلاثة أقسام:

الأول ما كان البحث فيها عن عما لا يفتقر في الوجود الخارجي و التعقل الذهني إلى المادة فيبحث فيها عن الباري عز اسمه و صفاته و المجردات المتعالية عن المادة كالعقول و النفوس و يتبع ذلك الكلام في النبوة و الإمامة و المعاد و عن الأمور العامة كالوجود و العدم و الحدوث و القدم و العلة و المعلول و الوحدة و الكثرة و نحو ذلك. فتسمى بالعلم الأعلى.

لعلو شأنها و شرف موضوعها و غايتها و بالعلم الإلهي و سماها الشيخ في الفصل الأول من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء بالفلسفة الأولى.

و سماها الشيخ الميبدي بالعلم الكلي.

العلم الكلي

و تسمى بما بعد الطبيعة و قد تسمى بما قبل الطبيعة. و بعضهم جعل هذا القسم على قسمين فجعل البحث عن ما لا يفتقر إلى المادة إن كان بحثا عما لا يقارنها أصلا كالعقول سماه بالعلم الإلهي:

بالمعنى الأخص و باثولوجيا أي معرفة الربوبية و بفن الربوبيات.

و ان كان بحثا عما يقارنها لا على وجه الافتقار كالوحدة و الكثرة و سائر الأمور العامة سماه بالعلم الكلي و الفلسفة الأولى.

العلم الكلي و الفلسفة الأولى

الثاني ما كان البحث فيها عما يفتقر إلى المادة في الوجود الخارجي دون العقلي كالكرة فإنها إذا تعقلت لا يتوقف تعقلها على المادة لكنها تفتقر في وجودها في الخارج إلى المادة فتسمى بالعلم الأوسط.

لكون المبحوث فيه برزخا بين المجردات و الماديات و وسطاً بين العلم الإلهي و بين العلم الطبيعي فان لموضوعها مناسبة بإلهي من جهة التجرد عن المادة في الذهن و بالطبيعي من جهة افتقاره للمادة في الخارج و تسمى أيضاً بالعلم الرياضي.

لأنه ترتاض فيه النفس من جهة انتقالها عن الماديات إلى ما هو المجرد عنها. و يسمى أيضاً بالعلم التعليمي.

لأنه كان من دأبهم تعليم صبيانهم بادئ ذي بدء هذا العلم و لأن للخيال دخلًا عظيماً في هذا العلم و الخيال غالب على الصبيان و يسمى بسمع الكيان و الكيان هو الطبيعة باعتبار ان أول ما تسمعه طبيعة الإنسان من العلوم.

و هو ان كان البحث فيه عن المقادير فهو الهندسة. و يسمى (جيومطريا).

باب مدينة العلم، ص: 114

و ان كان عن الأعداد فهو الحساب و يسمى (ارثماطيقا).

و ان كان عن أوضاع الأجرام العلوية. فهو الهيئة و يسمى (استرنوميا).

و ان كان عن النسب التأليفية فهو الموسيقى و يسمى بعلم الانسجام و ب (هرمونيقا).

قال الشيخ ابن سينا ان

الموسيقى يشتمل على بحثين أحدهما البحث عن أحوال النغم انفسها من حيث التألف و التنافر و يسمى بعلم التأليف.

و ثانيهما البحث عن أحوال الأزمنة المتخللة بين النغمات و الفقرات.

علم الايقاع

أي ازمنة السكنات الواقعة فيها و يسمى بعلم الايقاع.

العلوم الطبيعية

اشارة

الثالث ما كان البحث فيها عما يفتقر إلى المادة في الوجود الخارجي و العقلي كالانسان و الشجر و الحجر و غيرها من الأمور الطبيعية فتسمى بالعلم الأدنى لكون موضوعها اقرب إلينا بالنظر إلى موضوع الإلهي و تسمى أيضاً بالعلم الأسفل و تسمى أيضاً بالعلم الطبيعي لأنه يبحث فيه عن أحوال الجسم الطبيعي.

تقسيم العلوم الطبيعية إلى ثلاثة أقسام

و العلوم الطبيعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام لأن البحث فيها أما عن الأحوال العامة للأجسام كالتشكل و التحيّز و غيرهما أو عن الأحوال المختصة بالأجرام العلوية أو عن الأحوال المختصة بالأجرام السفلية.

علم السماع الطبيعي

فالاول يسمى بالسماع الطبيعي لأنه أول ما يسمع في العلم الطبيعي و الثاني يسمى بالفلكيات و الثالث يسمى بالعنصريات ثمّ انه قد يقسم البحث في العلوم الطبيعية إلى سبعة أقسام.

تقسيم البحث عن العلوم الطبيعية إلى سبعة أقسام

باعتبار إن البحث فيها إن كان عن البسائط العلوية و السفلية فهو علم السماء و العالم.

و ان كان البحث فيها عن الأركان و العناصر و تعاور الصور على المادة المشتركة.

فعلم الكون و الفساد «1» و ان كان البحث فيها عن الكائنات الجوية كالرعد و البرق و المطر و الشهب و النيازك و بعض الأرضيات كالزلزلة و الخسف تسمى بعلم الآثار العلوية.

و ان كان البحث فيها عن المركَّبات التامة و كيفية تركيبها و ما يتعلق بذلك فتسمى بعلم المعادن و علم النبات و علم الحيوان و علم النفس فهذه أصول الحكمة الطبيعية.

فروع الحكمة الطبيعية

و جعلوا فروع العلوم الطبيعية سبعة (علم الطب) و الغرض منه معرفة بدن الإنسان من حيث الصحة و الاعلال.

______________________________

(1) الكون هو حصول الشي ء و فساده هو زواله و إليه يرجع تفسير الكون بحصول صورة الشي ء في المادة. و الفساد هو زوال صورته عنها

باب مدينة العلم، ص: 115

علم الفراسة

و (علم الفراسة) و الغرض منه الاستدلال من الخلق على الأخلاق.

علم تعبير المنام

و علم (التعبير) و الغرض منه الاستدلال من التخيلات المنامية على ما شاهدته النفس من عالم الغيب فخيلته القوة المخيلة بمثال غيره

علم الطلسمات

و (علم الطلسمات) و الغرض منه مزج القوى السماوية بقوى بعض الأجرام الأرضية ليتألف من ذلك قوة تفعل فعلا غريبا في عالم الأرض.

علم النيزرجيات

و (علم النيزرجيات) و الغرض منه مزج القوى التي في جواهر العالم الأرضي ليحدث عنها قوة يصدر عنها الفعل الغريب.

علم الكيمياء

و (علم الكيمياء) و الغرض منه سلب الجواهر المعدنية خواصها و افادتها خواص غيرها و افادة بعضها خواص بعض كمزج بعض المعادن ببعض آخر لحصول الذهب و الفضة.

علم النجوم

و (علم النجوم) و علم الهيئة و الغرض منه معرفة الأجسام السماوية و مقادير أجرامها و نسب بعضها إلى بعض و مقادير أبعاد بعضها عن بعض و حركات الأجسام السماوية في مختلف البروج و كرويتها عن الأرض و مقدارها و حركتها و مقدار بعدها عن باقي الأجرام و عن خطوطها الطولية و العرضية و اختلاف الليل و النهار فيها و حرارتها و بردها و أقاليمها و نحو ذلك و أما البحث عن دلالة الكواكب على ما سيحدث في المستقبل فهو من خواص النفس التي تقدر بها على الاخبار بما يكون فهو من نوع الزجر و القيافة و الفراسة و الطرق بالحصى و غير ذلك فهو ليس من العلوم المستقلة.

فروع علم الهيئة

و قد جعلوا فروع علم الهيئة خمسة علم الزيجات و التقاويم و علم المواقيت. و علم كيفية الأرصاد. و علم تسطيح الكرة و الآلات الشعاعية الحادثة عنه و علم الآلات الظلية.

العلوم غير الحكمية

و أما العلوم غير الحكمية فهي التي يبحث فيها عن الموجودات اعتمادا على النقل كعلم النحو و اللغة بل و علم الكلام حيث انه يشتمل على البحث عن الآراء و المعتقدات التي صرح بها الشرع.

علم التوحيد و الصفات و الفقه الأكبر

و قد سماه بعضهم بعلم التوحيد و الصفات و سماه بعضهم بالفقه الأكبر و بعضهم بعلم أصول الدين و أما علوم اللغة كمتن اللغة و النحو و الصرف فهي آلية لا ينتفع بها لذاتها بل

باب مدينة العلم، ص: 116

هي وسيلة لتحصيل العلوم الشرعية و النقلية و كذلك المنطق آلة لا ينتفع بها لذاتها و إنما هو آلة لتحصيل العلوم العقلية.

علم الفقه ليس من العلوم الحكمية

و بهذا يظهر لك ان علم الفقه ليس من العلوم الحِكْمِية لأن البحث في الفقه إنما يكون عن معرفة نفس التشريع الإلهي و القانون الرباني على حد البحث عن سائر القوانين فهو و ان يبحث فيه عن مصلحة الفرد و الجماعة و تدبير المنزل و غير ذلك من شئون الحياة إلا ان حيثية البحث تختلف فيه عنها حيث ان العلوم الحِكْمِية إنما تبحث حسبما يقتضيه العقل و النظر من دون ملاحظة للشرع نعم لما كان من أدلة علم الفقه العقل و كانت بعض أحكامه ارشاداً لما يحكم به العقل الظاهري كانت معرفة الحكمة العملية تنفع فيه كما ان علم العقائد خارج عن مباحث الحكمة لعين ما ذكرناه في خروج علم الفقه لكن لما كانت بعض مسائله تتعلق بالباري جل اسمه و صفاته و شئونه كانت معرفة الحكمة النظرية تنفع فيه.

اعتراف الشيخ بأن مبادئ الحكمة مأخوذة من الشرائع الإلهية

نعم الظاهر كما اعترف به الشيخ الرئيس من ان مبادئ الحكمة العملية و النظرية مأخوذة من الشرائع الإلهية و آدابها و سننها و حدودها و ظهرت بلسان الأنبياء المرسلين و الكتب السماوية المرسلة من رب العالمين. فانه في القسم الثالث من الحكمة العملية المسمى بعلم السياسة تعرف حاجة الناس إلى الشريعة و القانون العام الذي يتعلق بصلاح المجتمع الانساني و لزوم وجود النبوة و الإمامة.

ما تشتمل عليه بعض أقسام الحكمة النظرية

اشارة

هذا و ان علم الحكمة النظرية المسمى بالعلم الإلهي جعلوا المبحث الثالث من القسم الأول منه يشتمل على البحث عن إثبات الباري و وحدانيته و وجوب وجوده و صفاته و ان صفاته لا توجب في ذاته تعدد و لا تكثر و لا تقدح في وحدانية ذاته الحقيقية و المبحث الرابع منه يشتمل على البحث عن مبدعاته و اقرب مخلوقاته منزلة عنده و اختلاف مراتبها و تسمى بالملائكة الكروبين.

الملائكة الكروبين

و إثبات الجواهر الروحانية التي هي بعد تلك بمرتبة و هي الملائكة الموكلة بالسماوات و حملة العرش.

مدبرات الطبيعة

و مدبرات الطبيعة و متعهدات ما يتولد في عالم الكون و الفساد و المبحث الخامس منه يشتمل على البحث عن تسخير الأجرام السماوية و الأجسام العلوية و السفلية السماوية و الأرضية لأولئك الملائكة و إثبات ارتباط الأرضيات بالسماويات و السماويات بالملائكة العاملين بالملائكة المبلّغين و ارتباط الكل بالواحد القهار ارتباطاً لا ترى فيه من فطور و ان مجراه على مقتضى الخير المحض إلى غير ذلك من نزول الوحي و صدور المعجزات و الأخبار بالغيب إلا إن البحث في ذلك كله من جهة حكم العقل و قيام البرهان من دون نظر لما يقتضيه الشرع.

تقسيم العلوم إلى ثلاثة أقسام

اشارة

و بعضهم قسم العلوم إلى ثلاثة أجناس:

باب مدينة العلم، ص: 117

أقسام العلوم الشرعية
الأول العلوم الشرعية

و هي المنسوبة للشريعة و قد جعلوها خمسة أنواع علم التنزيل و علماؤه القُرَّاء و الحفظة. و علم التأويل و علماؤه الأئمة و خلفاء رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" و علم الروايات و علماؤه أصحاب الحديث و علم الفقه و علماؤه الفقهاء معلم التصوف و علماؤه المتصوفة.

علوم الآداب
اشارة

الثاني علوم الآداب و هي العلوم التي تخص اجادة المنظوم و المنثور على أساليب العرب في كلامهم و مناحي بلاغتهم.

أقسام علوم الآداب

و قسموها إلى اثنى عشر نوعاً اللغة و الخط و الشعر و العروض و القافية و النحو و الصرف و الاشتقاق و المعاني و البيان و البديع و المحاضرات و قد الحق بعضهم بذلك علم المنطق و أخرجه من الحكمة و ليس هنا محل البحث في ذلك.

تقسيم الحكمة العملية

الثالث العلوم الحِكْمِية و قد عرفتها فيما تقدم. و بعضهم قسم الحكمة العملية إلى قسمين بحسب ما تؤخذ منه فإذا أخذت الحكمة العملية من العقل فان كان البحث فيها عن الأعمال المتعلقة بمصلحة الشخص المنفرد ليتحلى بالفضائل فهي علم الأخلاق و ان كان عن الأعمال المتعلقة بمصالح الجماعة المشتركة في المنزل (فهي علم تدبير المنزل و ان كان عن الأعمال المتعلقة بمصالح الجماعة المشتركة في المدينة فهي علم السياسة فان هذه الأقسام مما تستقل بها العقول الكاملة و قد ورد في جميعها عن الشارع الحكيم ما يصدق حكم العقل و ينبه عليه و يؤكده و يزيده وضوحاً.

و أما إذا أخذت الحكمة العملية من الشرع فتنقسم أيضاً بالتقسيم المذكور إلى العبادات و المناكحات و المعاملات و السياسات الشرعية و العلم بها هو المسمى بالفقه و على هذا يكون العلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين من أقسام الحكمة.

الرأس السادس: في مرتبة علم الفقه

اشارة

الرأس السادس من الرءوس الثمانية لعلم الفقه بيان مرتبته فان المتقدمين قد جعلوا الرأس السادس من الرءوس الثمانية التي تذكر في صدر كل علم هو بيان مرتبة ذلك العلم من حيث تقدم معرفته على أي العلوم و تأخرها عن أي العلوم و لا وجه لتفسير المرتبة بالشرف لأن المراد بالمرتبة هو بيان حال العلم بالقياس إلى العلوم الآخر في التحصيل.

المراد بشرف العلم

و المراد بالشرف علو منزلة العلم و جلالة قدره ليعرف قدره فيوفي حقه من الجد و الاعتناء في اكتسابه و اقتنائه و لذا عدّوا في أقسام التقدم. التقدم بالمرتبة مغاير للتقدم بالشرف هذا مع العلم بأن القدماء لم يعدوا التقدم بالشرف من الرءوس الثمانية إلا أن بعض الفقهاء (رحمهم اللّه) بينوا في صدر كتبهم التقدم بالشرف لعلم الفقه و بالغوا في البحث عنه و قد افردنا له مطلبا مستقلا في هذا الكتاب و قبل الخوض في بيان

باب مدينة العلم، ص: 118

مرتبة هذا العلم اعني علم الفقه نذكر أقسام التقدم و يعرف منه أقسام التأخر بالمقابلة للتقدم و أقسام المعية بالمقايسة عليهما لأنهما مقابلان له و بهذا يطلع القارئ ما للفقه من أقسام التقدم.

أقسام التقدم

اشارة

فنقول ان التقدم عند الحكماء على خمسة أقسام:

الأول التقدم بالعلية.

و الثاني التقدم بالطبع.

و الثالث التقدم بالزمان.

و الرابع بالمرتبة.

و الخامس بالشرف.

زيادة المتكلمين

و قد زاد المتكلمون سادساً و هو التقدم بالذات و جعلوا منه تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض.

زيادة صدر المتألهين لأقسام التقدم

و زاد قسماً سابعا صدر المتألهين سماه بالسبق بالحقيقة و هو ان يكون المتقدم متصفاً بالشي ء حقيقة و المتأخر متصف به بنحو المجاز بواسطة المتقدم كتقدم السفينة على الجالس فيها بالحركة.

زيادة الداماد

و زاد المحقق الداماد قسما ثامنا سماه بالسبق الدهري و السرمدي كسبق اللّه تعالى في الوجود على العالم فان وجوده متقدم عليه في عالم الدهر و السرمدية مع قطع النظر عن العلة و المعلولية.

زيادة بعض الحكماء

و قد الحق بعض الحكماء قسما تاسعاً و هو التقدم بحسب الماهية كتقدم الجزء المادي و الصوري بل و الجنس و الفصل على الماهية فان حاجة الماهية إلى الأجزاء حاجة في القوام لا في الصدور بخلاف حاجتها إلى الفاعل فإنها تكون في الصدور عنه فما فيه التقدم هو حصول القوام فانه حاصل للجزء و ليس بحاصل للكل. و يطلب تحقيق ذلك من حاشيتنا على المنظومة و إليك بيان ما ذكروه من أقسام التقدم.

التقدم بالعلية

الأول التقدم بالعلية و هو تقدم العلة التامة على معلولها أما بذاتها أو باستجماعها لجميع ما يتوقف عليه تأثيرها فانه متقدمة على وجود المعلول لكن بحكم العقل لا بحسب الخارج كما في حركة اليد بالنسبة لحركة المفتاح فإنها متقدمة عليها بالعلية فالسبق بحسب العقل لا بحسب الخارج لأن العلة التامة وجودها مقارن لوجود معلولها في الخارج (و ما توهم) من عدم اعتبار التمامية في التقدم بالعلية مستنداً بأن حركة اليد ليست علة تامة لحركة المفتاح ضرورة توقفها على اليد و العضلات. فمدفوع بأن المراد من العلة التامة ما لا يتوقف وجود المعلول بعد وجودها من حيث هي علة إلى أمر آخر و لا يقدح في ذلك كون وجودها متوقفا على شي ء آخر.

باب مدينة العلم، ص: 119

التقدم بالطبع

الثاني التقدم بالطبع و يسمى التقدم بالذات و هو تقدم العلة الناقصة على المعلول و منه تقدم المعروض على العارض كتقدم النار أو يبوسة المحل أو المقاربة بين النار و المحترق على الاحتراق فانا نحكم بأنه لا تحقق للاحتراق ما لم تتحقق النار من غير عكس فيجوز الانفكاك بين المتقدم و المتأخر من حيث التقدم بالطبع و الذات و الحقيقة فان امتنع من جهة أخرى لا محالة و منه تقدم المعروض على العارض و تقدم الأجزاء على المركب و منها تقدم المقتضِي (بكسر الضاد) و عدم المانع على المقتضَى (بالفتح). و الحاصل ان المحتاج إليه ان كفى في وجود المحتاج كان متقدما عليه بالعلية كالمؤثر المستجمع لجميع شرائط التأثير و الفاقد لموانعه. و ان لم يكن كذلك كان متقدماً عليه بالطبع و الذات و على هذا كان التقدم بالطبع يشمل العلل الناقصة كلها وسمي تقدماً بالذات لأن ذات

المتأخر متوقفة على ذات المتقدم و قد يسميان هذان التقدمان اعني القسم الأول و الثاني من التقدم بالتقدم بالذات.

التقدم الذاتي

باعتبار اشتراكهما في معنى واحد و هو تقدم المحتاج إليه على المحتاج. و قد يقال لهما التقدم بالطبع أيضاً.

التقدم بالطبع

فكل واحد من لفظي التقدم بالذات و التقدم بالطبع مشترك بين المعنى المشترك بين القسمين من التقدم و بين القسم الثاني نظير لفظ الامكان المشترك بين الامكان العام و الخاص.

التقدم بالزمان

(الثالث التقدم بالزمان) و هو تقدم السابق غير المجامع للمسبوق سواء كان عدم اجتماعه معه لذاتهما كتقدم أمس على اليوم أو لأمر آخر كتقدم الحادث الامسي على الحادث اليومي و يعود لا محالة إلى أجزاء الزمان لأن ما بالعرض يرجع لما بالذات فهذا التقدم يعرض أولا و بالذات إلى أجزاء الزمان ثانياً و بالعرض لما نسب إليها إذ ليس في الموجودات شي ء ينقضي و ينصرم بذاته و يفرض له بحسب التقضي و التصرم أجزاء غير مجتمعة في الوجود سوى الزمان كما لا يخفى. قالوا و يدلك على ذلك انه لو قيل ان وجود زيد متقدم على وجود عمر اتجه ان يقال لما ذا قلت انه متقدم عليه فلو أجيب بأن وجود زيد كان مع الحادثة الفلانية و المتأخر كان مع الأخرى و الأولى كانت متقدمة على الأخرى بدون ان ينسب المتقدم إلى الأمس مثلا و المتأخر إلى اليوم مثلا اتجه ان يقال لم قلت ان تلك مقدمة على هذه فلو أجيب بأن تلك كانت بالأسس و هذه كانت في هذا اليوم انقطع السؤال و لم يصح ان يقال لما ذا قلت بتقدمه عليه.

ان قيل ان ذلك لأجل اعتبار التقدم في مفهوم لفظ أمس و التأخر في مفهوم لفظ اليوم.

أجيب بأن الأمس اشارة إلى قطعة معينة من أجزاء الزمان و هكذا اليوم.

إن قلت ان التدريجات كالألفاظ تتقدم أجزاؤها بعضها على بعض بالذات لا بواسطة الزمان.

باب مدينة العلم، ص: 120

قلنا بواسطة ان أحد أجزائها صار في

الزمان الأول صار متقدما و لذا لو فرض ان المتكلم أخّر اللفظ و جعل زمانه متأخراً عن ما بعده صار ما بعده متقدما عليه.

التقدم بالرتبة

(الرابع التقدم بالرتبة) و يقال له التقدم بالمكان أيضاً و يسمى التقدم بالوضع و هو ان يكون المتقدم اقرب لما جعل مبدأً للأولية و التقدم فمثلا قد نبتدئ بالمحراب فيكون الصف الأول هو المتقدم و قد نبتدئ من باب المسجد فيكون الصف الأخير هو الأول.

و الحاصل انه لا بد فيه من مبدأ تعتبر فيه نسبة التقدم منه و التأخر عنه. و ان كان هذا الاعتبار لا بد له من منشأ. و عليه فيكون الإمام مقدما على المأموم حيث جعل المبدأ هو المحراب و يكون من في الصدر الأول مقدما على من يليه لأن الصدر هو المبدأ.

هذا بالنسبة إلى الحس و أما بالنسبة إلى العقل فكما لو أخذنا الجنس و جعلناه هو الأول باعتبار أعميته و أشمليته و تحته النوع و تحته الصنف و تحته الشخص. و الميزان فيه هو القرب من الذي اعتبر فيه الأولية فانه يكون هو المتقدم فالنوع يكون متقدماً على الصنف و الصنف على الشخص.

التقدم بالشرف

(الخامس التقدم بالشرف) و هو عبارة عن التقدم بالفضل و القدر و الجلالة و العظمة و الأهمية كتقدم الفاضل على المفضول و العالم على المتعلم و الرئيس على المرءوس.

مخالفة المتكلمين للحكماء

و المتكلمون وافقوا الحكماء في هذه الخمسة إلا في التقدم في الزمان فاعتبروا فيه ان يكون الزمان خارجاً عن المتقدم و المتقدم عليه بأن يكون السابق و المسبوق الزمان فهم يخصون هذا السبق بالزمانيات و يجعلون التقدم الواقع بين أجزاء الزمان قسماً سادساً من التقدم و يسمونه تقدماً بالذات و يجعلون تقدم عدم الزمان على وجوده أيضاً من هذا القبيل لعدم مجامعتهما فهم يجعلون التقدم غير المجامع مع التأخر على قسمين:

أقسام التقدم غير المجامع

قسم يعرضه بحسب الزمان و يسمونه التقدم الزمني و قسم يعرضه لذاته و يسمونه تقدما بالذات كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض فانه على ما قالوا ليس بالعلية يوجب الاجتماع في الوجود لعدم انفكاك المعلول عن العلة و لا بالطبع و لا بالرتبة و لا بالشرف لأن شيئا منها لا ينافي الاجتماع في الوجود و هو ينافيه. و أما عدم اجتماع العلة المعدة مع المعلول مع كون تقدمها بالطبع فمن جهة تقدمها بالزمان أيضاً. و التقدم بالزمان ليس من التقدم بالزمان و إلا للزم التسلسل في الأزمنة لأن التقدم بالزمان يحتاج إلى زمان.

و فيه انه إنما يلزم في تقدم الزمان بالزمان ان يكون للزمان زمان لو لزم ان يكون سبق الزمان له زماناً زائداً على السابق و المسبوق و هو غير لازم فان التقدم بالزمان للزمان بنفسه نظير وجودية الوجود و ضوئية الضوء فانهما بنفسهما.

أقسام التأخر

و إذا عرفت أقسام التقدم تعرف أقسام التأخر لأنه مضايف له.

باب مدينة العلم، ص: 121

أقسام المعية

و أيضاً تعرف أقسام المعية بالمقايسة إليهما.

الحصر للتقدم

و كيف كان فالحصر للتقدم في الأقسام المذكورة استقرائي و ربما قيل في ضبطه على مذهب الحكماء.

ان المتقدم اما إن يجامع المتأخر في الوجود أو لا و الثاني هو المتقدم بالزمان و على الأول أما ان يكون بينهما ترتب أم لا و الأول هو التقدم بالرتبة و على الثاني فأما ان يكون بينهما احتياج أم لا و الثاني هو التقدم بالشرف و على الأول فأما ان يكون المحتاج إليه علة تامة أم لا و الأول هو التقدم بالعلية و الثاني هو التقدم بالطبع.

و إن شئت قلت ان المتقدم ان احتاج إليه المتأخر فان كان علة تامة له فهو تقدم بالعلية و إلا فبالطبع و ان لم يحتج فان لم يمكن اجتماعهما في الوجود فهو تقدم بالزمان و ان أمكن فان اعتبر بينهما ترتب فهو تقدم بالرتبة و إلا فبالشرف.

التقدم الحسي و التقدم المعنوي

إذا عرفت هذا فنقول ان المراد بهذا المبحث اعني مبحث رتبة العلم هو التقدم بالمكان و الوضع الحسي أو المعنوي بحسب التعليم و التعلم كما عرفته في بيان معنى التقدم بالرتبة الذي هو القسم الرابع من التقدم فيكون بيانه مرتبة العلم هو بيان ان العلم الذي هو محل البحث في أي مكان وضعه أهل التحصيل و التعليم بمعنى إنهم قد جعلوا تحصيله و تعلمه قبل أي علم و بعد أي علم فان تحصيل العلم و المعرفة هو المبدا فما كان الأقرب يكون هو الأول.

ترتب العلوم في تحصيل الفقه

و عليه فنقول ان أهل تحصيل العلوم الدينية جعلوا الأول لتحصيلهم هو علم النحو ثمّ الصرف ثمّ المنطق ثمّ المعاني ثمّ البيان ثمّ الأصول ثمّ الفقه و إنما صنعوا ذلك لتوقف معرفة الفقه على الأصول لأن اكثر مباحث الفقه معرفتها موقوفة عليه لكون اكثر مقدمات أدلة الفقه مثبتة فيه.

وجه توقف علم الأصول

و توقف علم الأصول على العلوم المذكورة لتوقف اكثر مواضيعه عليها لكون الكثير منهم من مباحثه يتعلق باللغة العربية.

وجه توقف البيان على المعاني

و توقف البيان على المعاني لكون غاية علم المعاني و هي رعاية المطابقة لمقتضى الحال تتوقف عليها غاية علم البيان و هي إيراد المعنى الواحد بطرق متعددة مختلفة الوضوح و الخفاء في الدلالة من حيث انه لا يعتد بإيراد المعنى الواحد بالطرق المختلفة في البلاغة. إلا إذا حصلت الرعاية لمقتضى الحال و توقف علم المعاني على علم المنطق و الصرف و النحو لاشتمال الأول على كيفية الاستدلال و بحث الأخيرين عن اللغة العربية و لا ريب في احتياج علم المعاني في بعض مسائله إلى النظر و الاستدلال و إلى معرفة صحة اللفظ العربي و خطئه و توقف علم الصرف على النحو لتوقفه على معرفة تقسيم الكلمة و أحوالها.

باب مدينة العلم، ص: 122

وجه تقدم النحو على الصرف

و لأن وضع النحو كان قبل علم الصرف و بعضهم قدّموا علم الصرف على النحو باعتبار ان علم الصرف يتعلق بمفردات اللغة و علم النحو يتعلق بمركباتها. و إنما قدموا النحو و الصرف على المنطق لأنهما اسهل و اقرب لفهم المبتدئ من علم المنطق.

كلمة قيمة في تقديم العلوم بعضها على بعض

قال بعضهم ان العلوم لكل منها مرتبة و مقام معلوم فلا يشتغل بالغايات قبل المبادئ و لا بالنتائج قبل المقدمات و لا باختلاف العلماء في العقليات و السمعيات قبل إتقان الاعتقاديات فيختل ذهنه و يحير عقله و يضيع سعيه بل يلاحظ الترتيب اللائق و يؤتى كل ذي حق حقه فيكون ممن أتى البيوت من أبوابها و يسهّل له إدراك البقية و بلوغ الامنية فيشتغل أولا بحفظ كتاب اللّه و تجويده و يكون مفتاحاً صالحاً و معيناً ناجحاً يستنير القلب به و يستعد بسببه للاحاطة بباقي العلوم ثمّ بالعلوم العربية فإنها أو ل الآلات الفهم و اعظم أسباب العلم الشرعي لأن الكتاب و السنة عربيان فيتقن علم التصريف و النحو و اللغة و المعاني و البيان اتقاناً جيداً بحيث إذا عرضت عليه عبارة عربية غير موحشة قوى عليها و يكفيه في غريب اللغة اصل مركون إليه يراجعه عند الحاجة ثمّ بالمنطق يحقق مقاصده فان له مدخلًا عظيماً في تقويم الفكر و اصلاح صور الأقيسة ثمّ بالعقليات كالآلهي و شي ء من الطبيعي يشحن به ذهنه و يرسّخ فيه ملكة الاستدلال و ينظر في أصول الفقه و دراية الحديث و الرجال و يتعرف الاصطلاحات الموضوعة بين أهلها ثمّ يشتغل بالحديث و التفسير و ليمعن النظر في كشف أغوار كلام اللّه فإنها لا تقف على حد و هو بحر عميق و لا يقنع بما ذكره

المفسرون و ليكن كثير التفتيش عن الروايات المأثورة في تفسير الظهور و البطون فان فيها من علوم الأسرار شيئا كثيراً و ليتقن من فقه الأحكام الشرعية طرفاً صالحاً و يطلع على أقوال الفقهاء رضوان اللّه عليهم و مواقع الخلاف بينهم و الإجماع لديهم و لا يكتفي في ذلك بالمتون الوجيزة فان الشروح و الكتب الاستدلالية اكثر فائدة و أوفى بالمقصود و إذا اشتغل بفن فلا ينتقل عنه حتى يتقن فيه كتابا أو اكثر إن أمكن و يحذر التنقل من كتاب إلى كتاب و من فنّ إلى آخر و من غير موجب فان ذلك علامة العجز و عدم الفلاح و ليأخذ من كل فنّ حظه و يصرف تمام قوته في العلوم الدينية الأخروية فانه مما توجب كمال النفس و تزكيتها بالاخلاق الفاضلة و الأعمال الصالحة و مرجعها إلى معرفة الكتاب و السنة و قد ذكر القوم لتقدم العلوم المدونة بعضها على بعض أمور:

الأمور الموجبة لتقدم العلوم بعضها على بعض

التقدم بالموضوع
اشارة

(الأول) التقدم بالموضوع كتقدم العلم الطبيعي على علم الهندسة لأن موضوع الأول هو الجسم الطبيعي و موضوع الثاني هو المقدار و المقدار عارض على الجسم الطبيعي فيكون موضوع الأول مقدم عليه تقدم المعروض على العارض عليه.

رجوع التقدم بالموضوع إلى التقدم بالطبع

و لا ريب ان هذا يرجع إلى التقدم بالطبع الذي هو القسم الثاني و عليه فيكون تقدم موضوع علم النحو و الصرف على علوم البلاغة من التقدم بالطبع لأن

باب مدينة العلم، ص: 123

موضوعهما هو الكلمة من حيث الاعراب و البناء و الاعلال و الهيئة. و موضوع علم البلاغة هو الكلام من حيث المحسنات إذ إن المحسنات للكلام إنما تكون محسنات إذا كانت كلماته صحيحة من حيث الاعراب و البناء و الاعلال و الهيئة فهو متوقف عليه توقف العارض على معروضه.

الرد على صاحب الحاشية

فلا وجه لما في حاشية المعالم للشيخ محمد تقي" رحمه اللّه" من جعل ذلك من التقدم في الرتبة. على ان ذلك إنما يكون لدى الحقيقة من التقدم بالطبع من جهة الغاية لا من جهة الموضوع من حيث الغاية من علوم البلاغة هو تحسين الكلام برعاية قواعده و هي إنما تحصل و يعتد بها إذا حصلت غاية علم النحو و الصرف في كلماته و هي صحتها من حيث الهيئة و التركيب و الاعراب و البناء.

التقدم بالغاية

(الثاني) التقدم بالغاية بأن يتوقف حصول الغاية من العلم و الاعتداد بها على غاية العلم الآخر فيكون العلم الآخر مقدماً عليه كما تقدم مثال ذلك قبل اسطر و كما تقدم من توقف غاية علم البيان على غاية علم المعاني.

التقدم بحسب الحاجة
اشارة

(الثالث) التقدم بحسب الحاجة و هو التقدم بسبب احتياج معرفة العلم المتأخر لمعرفة العلم المتقدم كاحتياج معرفة علم الفقه لعلم الأصول و غيره من العلوم التي يحتاج إليها الفقيه في معرفته للفقه كالنحو.

الخادم من العلوم

و قد يسمى العلم المتقدم المشتمل على مبادي العلم المتأخر بالخادم كما صدر ذلك من الفاضل الأبهري حيث سمى بذلك علم الكلام بأنه خادم للعلوم الشرعية ورد عليه شارح المواقف بما حاصله إنه لا يناسب تسميته بالخادم و إنما هو رئيس عليها لتوقفها عليه و استمدادها منه و أجيب عن ذلك بأن (سيد القوم خادمهم) و لهذا سمى القوم المنطق بخادم العلوم لتوقف معرفة صحة الاستدلال في العلوم على معرفته. و هذا يكون من قبيل التقدم بالطبع لتوقف العلم المتأخر على المتقدم و احتياجه إليه في معرفته.

التقدم بالشرف

(الرابع) التقدم بالشرف و هو عظمة المنزلة و علوها و رفعتها و هي تكون بأشرفية موضوع ذلك العلم أو بأشرفية معلوماته أو بأشرفية ما يترتب عليها من الغايات و الفوائد أو بأشرفية واضعه إذ لا تتجاوز جهات شرف العلم هذه الأربعة فعلم الكلام اشرف العلوم من ناحية الموضوع لأن موضوعه على ما ذكره بعضهم كالقاضي الأرموي من انه هو ذات اللّه لأنه يبحث فيه عن وجوده و صفاته الثبوتية و السلبية و عن أفعاله الدنيوية كحدوث العالم و الأخروية كحشر الأجسام و عن أحكامه فيهما كبعث الرسل و نصب الإمام في الدنيا من حيث انهما واجبان عليه تعالى في الدنيا و كالثواب و العقاب من حيث إنهما واجبان عليه تعالى في

باب مدينة العلم، ص: 124

الآخرة و هكذا علم الكلام اشرف من ناحية الغاية لأن غايته الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة اليقين و إرشاد المسترشدين بايضاح الحجة و إلزام المعاندين باقامة المحجة و حفظ أصول الدين عن ان تزلزلها شبه المبطلين و شكوك الضالين و صحة النية في الأعمال العبادية و العمل بالواجبات و المحرمات الآلهية

و غاية ذلك الفوز بالسعادة في الدارين و هي اشرف الغايات و اسماها و أجداها نفعاً و هكذا هو اشرف من ناحية معلوماته لأن مسائله تتعلق بأصول الدين. و يدلك على شدة شرفية معلوماته انه يجب العلم و التدين بها. و هكذا علم التفسير معلوماته اشرف من باقي العلوم لأنها مرادات اللّه تعالى فإنها اشرف من مرادات غير اللّه تعالى و هكذا علم النحو فانه اشرف من غيره من ناحية الواضع لأن واضعه أمير المؤمنين علي" عليه السلام".

التقدم لشدة الحاجة إليه

(الخامس) التقدم بشدة الحاجة إليه كتقدم علم الطب و علم الفقه على غيرهما بواسطة شدة الحاجة إليهما في حفظ الأبدان و الأنفس. و هذا يرجع للتقدم في الرتبة لأن حاجة الإنسان له جعلته اقرب منزلة و مرتبة للإنسان من غيره في التحصيل و المعرفة فان المبدا للأقربية هو التحصيل و المعرفة.

التقدم بسهولة المعرفة

(السادس) التقدم بسهولة المعرفة و التعلم كتقدم علم الحساب على غيره حتى يقوى الطالب على ادراك الحقائق و يسهل عليه فهم المطالب فيقوى استعداده و قابليته لتلقي ما هو اصعب منه معرفة و أشكل من مسألة. و يمكن ان يسمى هذا النحو من العلوم بسمع الكيان لأنه هو الذي ينبغي ان يكون أول ما تسمعه طبيعة الإنسان و لذا كانت الحكماء و الفلاسفة تقدم مثل هذه العلوم في التعلم على باقي فنون الفلسفة و الحكمة و هذا أيضاً يرجع إلى التقدم بالرتبة لعين ما ذكرناه في التقدم لشدة الحاجة.

التقدم بقوة الأدلة

(السابع) التقدم بوثاقة الأدلة و قوتها كتقدم العلوم العقلية على غيرها باعتبار قوة أدلتها و وثاقتها و كتقدم علم الكلام على غيره باعتبار ان أدلته يقينية مؤيدة بالنقل فهي في غاية الوثاقة. و من هنا تقدم الكتب التي اعتمد مؤلفيها على ذكر الأدلة القوية على غيرها من الكتب التي لم تكن كذلك مع ان مسائل الكتابين واحدة و هكذا يقدم الحضور على يد الأساتذة المدققين و المحققين على غيرهم من أساتذة ذلك الفن ممن لم يكونوا كذلك لأن أدلتهم على المطالب أوثق من أدلة غيرهم عليها لدقتها. و هذا يرجع للتقدم بالشرف لأن الأدلة التي هي أوثق و اشرف من الأدلة التي هي ليست كذلك لكمال تلك الأدلة و نقصان تلك. و يمكن ان يرجع للتقدم بالمرتبة و المنزلة أيضاً لأن حاجة الإنسان إلى الأدلة الكاملة أزيد من حاجته للأدلة الناقصة.

التقدم بعموم الموضوع

(الثامن) التقدم بعموم الموضوع لأنه قد تقرر عندهم أن العلوم تتصاعد بتصاعد الموضوعات عموماً و خصوصاً كما يقال في علم الحكمة فان موضوع الموجود و هو أعم من موضوعات غيره من العلوم. و من هنا يقدم البحث في المسألة إذا كان عن عموم موضوع

باب مدينة العلم، ص: 125

العلم و اطرافه على البحث في المسألة لو كان مختصا بجهة خاصة من الموضوع للعلم و هذا كما عرفته إنه يرجع إلى التقدم بالرتبة لأن تقدم العام على الخاص بالرتبة باعتبار انه له شمول للخاص فهو للشمول اقرب من الخاص.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، باب مدينة العلم، در يك جلد، مؤسسه كاشف الغطاء، ه ق

باب مدينة العلم؛ ص: 125

الرأس السابع: في تقسيم علم الفقه

اشارة

الرأس السابع من الرءوس الثمانية لعلم الفقه بيان تقسيمه إلى أبواب فان المتقدمين جعلوا الرأس السابع من الرءوس الثمانية التي تذكر في صدر كل علم هو بيان أبواب العلم التي يبحث فيها عنه و قد تسمى بالمباحث و قد تسمى بالفصول و قد تسمى بالكتب و قد تسمى بالمقالات و ذلك ليحيط بالعلم إجمالًا و لأنه عند ما يحتاج لمسألة من العلم يعرف موقعها من العلم و لأن المتعلم يسهل عليه ان يحضر في كل باب منه ما يليق به و هكذا قد يذكر تقسيم الكتاب في أوله للوجوه المذكورة.

تقسيم الكتاب

ثمّ إن تقسيم العلم يكون من المدوّن له و تقسيم الكتاب يكون من المؤلف له بمعنى ان يذكر مسائل كل باب في محل واحد منه كأن يذكر مسائل الطهارة في بابها و مسائل الصلاة في بابها و مسائل الصوم في بابه لا أن يخلط بينها فيجمع بين مسائلها بل الواجب ان المسألة التي ترتبط بأكثر من باب واحد ان يذكرها في كل منها و لو يشرحها في أحدها و الإشارة إلى شرحها في الباب الآخر.

الاستفتاء من البصرة

و اني لأذكر مرة جاءنا استفتاء من البصرة عن امرأة حامل توفي زوجها ثمّ جاءت بحملها ميتاً تدعي انها وضعته حيا في البادية و لشدة الحر و عدم القابلة و المساعدة لها مات الطفل و تدعي بإرثه و في وقتها راجعت كتب الفقه التي تحت يدي في كتاب المواريث في مبحث ميراث الحمل لم أجده و بلغني ان بعض المجتهدين لعدم وجوده للمسألة أفتى لهم بالمصالحة و بعضهم أفتى بالميراث استصحابا لحياة الحمل و إن المراد بالاستهلال المعتبر في ميراث الحمل هو الحياة فقط و لكن بعد الفحص منا رأينا إن المسألة محررة في كتاب الشهادات في مبحث شهادة القابلة و فيها أخبار قد نقلها القوم هناك فأفتيت لهم بعدم الميراث و شفّعت الفتوى بالأدلة و الأخبار. و الكثير من المباحث الفقهية أمرها كذلك فيعسر على الفقيه استخراجها جداً.

قاموس فقهي

و قد ذكر بعضهم الخلو بالأجنبية في مبحث الاجارة و حلق اللحية في المكاسب و هذا ما دعاني ان أعقد النية على صنع قاموس مرتب على الحروف الهجائية للموضوعات الفقهية نشرح فيه ماهياتها و نبين أحكامها.

تقسيم الفقه

اشارة

و إليك التقسيم الذي جعله علماء الفقه لهذا العلم فقد قسموا مباحث علم الفقه على أربعة أقسام الأول العبادات و هي الصلاة و الصوم و الفطرة و الحج و الاعتكاف و الزكاة و الخمس و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

باب مدينة العلم، ص: 126

وجه تقديم الكلام في العبادات

و إنما قدموا البحث عن العبادات و جعلوه هو الأول لأن العبادات هي الأفضل و الأهم في نظر الشرع و حيث كانت الصلاة افضلها و وجوبها أعم قدموا البحث عنها على سائر العبادات و حيث كانت الصلاة مشروطة بالطهارة و في الطهارة مباحث كثيرة قدموا البحث عن الطهارة على البحث عن الصلاة و لما كانت الطهارة المائية مقدمة على الطهارة الترابية قدموا البحث عن الطهارة المائية و لما كانت الطهارة المائية تحصل بالماء المطلق قدموا البحث عنه.

و القسم الثاني هو المعاملات و يسمى بالعقود و هي البيع و الاجارة و النكاح و كل ما يحتاج إلى ايجاب و قبول.

و القسم الثالث الايقاعات كالطلاق و العتق و كل ما يحتاج إلى ايجاب فقط.

و القسم الرابع الأحكام و هي ما عدا ذلك.

إنما خصوا القسم الرابع باسم الأحكام

و هذا القسم الرابع إنما خصوه باسم الأحكام مع ان الجميع هي أحكام شرعية لأنهم لم يجدوا له خصوصية يسمونه بها فسمّوه فيما بينهم بالأحكام.

السياسيات

و بعضهم سماه بالسياسيات دون الأحكام كالشهيد" رحمه اللّه" في الذكرى احترازا من الاشتراك اللفظي بينها و بين الأحكام الخمسة و بعضهم فراراً من ذلك يقيدها فيعبر عن القسم الرابع بالأحكام بالمعنى الأخص و الظاهر انهم إنما خصوا القسم الرابع بالسياسيات لأنه يشتمل على تدبير المنزل كالأطعمة و الاشربة و المواريث و على تدبير المجتمع كالحدود و القصاص و الديات. و السياسية هي التدبير فتكون التسمية من قبيل تسمية الشي ء بالأعم الأغلب فيه كتسمية الآنية و الخاتم بالفضة لأن الأعم الأغلب فيه هو الفضة.

تقسيم القسم الرابع إلى اثني عشر باباً

و قد جعلوا هذا القسم الرابع اثني عشر بابا في الفقه.

الصيد و الذباحة و الأطعمة و الأشربة و الغصب و الشفعة و أحياء الموات و اللقطة و الفرائض و القضاء و الشهادات و الحدود و القصاص و الديات.

ثمّ لا يخفى انه على هذه القسمة إلى أربعة أقسام مع تسمية الرابع بالأحكام بنى المحقق طاب ثراه كتاب الشرائع و كذا العلامة في المنتهى و التذكرة و التحرير و سمى هذه الأقسام بالقواعد و الشهيد" رحمه اللّه" في الذكرى رتب كتابه على مقدمة و اقطاب أربعة هي العبادات و العقود و الايقاعات و السياسات.

باب مدينة العلم، ص: 127

وجه الحصر في أربعة

اشارة

و قال في تقرير الحصر ان الحكم أما ان يشترط فيه القربة أولا و الأول إما ذو صيغة أولا و الثاني السياسات و الأول اما وحدانية أو لا و الأول الايقاعات و الثاني العقود و قال السيوري في التنقيح حصر العلماء الفقه في أربعة أقسام عبادات و عقود و ايقاعات و أحكام و قرروا دليل الحصر بوجوه.

وجه الحصر الأول

(الأول) ان المبحوث عنه اما متعلق بالأمور الأخروية و هو العبادات أو الدنيوية. و الثاني أما ان لا يفتقر إلى عبارة لفظية و هو الأحكام أو يفتقر فأما من اثنين غالباً و هو العقود أو من واحد و هو الايقاعات.

وجه الحصر للحكماء

(الثاني) طريقة الحكماء و هو ان يقال كمال الإنسان اما بجلب نفع أو بدفع ضرر و الأول أما عاجل أو آجل فجلب النفع العاجل بالمعاملات و الأطعمة و الأشربة و النكاح و جلب النفع الآجل بالعبادات و دفع الضرر بالقصاص و ما شابهه.

وجه الحصر للمتكلمين

(الثالث) ان الشرائع جاءت لحفظ المقاصد الخمس و هي الدين و النفس و النسب و المال و العقل و هي التي يجب تقريرها في كل شريعة فالدين يحفظ بقسم العبادات. و النفس تحفظ بالقصاص و الديات و النسب يحفظ بالنكاح و توابعه و الحدود و التعزيرات. و المال يحفظ بالعقود و تحريم الغصب و السرقة. و العقل يحفظ بتحريم المنكرات و ما في معناها و ثبوت الحد و التعزير على ذلك و حفظ الجميع بالقضاء و الشهادات و توابعها. (و بتعبير آخر) ان المطلوب في الفقه ضبط الأحكام الشرعية و الوضعية. فالشرعية الوجوب و التحريم و الندب و الكراهة و الإباحة و الوضعية و السببية و الشرطية و المانعية و الصحة و البطلان و الملكية و الزوجية و نحو ذلك و يترتب على ذلك حفظ المقاصد الخمسة التي بنيت عليها الشرائع و الأديان و هي الدين و النفس و العقل و النسب و المال. فالدين بالعبادات و النفس بالقصاص و الديات. و العقل بخطر المسكرات و المغميات. و النسب بالمناكح و المواليد. و المال بأحكام الضمان و المعاملات و الجميع بالسياسات كالحدود و التعزيرات و القضاء و الشهادات (و في القواعد) كل حكم شرعي يكون الغرض الأهم منه الآخرة أما لجلب النفع أو لدفع الضرر فيها يسمى عبادة أو كفارة و كل ما يكون الغرض الأهم منه الدنيا سواء لجلب النفع أو

لدفع الضرر يسمى معاملة.

أقسام العبادات

قال الشيخ في الاقتصار و الجمل. عبادات الشرع خمس الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و أدخل الطهارة في الصلاة و الخمس في الزكاة و الاعتكاف في الصوم و العمرة في الحج و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الجهاد و جعلها الفاضلان و اكثر المتأخرين عشراً هي الخَمْس التي ذكرها الشيخ" رحمه اللّه" مع الخَمْس التي أدخلها تبعاً.

باب مدينة العلم، ص: 128

و قال الديلمي في المراسم الرسوم الشرعية تنقسم إلى قسمين عبادات و معاملات.

فالعبادات تنقسم إلى ستة أقسام طهارة و صلاة وصوم و حج و اعتكاف و زكاة و ذكر العمرة في الحج و الخمس و الجزية في الزكاة و في النزهة عن الشيخ ابن يعلي سلّار ان العبادات ستة باسقاط الجهاد من الخمس الأول و زيادة الطهارة و الاعتكاف.

و قال الحلبي العبادات عشر الصلاة و حقوق الأموال و الصيام و الحج و الوفاء بالنذر و العهود و الوعد وبر الأيمان و تأدية الامانات و الخروج من الحقوق و الوصايا و أحكام الجنائز و ما تعبد اللّه لفعل الحسن و القبيح و أراد بالأخير معاملة الناس على حسب ما يستحقون من جهة الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية.

و قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي الطوسي في الوسيلة عبادات الشرع عشر الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و غسل الجنابة و الخمس و الاعتكاف و العمرة و الرباط. قال السيد في المصابيح و إنما أفرد غسل الجنابة عن سائر الطهارات بناء على قوله بأنه واجب بنفسه و ان المراد بالعبادة ما كان كذلك دون ما وجب تبعاً لغيره كما يفهم من

كلامه قبل ذلك. و في النزهة العبادات كثيرة و الذي قد حصرت منها خمسة و أربعون قسماً و هي الطهارة وضوءاً كان أو غسلًا و ازالة النجاسات عن البدن و الثياب و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و ما يتبعه و الجهاد و الاعتكاف و الخمس و العمرة و الرباطة و الوفاء بما عقد عليه من النذور و العهد و اليمين و تأدية الأمانة، و الخروج من الحقوق و الوصايا و زيارة النبي" صلى اللّه عليه و آله" و الأئمة ع و زيارة المؤمنين و تلاوة القرآن و الدعاء و ما جرى مجراه من التسبيح و غيره من أحكام الجنائز قبل الموت و بعده السجود و السلام على المؤمنين ورد السلام عليهم وصلتهم في المجالسة و السعي في حوائجهم و الاشتغال بالعلوم العربية إذا قصد بها الاجتهاد في الأحكام الشرعية و صحة التلفظ بالدعاء و القضاء بين الناس و الفتوى إذا كان من أهلها و انتظار الصلاة قبل دخول وقتها فقد روي في باب الصلاة من كتاب التهذيب عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" انه كنز من كنوز الجنة و الصبر و انتظار الفرج و التوكل على اللّه و كتمان المرض و كظم الغيظ و العفو عن الناس و الاكتساب للعيال و العتق و التدبير و المكاتبة و الوقف و الحبس و العمرى و الرقبى إذا قصد بها التقرب إلى اللّه تعالى.

قلت و في جميع ما ذكروه ادخال ما ليس بالعبادة في العبادة لأن المراد بها العمل المتوقف على قصد القربة و الجهاد خارج عنه قطعاً و كذا الرباط و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تأدية الامانات و الخروج من

الحقوق و الوصايا و ازالة الاخباث و بعض أحكام الجنائز و اكثر المذكورات. كما ان حصرهم العبادات في ذلك يلزم منه إخراج بعض العبادات كالصدقة فإنها عبادة بالاتفاق و قد ذكروها في المعاملات و كذا الكفارات و النذر و العتق فانه من العبادات على المشهور بل كاد يكون إجماع من الكل لشذوذ المخالف و انقراضه مع ورود الحديث المعتبر الاسناد عن الإمام الصادق" عليه السلام" انه قال لا صدقة و لا عتق إلا ما أريد به وجه اللّه عز و جل فكان الواجب ذكر ذلك كله في العبادات و كذا الوقف و التدبير على القول بأنهما عبادة مع أن القائلين به قد ذكروه في غيرها.

باب مدينة العلم، ص: 129

قال الشهيد" رحمه اللّه" في الذكرى بعد تفسير العبادة بالفعل و شبهه المشروط بالقربة قال و للجهاد و نحوه غايتان فمن حيث الامتثال المقتضي للثواب عبادة و من حيث الاعزاز و كف الضرر لا يشترط فيه التقرب و ما اشتمل عليه باقي الاقطاب من قسم العبادة من هذا القبيل و أما الكفارات و النذور فمن قبيل العبادات و دخولها في غيرها تغليبا أو تبعاً للأسباب.

و ما ذكره و ان كان حسناً في مقام التوجيه و الاعتذار إلا انه لا ينفع للتعويل على ما قالوه في التمييز بين العبادة و غيرها و هو المهم فانهم بهذا الادخال و الاخراج قد خرجوا عن معناها المعروف فلا يمكن الحكم بكون الشي ء عبادة بذكره في كتب العبادات و لا بأنه ليس منها بذكره في غيرها. على انهم إن أرادوا بالعبادة ما يمكن التقرب به بطل الحصر فيما ذكروه من العدد لدخول العادات و المعاملات كلها في العبادات بهذا المعنى فإنها

بأسرها صالحة للتقرب و ان أرادوا خصوص ما تعلق به الطلب وجوباً أو ندبا فكذلك و ان كان الداخل فيها اقل من الأول و ان أرادوا ما كان معظم الغرض فيه الأمر الاخروي أو ما يعتبر في صحته القربة و حب ذكر الصدقة و الكفارة و النذر و العتق و نحوها في العبادات فان الغرض الأهم فيها الآخرة و ان قصدوا بها معنى آخر فلا بد ان يبين حتى يعرف.

و بالجملة فالأمر في العبادة التي جعلت مقسماً لهذه العبادات ملتبس.

و إن كان التحقيق ان معنى العبادة لغة الطاعة و الخضوع و الذي يتحصل من الفقهاء و الأصوليين انها اطاعة العبد ربه من الوجه الذي يطاع به فتكون حقيقتها هو العمل المقرون بنية القربة و عن الشهيد في القواعد إن إطلاق اسم العبادة ينصرف إلى ذلك ... و عليه فالوقف و الأضحية و العتق و الصدقة من العبادات المذكورة في باب المعاملات لمناسبات لوحظت في أنظار المؤلفين.

و جدي كاشف الغطاء" رحمه اللّه" قسم الفقه في شرحه للقواعد إلى قسمين عبادات و معاملات فاراد بالمعاملات ما ليس بعبادة ثمّ قال" رحمه اللّه" و جميع التعريفات مدخولة في طردها و عكسها إلا أن يلتزم بالاستطراد. و لعله أشار إلى ما يشكل عليهم.

أولا عدّهم من قسم العبادات الآذان و الاقامة و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مع ان النية ليست شرطاً في صحتها بداهة ان مجرد فعلها يسقط العقاب نعم النية و قصد القربة شرط في استحقاق الثواب عليها كما هو شأن سائر الواجبات التوصلية.

قال المرحوم الشيخ حسن في شرح مقدمة كتاب والده كشف الغطاء ان من العبادات ما لم يقرن بالنية كالعقائد الأصولية و النية

و مكارم الأخلاق كالحياء و السخاء و المروءة و التواضع و نظافة القلب من الحسد و الحقد و السلام و زيارة الاخوان و اكرام الضيوف و قضاء الحوائج

باب مدينة العلم، ص: 130

و صلة الأرحام و التختم بالعقيق و لباس الأبيض و التحنك فإنها تصح و يثاب عليها من دون نية على الأظهر كما يظهر ذلك من كثير الأخبار و جملة من كلام الأخيار.

و ثانياً قد عدّوا الضمني و المعاطاة من العقود و المعاملات سواء كانت في البيوع و الاجارات أو نحوهما مع انها ليست فيها صيغة و لا عقد نعم لو فسرناها بما اشتمل على رضى الطرفين كانت منها أو قلنا ان الانشاء فيها و القبول يكون بالعطاء و الأخذ كما يقال في سكوت البنت في عقد النكاح قبول منها له. و ثالثاً عدّوا العتق من الايقاعات مع انه يشترط فيه القربة. و الأولى ما ذكره جدي كاشف الغطاء" رحمه اللّه" من انه يلاحظ قصد المصنفين فان الأمر يختلف بحسب أنظارهم فقد يجعل المصنف في الفقه مباحث العقود أزيد من غيرها و الآخر يجعل مباحث الأحكام اقل من غيرها و لم نر من المؤلفين من التزم بذلك على وجه الصحة. و قد ذكر لي ان بعض المتأخرين قسم الفقه إلى أبواب سبعة.

الأول ما يتعلق بعبادة اللّه و يعتبر فيه قصد القربة كالصلاة و الصيام و الحج و نحوها و يسمى بالعبادات.

الثاني ما يتعلق بأفعال الناس و تعاملهم و خصوماتهم و يسمى بالمعاملات.

الثالث ما يتعلق بالأسرة من نكاح و نفقة و طلاق و نسب و نحوها و يسمى بالأحوال الشخصية في هذا العصر و أما في السابق فيلحق بالمعاملات.

الرابع ما يتعلق بالحاكم في الرعية

و الحقوق و الواجبات المتقابلة بينهما و يسمى بالأحكام السلطانية و قد يسمى بالسياسة الشرعية.

الخامس ما يتعلق بعقاب المجرمين و يسمى بالعقوبات.

السادس ما يتعلق بعلاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى في حال السلم و الحرب و يسمى بالسِّيرَ جمع (سيرة) و يسمى بالحقوق الدولية.

السابع ما يتعلق بالأخلاق و يسمى بالآداب.

وجه تقديم بعض أبواب الفقه على بعض

ثمّ انهم بدءوا أولا بالعبادات لأنها في الأحكام الأخروية و هي أهم من الأحكام الدنيوية بدليل ان المقصود للمشرع من خلق الجن و الانس العبادة له تعالى ثمّ ثنوا بالمعاملات و العقود لتوقف نظام النوع الانساني عليها و تدبير شئونه بها ثمّ ثلثوا بالايقاعات لأنه بالنسبة للمعاملات و العقود كالفروع بالنسبة للأصول أ لا ترى ان الطلاق فرع النكاح و العتق فرع الملك الذي يرجع للابتياع و إذا حازت هذه الأقسام الثلاثة بالسبق بالوضع فلا بد أن يؤخر مبحث القسم الرابع و هو الأحكام و السياسات عنها.

و لأنها إما أحكام مرتبطة بالاموات كالفرائض و الموت مرتبة متأخرة عن الحياة طبعا أو أحكام للجناة كالديات و القصاص و الحدود و الجناية توجب تأخر المجني ضِعَةً و منزلة أو إنها لازمة للعقود و الايقاعات معا كالقضاء و الشهادات و اللازم متأخر عن الملزوم طبعا فأخروا ذلك وضعاً ليطابق الوضع الطبع. ثمّ في العبادات قدموا الصلاة لأنها أفضلها و اكثر تكراراً من غيرها من العبادات و قدموا الطهارة لكونها شرطا فيها و الشرط مقدم على

باب مدينة العلم، ص: 131

المشروط و كان حقا ان تجعل باباً من أبواب الصلاة كسائر شروط الصلاة كما فعل الشهيد" رحمه اللّه" في (الذكرى) وجدنا الشيخ هادي" رحمه اللّه" في رسالته (هدى المتقين) لكن لما كانت مسائل الطهارة كثيرة متشعبة أفردوا لها كتاباً

خاصاً و قدّموا مبحث الوضوء فيها لعموم البلوى به و تكرره في كل يوم بخلاف الغسل و التيمم و قدموا الغسل على التيمم لأن التيمم واقع ثانوي له فهو لا يكون إلا بعد تعذره أو تعذر الوضوء و قدموا ذلك كله على ازالة النجاسات لأنها تابعة للطهارة في الحكم الشرعي إذ ازالة النجاسة لا تجب إلا إذا وجبت الطهارة عن الحدث ثمّ أتوا بالزكاة بعد الصلاة لاقترانها بها في الكتاب الكريم في عدة مواطن و ذكروا الخمس بعد الزكاة لأنه حق مالي قد جعل في مقابلها لفقراء السادات و للإمام. ثمّ ذكروا الصوم بعد ذلك لأنه يتكرر في كل سنة كالزكاة ثمّ الحج لأنه لا يتكرر وجوبه و إنما يجب في العمر مرة و أخروا الجهاد لأنه وجوبه غير منوط بالفرد بل هو مرتبط بالجماعة و ولي المسلمين و على هذه فقس ما سواها.

الرأس الثامن: في أنحاء التعليم في علم الفقه

اشارة

التقسيم ج و التحليل ج و التحديد ج و البرهان

الرأس الثامن من الرءوس الثمانية لعلم الفقه هو أنحاء التعليم لعلم الفقه و طرقه. و هي أربعة التقسيم و التحليل و التحديد و البرهان فان المتقدمين قد جعلوا الرأس الثامن من الرءوس الثمانية التي تبين في صدر كل علم هو انحاء التعليم له أي الطرق الموصلة لتحصيل مطالبه و مسائله و هي أربعة و إليك بيانها.

الأول من أنحاء التعليم (التقسيم في علم الفقه)

اشارة

الأول التقسيم و هو بيان كيفية تحصيل الدليل و صنعه لتحصيل المطلوب منه فانه كثيرا ما يعسر معرفة الدليل على المسألة ثبوتاً أو نفيا فذكر القدماء كيفية صنع الدليل على مطالب ذلك العلم لتحصيلها إيجاباً أو سلباً في صدر كتبهم.

كيفية تحصيل الدليل على المسألة

و يسمى هذا النحو من التعليم لمعرفة الدليل على مسائل العلم بالتقسيم لأنه فيه تحصيل المقدمات و تقسيمها حتى يرتبها ترتيبا يؤدي للمطلوب و يسمى المنطقيون هذا النحو من التعليم بتركيب القياس باعتبار ان القياس هو الدليل عندهم و بالتقسيم المذكور يتركَّب القياس الموصل للمطلوب.

متى نحتاج التقسيم

ثمّ انا إنما نحتاج إلى هذا الأمر اعني التقسيم في العلوم بالنسبة للمسائل المستحدثة فيها أو المسائل التي لم يقم أرباب العلوم الدليل المقنع عليها ايجابا أو سلبا. و أما المسائل التي اقيم

باب مدينة العلم، ص: 132

الدليل الواضح عليها في العلم فلا نحتاج للتقسيم فيها فمثلا في علم الفقه لا نحتاج إلى التقسيم في مسألة طهارة الكر من الماء لا قامة الفقهاء الدليل على ذلك مفصل عند التعرض لها نعم نحتاج إليه في حلق اللحية أو في المسائل المستحدثة كالإسبرتو و اليانصيب و المعاملات المصرفية و هكذا باقي العلوم.

فائدة التقسيم

و الحاصل ان بيان التقسيم في أوائل العلوم أو في صدر كتبها إنما ينفعنا في مسائلها غير المحررة أو مسائلها المحررة لكن لم تحصل القناعة من دليلها عليها. و أما مسائلها المستدل عليها فيها بدليل مقنع فلا نحتاج له إذا عرفت ذلك.

التقسيم في علم الفقه على طريقة المنطقيين

فنقول ان التقسيم في علم الفقه على طريقة المنطقيين هو ان الطالب للمسألة يشخص الواقعة بخصوصياتها ثمّ ينظر هل ينطبق عليها عنوان من العناوين الواجبة أو المحرمة أو المستحبة أو المكروهة أو المباحة إذا كان بحثه عن حكمها التكليفي و أما إذا كان بحثه عن حكمها الوضعي فيبحث عن انطباق أي موضوع من مواضيع الأحكام الوضعية عليها فان وجد ذلك فهو و صار عنده شكل أول صغراه موضوعها نفس الشي ء المبحوث عنه و محمولها نفس العنوان المنطبق عليه. و كبراه موضوعها نفس العنوان المنطق عليه و محمولها هو الحكم الثابت لهذا العنوان و هو ينتج النتيجة المطلوبة من ثبوت حكم العنوان للشي ء المبحوث عنه و كأنه يقول المعاطاة بيع و كل بيع يجب الوفاء به فالمعاطاة يجب الوفاء بها. و إذا رأى ان هناك عنوانا يحمل على تلك الواقعة و ذلك العنوان يسلب عنه الحكم التكليفي أو الوضعي صار عنده شكل ثانٍ يثبت مطلوبه كأن يقال هذا أمر اعتبر في خارج المعاملة و لا شي ء من الشروط بمعتبر خارج المعاملة فهذا ليس بشرط أو يقال هذا لازم إتيانه و لا شي ء من المحرم بلازم إتيانه فهذا ليس بمحرم و هكذا الحال يقال في باقي الإشكال هذا على طريقة أهل المنطق.

التقسيم على طريقة أهل الفقه

و أما على طريقة الفقهاء فنقول بعد أن تعين الواقعة و المسألة و ينظر هل هناك نص صريح من الكتاب المجيد أو الحديث المعتبر أو دليل عقل قطعي على حكمها أو إجماع كاشف عن رأي المعصوم فيها أو سيرة من المسلمين أو المتدينين على حكمها مع عدم ردع المعصوم عنها فان لم يجد فيفحص عن ظهور آية كريمة أو رواية معتبرة تدل على حكمها و

لو بنحو العموم أو الإطلاق أو التعليل أو المفهوم فإذا ظفر بذلك عمل به بعد تفحصه عن عدم الموهن له كالناسخ أو المخصص أو المقيد أو المعارض أو خروج الأكثر فان وجده أخذ بمقتضاه و ان لم يجد الدليل على حكمها مما ذكرناه رجع للأصول الشرعية و إلا رجع للأصول العقلية و ان شئت زيادة توضيح فانظر ما ذكرناه في المعاملات المصرفية و التأمين على الحياة في مجمع البحوث الإسلامية و نحوها.

و الحاصل انه ينبغي ان يذكر في صدر كتب الفقه كيفية الاستدلال على مسائله و لعل من ذكر في صدر مهمات علم الأصول مقصودة معرفة كيفية الاستدلال للقارئ على مسائله المستحدثة أو لمسائله المشكلة فيكون قد ذكر النحو الأول من أنحاء التعليم و هو التقسيم.

باب مدينة العلم، ص: 133

النحو الثاني من أنحاء التعليم التحليل في علم الفقه

اشارة

النحو الثاني من أنحاء التعليم هو التحليل و يعنون به بيان كيفية اصلاح الدليل على المسألة فانه كثيراً ما يذكر لمسألة العلم دليلًا منتجاً للمطلب لكن لا على هيئات الأقيسة المنطقية أو ليس على كيفيات أدلة ذلك العلم لتسامح المؤلف أو لاعتماده على وضوح رجوع الدليل للبرهان المنتج أو رجوعه للدليل المعتبر في ذلك العلم.

طريقة التحليل على المنطقيين

و التحليل على طريقة المنطقيين هو ان تأخذ المسألة المقام عليها الدليل و تنظر إلى الدليل الذي ذكر عليها فان كان فيه مقدمات تشارك المسألة بكلا جزئيها فالقياس استثنائي لما تقرر في محله من ان النتيجة إذا كانت مذكورة في القياس بمادتها و هيئتها فهو استثنائي و ان كان فيه مقدمة تشارك المسألة بأحد جزئيها فالقياس اقتراني و إذا أردت معرفة انه من أي أقسام الاقتراني فانظر إلى ذلك الجزء المشترك فان كان محكوما عليه في المسألة المطلوبة فتلك القضية المذكورة في الدليل المشتملة على ذلك الجزء تكون صغرى و ان كان محكوما به فهي كبرى ثمّ ضم الجزء الآخر من المسألة المطلوبة إلى الجزء الآخر من تلك القضية فان تألفا على شكل من الأشكال الأربعة بأن كان ما انضم إلى جزئي المسألة هو الحد الأوسط لتكرره في القياس كان الدليل المنتج لها من الشكل الأول. إذا كان المتكرر المذكور محمولا في الصغرى و موضوعا في الكبرى و أما إذا كان محمولا في كليهما فهو الثاني أو موضوعا في كليهما فهو الثالث أو موضوعا في الصغرى و محمولا في الكبرى فهو الرابع كما لو قلنا النبيذ حرام لأنه مسكر فانه نضُم النبيذ إلى المسكر فنقول كل نبيذ مسكر ثمّ نضم المسكر إلى الحرام فنقول و كل مسكر حرام فصار الدليل

المذكور شكلا أولا و يصير شكلا أولا و يصير شكلا بسيطا إذا كانت الصغرى و الكبرى من القضايا البديهية و أما إذا كانت نظرية غير مسلّمة احتاج القياس إلى القياس الآخر يثبتها فان كان ذلك القياس الآخر مقدماته أيضاً غير مسلمة احتاج إلى قياس آخر إلى أن يصل الأمر إلى قياس بديهي مسلم و يسمى القياس المحتاج إلى الأقيسة بالقياس المركب و أما إذا لم يصل الأمر إلى ذلك فالدليل يكون فاسداً مردوداً هذا على طريقة أهل المنطق.

القياس المركب عند المنطقيين

هذا و لتكن على خبرة من ان القياس المركب يرجعه المنطقيون إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا إن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدا.

الأقيسة المفصولة و الموصولة

و بقيت الأقيسة التي تألفت لبيان مقدمات ذلك القياس تسمى مفصولة إذا صرح فيها بنتائجها و موصولة إذا لم يصرح و أحيانا قد تحذف بعض مقدمات القياس اعتماداً على وضوحها و يسمى بالقياس المضمر.

القياس المضمر

و طالما نحتاج هذا النحو من التعليم المسمى بالتحليل في بعض أدلة المسائل الفقهية حيث انها في الغالب تكون ناقصة فلا بد من البحث عن إتمامها ليصح الاستنتاج منها كأن

باب مدينة العلم، ص: 134

يقول الفقيه ان الحكم كذا للخبر الفلاني فلا بد لمن يرى حجية الخبر الواحد إذا كان صحيحا ان يبحث عن سند الخبر فان وجده صحيحا صحت الاستفادة منه و إلا فلا.

التحليل على طريقة الفقهاء

و أما التحليل على طريقة الفقهاء فهو ان يرجع الدليل المذكور فيها إلى أحد الأدلة الأربعة و هي الكتاب و السنة و الإجماع و العقل و ان لم يرجع إليها ارجع إلى الأصول العملية المعتبرة و إلا فيطرح فلو استدل على المسألة بالسيرة فهي ترجع لتقرير المعصوم الذي هو من السنة و لو تمسك بالخبر ارجع للسنة المعتبرة و إلا فيطرح و لو تمسك بالأصل ارجع للأصل المعتبر و إلا فيطرح و طالما ارجعنا بعض الأدلة الفقهية إلى أقيسه منطقية خصوصا ما إذا كان الدليل يرجع للتمسك بقاعدة كلية أو بالعقل عليها فان التفكير العقلي الاستنتاجي لا محالة يرجع الأقيسة المنطقية و إلا لكان عقيماً غير منتج بل حتى النقلي يرجع إليها. و هذا النحو من أنحاء التعلم لم يذكره الفقهاء في صدر كتبهم اعتماداً على علم الأصول فانه بمعرفته يعرف ذلك و بعضهم يذكره لمباحث الأصول في صدر كتابه يعلم منه ذلك.

النحو الثالث من أنحاء التعليم التحديد في علم الفقه

اشارة

النحو الثالث من أنحاء التعليم هو التحديد و هو بيان كيفية صنع التعريف فان الكثير من موضوعات مسائل العلم أو محمولاتها و ما يتعلق بها تكون غير بديهية التصور تحتاج إلى التعريف فيذكرون في صدر الكتب كيفية صنع التعريف للأمور المستعملة فيه غير البديهية ليسهل على أرباب العلم تعريفها.

كيفية اقتناص العلم

قال شارح المطالع اعلم ان اقتناص العلم بأجناس الماهيات المتحققة و فصولها و عرضياتها في غاية الصعوبة و أما بالقياس إلى المعاني المعقولة الوضعية فسهل لأنا إذا تعقلنا معاني و وضعنا لجملتها أسماء كان القدر المشترك منها جنسا و القدر المميز فصلا و الخارج عنها عرضا انتهى.

الطريق لمعرفة تعريف الشي ء

و كيف كان فإذا أردت تعريف شي ء فلا بد ان تضع ذلك الشي ء و تطلب جميع ما هو أعم منه مما هو يحمل عليه بواسطة أو بغيرها و تطلب جميع ما هو مساوٍ له مما هو يحمل عليه بالواسطة أو بغيرها و تميز الذاتي منها عن العرضيات بأن تعد ما هو بيّن الثبوت له و ما يلزم من مجرد ارتفاعه ارتفاع نفس الماهية ذاتياً و ما ليس كذلك عرضياً أو غير ذلك من مميزات الذاتيات عن العرضيات و قد ذكرناها في كتابنا نقد الآراء المنطقية و عند ذا تعرف جنسه و هو الأعم الذاتي و تعرف فصله و هو المساوي الذاتي و تعرف عرضه العام و هو الأعم العارض و تعرف خاصته و هو المساوي العارض فتركب أي قسم شئت من أقسام المعرِّف و تلاحظ الشرائط المعتبرة فيه المذكورة في باب المعرِّف.

ثمّ ان أرباب العلم قد ذكروا غالبا تعريف كل ما أخذ في المسألة من الأمور النظرية عند التعرض لها و إنما نحتاج إلى التحديد في ما لو أخذ في المسألة من الأمور غير الواضحة

باب مدينة العلم، ص: 135

و لم يعرّفوها أو عرّفوها و لكن لم تحصل القناعة بصحة تعريفهم فذكر التحديد في صدر الكتب إنما ينفع في مثل ذلك هذا.

و لكن بعض الفقهاء اكتفوا في مقام التعريف بالترجمة و التفسير اللفظي و انه هو الذي

يحتاج إليه في قراءة العلوم المدوّنة و الكتب المقررة و ان جميع تعاريف العلوم كذلك فلا يحتاج أتعاب النفس بما ذكر فالتعرف اللفظي هو الذي يستخدم في العلوم.

دعوى صاحب الكفاية ان التعاريف لفظية و الرد عليه

و قد استراح صاحب الكفاية" رحمه اللّه" و غيره فلم يتعب نفسه في التعاريف و ادعى إنها لفظية.

و لكن ذلك لا وجه له فان التعاريف في العلوم لو كان المقصود بها ذلك لما أورد بعضهم على بعض بعدم الاطراد و بعدم الانعكاس و العدول إلى تعريف آخر و أما في علم الفقه فالحاجة إلى التعريف واضحة لأن موضوعات مسائله يلزم تشخيصها ليعرف سعة أحكامها و ضيقها و لذا ترى الفقهاء اتعبوا أنفسهم في تعريف الغناء و نحوه و قد استثنى الفقهاء و النحويون و نحوهم عن ذكر كيفية التعريف للموضوعات مسائل الفقه و محمولاته بتعريفهم لها في كل مسألة من مسائله.

النحو الرابع من أنحاء التعليم البرهان و هو الطريق إلى الوقوف على الحق في علم الفقه

اشاره

النحو الرابع من أنحاء التعليم هو البرهان و يعنون به بيان كيفية الطريق إلى الوقوف على الحق في مسائل العلم و ذلك بأن يؤخذ دليلها مع ملاحظة شرائط الصحة فيه من الضروريات الست الأوليات و المشاهدات و الفطريات و الحدسيات و المتواترات و التجريبات أو ما يحصل منها بقياس صحيح و لا يعتمد في معرفة مسائل العلم بأخذ المشهورات و المسلّمات أو المشتبهات في دليلها فانه طالما وقع العلماء في الخطأ بواسطة عدم تفحصهم عن الضروريات و حسن ظنهم بالمسموعات.

كيفية الوصول إلى الحق في العقليات

فمن أراد الوصول إلى الحق ان يخلي نفسه عن ذلك و يجرد نفسه عن التعصب و حب الغلبة ليحضَى بنعيم اليقين و يظفر بالحق المبين هذا في العلوم العقلية.

كيفية الوصول إلى الحق في النقليات

و أما العلوم النقلية كالفقه و النحو فللظفر بالواقع و الوصول إلى الحق فيه عليه ان يعتمد على الأدلة النقلية الصحيحة و يبالغ في الفحص عن الحقيقة و يصفي نفسه عن شوائب الأوهام و يحيط بالأدلة المرتبطة بالمقام بعد ان يحرز في نفسه القدرة الكافية و الملكة الوافية لا سيما في العلوم الشرعية فانه لا بد من التمسك في معرفتها بالسبب الأقوى و العروة الوثقى حتى يكون حكمه هو الواقع و الأحرى.

باب مدينة العلم، ص: 136

التوسل بالله في انكشاف الواقع

و عليه التوسل بالله و الدعاء من اللّه لانكشاف الواقع له فانه عز و جل افضل من دعي و احسن من أجاب و طالما عسرت عليّ بعض الموضوعات فكنت آخذ الكتاب و اذهب للحرم المقدس مستجيراً بمولاي أمير المؤمنين" عليه السلام" لفهم المسألة وحل مشكلها فأظفر بما أريد لله الحمد و الشكر.

المطلب الحادي عشر: بيان شرف العلم عموماً و فضيلته كلية و بيان شرف علم الفقه بالخصوص

اشارة

من الأمور التي تذكر قبل الشروع في العلم بيان شرفه و جلالة قدره و عظيم منزلته و علو درجته و رفعة مقامه ليعرف قدره و يطلع على فضيلته و يوفى حقه من الجد في تحصيله و الاعتناء باكتسابه و الرغبة في اقتنائه. و قد عرفت إن أشرفية العلم إنما تكون بموضوعه أو بمعلوماته أو بغاياته و فوائده أو بواضعه. و قبل الخوض في ذلك نذكر ما يدل على شرف العلم في حد ذاته.

ما يدل على شرف العلم في حد ذاته

اشارة

فنقول ان فضيلة العلم و علو منزلته أمر لا يقبل الشك و الريب غير إنا نذكر على سبيل التنبيه ما يدل عليه من جهة العقل و النقل كتاباً و سنة مقتصرين في ذلك على ما يحصل به الغرض المقصود فان استيفاء المقام لا تفي بحقه الأبحر و الأقلام. فنقول قد استولوا عقلا على ذلك.

الدليل العقلي على شرف العلم

(أولًا) ان المعقولات تنقسم إلى جامدة و نامية و لا ريب إن النامي اشرف. ثمّ النامي إلى حساس و غيره و لا شك إن الحساس اشرف. ثمّ الحساس ينقسم إلى عاقل و غير عاقل و لا ريب إن العاقل اشرف. ثمّ العاقل ينقسم إلى عالم و جاهل و لا شك ان العالم اشرف فالعالم اشرف المعقولات.

(و ثانيا) ما نقل عن بعض المحققين ان الأمور على أربعة أقسام قسم يرضاه العقل و لا ترضاه الشهوة و قسم ترضاه الشهوة و لا يرضاه العقل و قسم يرضاه العقل و الشهوة معاً و قسم لا يرضاه العقل و لا ترضاه الشهوة، أما الأول فهو بعض الأمراض و المكاره التي تنفع في الدنيا و أما الثاني فهو المعاصي اجمع و أما الثالث فهو العلم و أما الرابع فهو الجهل. و لا ريب أن ما يرضاه العقل و الشهوة هو افضل من غيره.

(و ثالثا) ابتهاج النفس به و فرحها به و حب استطلاعها لما جهلته تفحصها عما فقدته. فهي طالبة له بصرف طباعها و ناشدة له بجوهر ذاتها.

دلالة الكتاب على شرف العلم

اشارة

و أما دلالة الكتاب على ذلك فهي آيات بينات و نكتفي منها بما في المعالم.

باب مدينة العلم، ص: 137

(الأولى) قوله تعالى في سورة العلق و هي أول ما انزل على نبينا صلى اللّه عليه و آله" في قول اكثر المفسرين اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسٰانَ مٰا لَمْ يَعْلَمْ حيث افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة الايجاد و اتبعه بذكر نعمة العلم فلو كان بعد نعمة الايجاد نعمة أعلى من العلم لكانت اجدر بالذكر.

وجه التناسب بين آيات سورة اقرأ

و قد قيل في وجه التناسب بين الآي المذكورة في صدر هذه السورة المشتمل بعضها على خلق الإنسان من علق و بعضها على تعليم ما لم يعلم انه تعالى ذكر أول حال الإنسان اعني كونه علقةً و هي بمكان من الخساسة و آخر حالة و هي صيرورته عالما و ذلك كمال الرفعة و الجلال فكأنه سبحانه قال كنت في أول أمرك في تلك المنزلة الدّنية الخسيسة ثمّ صرت في آخره إلى هذه الدرجة الشريفة النفيسة و في منية المريد ان هذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره اشرف منه لكان ذكر ذلك الشي ء في هذا المقام أولى و اجدر.

(الثانية) قوله تعالى في سورة الطلاق الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً فانه سبحانه جعل العلم علة لخلق العالم العلوي و السفلي طراً و كفى بذلك جلالة و فخراً.

(الثالثة) قوله سبحانه في سورة البقرة" وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" فسّرت الحكمة ما يرجع

إلى العلم.

(أقول) و قد فسّرت بالفهم و العقل كما فسرت بذلك في الرواية قوله تعالى وَ لَقَدْ آتَيْنٰا لُقْمٰانَ الْحِكْمَةَ و قد فسرت بالقرآن و الفقه كما هو المروي عن أبي عبد اللّه" عليه السلام".

(الرابعة) قوله تعالى في سورة الزمر هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.

(الخامسة) قوله تعالى في سورة فاطر إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ أقول و عن مجمع البيان عن الصادق" عليه السلام" انه قال يعني بالعلماء من صدق قوله فعله و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم.

باب مدينة العلم، ص: 138

(السادسة) قوله تعالى في سورة المجادلة يَرْفَعِ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ.

دلالة السنة على شرف العلم

اشارة

و أما السنة فهي في ذلك كثيرة لا تكاد تحصى.

(منها) الحسن أو الموثق الذي لا يقتصر عن الصحيح في الكافي و عن آمالي الصدوق و عن ثواب الأعمال و في بصائر الدرجات عن أبي عبد اللّه" عليه السلام" قال قال رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللّه به طريقاً إلى الجنة و ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضىً به و انه ليستغفر لطالب العلم من في السموات و الأرض حتى الحوت في البحر و فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر و ان العلماء ورثة الأنبياء و ان الأنبياء لم يورثوا دينارا و لا درهما و لكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر و قد روى هذا الحديث الشهيد الثاني" رحمه اللّه" في المنية عن كثير بن قيس قال كثير بن قيس: كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل

فقال يا أبا الدرداء إني أتيتك من المدينة مدينة الرسول" صلى اللّه عليه و آله" لحديث بلغني عنك انك تحدثه عن رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" قال فما جاء بك تجارة قال لا فقال و لا جاء بك غيره قال لا ثمّ قال سمعت رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" يقول من سلك طريقاً الحديث ثمّ ان الشهيد" رحمه اللّه" بعد ان ذكر الحديث المذكور قال:

القصة التي تدل على شرف العلم

و اسند بعض العلماء إلى أبي يحيى بن زكريا بن يحيى الساجي انه قال كنا نمشي في ازقة البصرة إلى باب بعض المحدثين فاسرعنا في المشي و كان معنا رجل ماجن فقال ارفعوا ارجلكم عن اجنحة الملائكة كالمستهزئ فما زال عن مكانه حتى جفت رجلاه.

و اسند أيضاً إلى أبي داود السجستاني انه قال كان في أصحاب الحديث رجل خليع إلى ان سمع بحديث النبي" صلى اللّه عليه و آله" ان الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم فجعل في رجليه مسمارين من حديد و قال أريد أن أطأ أجنحة الملائكة فاصابته الآكلة في رجليه و ذكر أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل التميمي هذه الحكاية في شرح مسلم و قال فشلت رجلاه و سائر اعضائه.

(و منها) ما في آمالي الصدوق عن الأصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب" عليه السلام" تعلّموا العلم فان تعلمه حسنة و مدارسته تسبيح و البحث عنه جهاد و تعليمه من لا يعلم صدقة و هو عند اللّه لأهله قربة لأن معالم الحلال و الحرام و سالك بطالبيه سبيل الجنة و هو أنيس في الوحشة و صاحب في الوحدة و سلاح على الأعداء و زين الأخلاء يرفع اللّه به أقواماً

يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم و ترمق أعمالهم و تقتبس آثارهم و ترغب الملائكة في

باب مدينة العلم، ص: 139

خلتهم يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم لأن العلم حياة القلوب من الجهل و نور الابصار من العمى و قوة الأبدان من الضعف ينزل اللّه حامله منازل الأبرار و يمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا و الآخرة و بالعلم يطاع اللّه و يعبد و بالعلم يعرف اللّه و يوحّد و بالعلم توصل الأرحام و به يعرف الحلال و الحرام و العلم إمام العقل و العقل تابعه يلهمه السعداء و يحرمه الاشقياء. و روي عن الخصال إلا ان فيه مكاناً (عند اللّه لأهله) بذله لأهله و في آمالي الشيخ عن الرضا" عليه السلام" ما يقرب منه.

(و منها) ما في الكافي و بصائر الدرجات عن أبي عبد اللّه" عليه السلام" قال: قال رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة إلا ان اللّه يحب بغاة العلم.

أقول لقد تواتر عن طرق الخاصة و العامة قول رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة. و البغاة (بالضم) جمع باغ أي طالب.

ما استدل به على نفي التكليف بالفروع للكفار

و قد يستدل بهذا الحديث على نفي التكليف بالفروع للكفار و إلا لكان طلب العلم فريضة عليهم و لا يختص بالمسلم و المسلمة.

و جوابه ان هذا يتم لو قلنا بأن للقب مفهوماً بأن يدل على الانتفاء عند الانتفاء.

هذا و بعضهم فسر العلم بعلم الحال أي العلم المحتاج إليه في الحال. و لعله نزله على ما قيل افضل العلم علم الحال و افضل العمل حفظ المال و عليه فتكون (ال) للعهد الحضوري و لعله إليه يرجع تفسير

الشهيد الثاني" رحمه اللّه" بالعلم الذي هو فرض عيناً.

(و منها) ما في الكافي عن أمير المؤمنين" عليه السلام" انه يقول أيها الناس اعلموا ان كمال الدين طلب العلم و العمل به ألا و ان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، ان المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم و ضمنه و سيبقى لكم و العلم مخزون عند أهله و قد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه.

(و منها) ما في الكافي عن علي بن الحسين" عليه السلام" قال لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه و لو بسفك المهج و خوض اللجج ان اللّه تبارك و تعالى أوحى إلى دانيال ان أمقت عبيدي اليّ الجاهل المستخف بحق العلم التارك للاقتداء بهم و ان احب عبيدي اليّ التقي الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحكماء و القابل من الحكماء.

أقول هذا و دانيال" عليه السلام" هو صاحب الاستخارة المنقولة عن خط الشهيد" رحمه اللّه" في كشكول البهائي و غيره و قد جربتها و وجدت فيها الصحة عند إخلاص النية فقد روي عنه انه قال إذا أراد أحد ان يعلم حاجته تقتضي أم لا فليضمر حاجته و ليقبض على شي ء من الحب و يأخذ ثمان ثمان فان بقي في يده واحدة فالحاجة مقضية و ان بقي اثنان فغير مقضية و ان بقي ثلاثة فغير مقضية و ان بقي أربع فغير مقضية و ان بقي خمس تقضى سريعاً و ان بقي ست تقضى و ان بقي سبع تقضى حسناً و ان بقي ثمان فلا تتعرض لها بوجه.

باب مدينة العلم، ص: 140

(و منها) ما في الكافي في الصحيح عن أبي جعفر" عليه السلام" قال عالم ينتفع بعلمه افضل

من سبعين ألف عابد.

(و منها) ما في من لا يحضره الفقيه بسنده إلى أبي عبد اللّه" عليه السلام" قال إذا كان يوم القيامة جمع اللّه عز و جل الناس في صعيد واحد و وضعت الموازين فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء.

(و منها) و ما عن تفسير علي بن إبراهيم قال النبي" صلى اللّه عليه و آله" إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له و قد روى بهذا المعنى عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" بطرق ثلاثة ابن عبد البر.

(و منها) ما في الكافي عن معاوية بن عمار قال قلت لأبي عبد اللّه" عليه السلام" رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس و يشدده في قلوبهم و قلوب شيعتكم و لعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما افضل قال الراوي لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا افضل من ألف عابد.

(و منها) ما روي عن أمير المؤمنين" عليه السلام" إنما مثل العالم كمثل النخلة تنتظرها متى يسقط منها عليك شي ء و العالم اعظم اجراً من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه و إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شي ء إلى يوم القيامة.

(و منها) ما في نهج البلاغة و رواه الصدوق" رحمه اللّه" بسنده إلى كميل بن زياد النخعي: (قال ابن عبد البر الأندلسي المتوفي سنة 463 ه و هو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني عن الاسناد عندهم) قال كنت مع أمير المؤمنين" عليه السلام" في مسجد الكوفة و قد صلينا العشاء الآخرة فاخذ بيدي حتى خرجنا من المسجد فمشى حتى خرج إلى ظهر

الكوفة لا يكلمني بكلمة فلما أصحر تنفس الصعداء ثمّ قال يا كميل ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها احفظ عني ما أقول لك. الناس ثلاثة عالم رباني و متعلم على سبيل نجاة و همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم و لم يلجئوا إلى ركن وثيق يا كميل، العلم خير من المال العلم يحرسك و انت تحرس المال. و المال تنقصه النفقة و العلم يزكو على الانفاق و صنيع المال يزول بزواله يا كميل العلم دين يدان اللّه به. به يكتسب الناس الطاعة في حياته و جميل الاحدوثة بعد وفاته و العلم حاكم و المال محكوم عليه يا كميل هلك خزان الأموال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقي الدهر اعيانهم مفقودة و أمثالهم في القلوب موجودة آه آه. ها أن هاهنا (و أشار بيده إلى صدره" عليه السلام") لعلماً جماً لو أصبت له حملة بلى أصبت له لقناً غير مأمون عليه يستعمل الدين آلة في الدنيا و يستظهر بحجج اللّه على خلقه و بنعمته على عباده أو منقاداً لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهةٍ. ألا لا ذا و لا ذاك أو منهوما باللذات سلس القيادة للشهوات أو مغرياً بالجمع و الادخار ليسا من رعاة الدين في شي ء اقرب شبهاً بالانعام السائمة كذلك يموت العلم بموت حامليه الحديث. و مما ينسب لأمير المؤمنين" عليه السلام":

ما الفصل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى إدلاء

و مما ينسب له أيضاً:

رضينا قسمة الجبار فينا لنا علم و للاعداء مال

باب مدينة العلم، ص: 141

فان المال بالانفاق يفنى و ان

العلم باقٍ لا يزال

و مما يدل على شرف العلم قوله" عليه السلام" قيمة كل امرئ ما يحسنه.

قال الجاحظ في كتاب البيان و التبيين عند ذكر هذه الكلمة لو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها فاضلة عن الكفاية غير مقصرة عن الغاية.

نظم الخليل لكلمة مولانا أمير المؤمنين" عليه السلام"

و قد أخذ هذه الكلمة الخليل فنظمها شعراً فقال:

لا يكون العي مثل الدني لا و لا ذو الذكاء مثل الغبي

قيمة المرء قدر ما يحسن المرء قضاء من الإمام علي

ما في مدارك النهج لجدي" رحمه اللّٰه"

و في مدارك النهج لجدي الهادي" رحمه اللّٰه" ناسباً له لبعض الشعراء نقلا عن السدي:

قولُ: علي ابن أبي طالب و هو الإمام العالم المتقن

كل امرئ قيمته عندنا و عند أهل الفضل ما يحسن

ما في كشكول جدي الهادي

و في كشكول جدي الهادي" رحمه اللّٰه" عن الحدائق الوردية.

و روي عن الجاحظ قال صنفت ألف كتاب ما سمعت بكلمة إلا أتيت بنظائرها إلا تسع كلمات لأمير المؤمنين" عليه السلام" ثلاث في المناجاة (الهي كفى لي فخفراً ان تكون لي رباً و كفى لي عزاً ان اكون لك عبداً الهي أنت كما احب فاجعلني كما تحب).

و أما التي في الحكمة فقوله (استغن عمن شئت تكن نظيره و ارغب إلى من شئت تكن اسيره و تفضل على من شئت تكن أميره). و أما اللاتي في الأدب فقوله (قيمة المرء ما يحسنه و المرء مخبوء تحت لسانه و ما هلك امرء عرف قدره) و في رواية أخرى مخبوء تحت لسانه لا طيلسانه.

و روى العلامة الحلي في تحريره عن رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" انه قال الأنبياء قادة و العلماء سادة و مجالستهم عبادة. و قال النظر في وجه العالم عبادة. و قال اللهم ارحم خلفائي قيل يا رسول اللّه و من خلفائك قال الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سنتي و من اكرم فقيها مسلماً لقي اللّه يوم القيامة و هو عنه راضٍ.

شرف علم الفقه

اشارة

ما تقدم كان بشرف العلم بنحو العموم و أما شرف علم الفقه بالخصوص فقد عرفت فيما سبق في بيان أقسام السبق و في بيان موجبات تقدم العلوم بعضها على بعض إن التقدم بالشرف للعلوم إنما يكون بأشرفية موضوعاتها أو معلوماتها أو غاياتها و فوائدها أو بواضعها و مدوّنها و قد شاع بين الفقهاء قبل الشروع في العلم بيان شرفه و علو منزلته. ليعرف قدره فيوفى حقه من الجد في تحصيله و الرغبة في اقتنائه و لا ريب ان علم الفقه بعد

علم الكلام أشرف العلوم من جهة معلوماته لأنها أحكام اللّه تعالى لعباده و أرادته عز و جل من خلقه و شرفه من جهة غايته و فوائده و هي تنظيم الحياة البشرية و كمال الإنسانية و الفوز بالسعادتين و نيل خير النشأتين و من جهة الواضع له فان الواضع له هو أمير المؤمنين" عليه السلام" كما سيجي ء إن شاء اللّه نعم علم الكلام يفوق علم الفقه بموضوعية إذا قلنا بأن موضوع علم الكلام هو ذات اللّه تعالى لأنه يبحث فيه عن صفاته الثبوتية و السلبية و ان كان في علم الكلام قد أفتى الكثير

باب مدينة العلم، ص: 142

بحرمته و اظهر الكثير من السلف كراهته. و كيف كان فيكفي دليلًا على شرف علم الفقه و عظيم منزلته أخبار كثيرة.

(منها) ما رواه في الكافي بسنده إلى أبي الحسن موسى" عليه السلام" قال دخل رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال من هذا فقيل علّامة فقال و ما العلامة فقالوا له اعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها و أيام الجاهلية و الاشعار العربية قال فقال النبي" صلى اللّه عليه و آله" ذاك علم لا يضر من جهله و لا ينفع من علمه ثمّ قال النبي" صلى اللّه عليه و آله" إنما العلم ثلاثة آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة و ما خلا فهو فضل.

تفسير حديث إنما العلم ثلاثة آية محكمة الحديث

اشارة

قال في الوافي كأن الآية المحكمة اشارة إلى أصول العقائد فان براهينها الآيات المحكمات من العالم أو من القرآن في غير موضع (ان في ذلك لآيات أو لآية) حيث يذكر دلائل المبدأ و المعاد. (و الفريضة العادلة) اشارة إلى علوم الأخلاق التي محاسنها من

جنود العقل و مساوئها من جنود الجهل فان التحلي بالأول و التخلي عن الثاني فريضة و عدالتها كناية عن توسطها بين طرفي الافراط و التفريط. (و السنة القائمة) اشارة إلى شرائع الأحكام و مسائل الحلال و الحرام.

و انحصار العلوم الدينية في هذه الأمور الثلاثة معلوم و هي منطبقة على النشئات الثلاث للإنسانية فالأولى على عقله و الثانية على نفسه و الثالثة على بدنه بل على العوالم الثلاثة الوجودية التي هي علم العقل و الخيال و الحس و ما عدا ذلك فهو فضل زائد لا حاجة إليه أو فضيلة و لكنها ليست بتلك المرتبة.

تفسير السيد الداماد للحديث المذكور

و عن السيد الداماد علم الآية المحكمة هو العلم النظري الذي فيه المعرفة بالله سبحانه و بحقائق مخلوقاته و مصنوعاته و بأنبيائه و رسله و بحقيقة الأمر في البدء منه و العود إليه و هذا هو الفقه الأكبر. و علم الفريضة العادلة هو العلم الشرعي الذي فيه المعرفة بالشرائع و السنن و القواعد و الأحكام من الحلال و الحرام و هذا هو الفقه الأصغر. و علم السنة القائمة هو علم تهذيب الأخلاق و تكميل الآداب بالسفر من اللّه و السير إليه و تعَّرُّف المنازل و المقامات و التبصرة بما فيها من الملهمات و المنجيات.

و قال شارح المعالم ملا صالح" رحمه اللّه" كأن الأول إشارة إلى العلم بالكتاب و الأخير إلى العلم بالأحاديث.

و الوسط و هو (فريضة عادلة) أي مستقيمة إلى العلم بكيفية العمل بالأحكام و المراد باستقامتها اشتمالها على جميع الأمور المعتبرة شرعا في تحققها.

(منها) ما في الكافي بسنده عن سفيان قال سمعت أبا عبد اللّه" عليه السلام" يقول وجدت علم الناس كله في أربعة أولها ان تعرف ربك و الثاني ان

تعرف ما صنع بك و الثالث ان تعرف ما أراد منك و الرابع ان تعرف ما يخرجك عن دينك. و المراد بالأول هو معرفة ذات اللّه

باب مدينة العلم، ص: 143

و صفاته و أفعاله. و المراد بالثاني هو معرفة ما انعم به عليك من نعمه الظاهرة و الباطنة. و المراد بالثالث الواجبات و المستحبات. و المراد بالرابع هو المحرمات و المكروهات.

(منها) ما في الكافي بسنده إلى أبي عبد اللّه" عليه السلام" الكمال كل الكمال التفقه في الدين و الصبر على النائبة و تقدير المعيشة.

ما يورد على الاستدلال بهذه الرواية

و قد يورد على الاستدلال بهذه الرواية و نظيرها مما اشتمل على لفظ الفقه و الفقيه بأن المراد بالفقه فيها ليس هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية لأنه معنى مستحدث و لا المراد به الفهم بل المراد به كما عن الشيخ البهائي هو البصيرة في الدين و الفقيه هو صاحب هذه البصيرة و إليها أشار النبي" صلى اللّه عليه و آله" بقوله لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات اللّه و يرى للقرآن وجوهاً كثيرة ثمّ يقبل على نفسه فيكون لها اشد مقتاً و إليه أشار الإمام الرضا" عليه السلام" بقوله ان من علامات الفقيه الحلم و الصمت.

و جوابه انه ليس غرضنا ان الأخبار يراد بها المعنى الاصطلاحي للفقه كما نسب لبعض المحدثين و إنما غرضنا انها تدل على شرفية الفقه باعتبار ان لفظ الفقه فيها يشمل علم الفقه فان البصيرة في الدين تشمل العقائد الدينية و معرفة الأحكام الشرعية عن تقليد أو عن أدلة تفصيلية. فالاستدلال بها و لو باعتبار عمومها لعلم الفقه عموما قريباً.

(منها) ما في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه" عليه

السلام" إذا أراد اللّه بعبد خيراً، فقهه في الدين.

(منها) ما في من لا يحضره الفقيه و المروي في الكافي بطريقين أحدهما موثق و الآخر صحيح بسنده إلى أبي عبد اللّه" عليه السلام" ما من أحد يموت من المؤمنين احب إلى ابليس من موت فقيه.

(منها) الحسن في الكافي بسنده إلى أبي عبد اللّه" عليه السلام" إذا مات المؤمن الفقيه ثلم الإسلام ثلمة لا يسده شي ء. و ما رواه في الكافي بسنده عن أبي الحسن موسى بن جعفر" عليه السلام" إذا مات المؤمن الفقيه بكت عليه الملائكة و بقاع الأرض التي كان يعبد اللّه عليها و أبواب السماء التي كان يصعد فيها باعماله و ثلم الإسلام ثلمة لا يسدها شي ء لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصون سور المدينة.

(منها) ما عن الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه" عليه السلام" تفقهوا في الدين فانه من لم يتفقه في الدين فهو أعرابي ان اللّه تعالى يقول في كتابه ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.

معنى الاعرابي

و أراد" عليه السلام" بالاعرابي هو النسبة إلى الأعراب الذين نعتهم اللّه تعالى في كتابه المجيد الْأَعْرٰابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفٰاقاً وَ أَجْدَرُ أَلّٰا يَعْلَمُوا حُدُودَ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ و الأعراب صيغة جمع و ليس له مفرد و لذا نسب إليه و ليس بجمع للعرب لأنه بينهما عموم من وجه لصدق الأعراب على سكان البادية دون المدن و ان لم يكونوا من العرب و لذا يقال رجل أعرابي لساكن البادية و ان لم عربيا. و العرب من كان لغته لغة العرب و ان سكن المدن و لذا يقال رجل عربي و ان لم يسكن البادية و لا يقال له أعرابي و

هذا نظير عجم و أعجم فانه يقال رجل أعجم و أعجمي على

باب مدينة العلم، ص: 144

من كان في لسانه لكنة و ان كان من العرب و لا يقال له أعجمي و يقال رجل عجمي لمن ليس لغته عربية و ان كان فصيحاً في لغته و لا يقال له أعجمي و بهذا تعرف فساد من خص لفظ (الأعراب) بالعرب.

الفقيه حقاً

(منها) ما في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه" عليه السلام" قال قال أمير المؤمنين" عليه السلام" أ لا اخبركم بالفقيه من لم يقنط الناس من رحمة اللّه و لم يؤمنهم من عذاب اللّه و لم يرخّص لهم في معاصي اللّه و لم يترك القران رغبة عنه إلى غيره. إلا لا خير في علم ليس فيه تفهّم. ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها. ألا لا خير في نسب لا ورع فيه. و يؤكد هذا الحديث قوله تعالى يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لٰا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ و قوله تعالى لٰا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكٰافِرُونَ و قوله تعالى أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللّٰهِ فَلٰا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخٰاسِرُونَ.

وصية الأمير" عليه السلام" لابنه محمد

و عن الخصال قال أمير المؤمنين" عليه السلام" في وصيته لابنه محمد اعلم ان مروّة المرء المسلم مروّتان مروّة في الحضر و مروّة في السفر أما مروة الحضر فقراءته القرآن و مجالسة العلماء و النظر في الفقه و المحافظة على الصلاة في الجماعات و أما مروّة السفر فبذل الزاد و قلة الخلاف على من صحبك و كثرة ذكر اللّه عز و جلّ في كل مصعد و مهبط و نزول و قيام و قعود. و عن عوالي اللئالي قال رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" لكل شي ء عماد و عماد هذا الدين الفقه.

العلوم أربعة

و عن الجواهر للكراجكي ان أمير المؤمنين" عليه السلام" قال العلوم أربعة الفقه للأديان و الطب للأبدان و النحو للسان و النجوم لمعرفة الازمان.

العلماء بعد الغيبة

و عن تفسير الإمام" عليه السلام" و الاحتجاج بالاسناد عن أبي محمد" عليه السلام" قال قال علي بن محمد" عليه السلام" لو لا من يبقى بعد غيبة قائمنا من العلماء الداعين إليه و الدالين عليه و الذابين عن دينه بحجج اللّه تعالى و المنقذين لضعفاء عبد اللّه عن شِباك ابليس و مردته و من فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين اللّه تعالى و لكنهم الذين يمسكون أربعة ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك الأفضلون عند اللّه عز و جل.

المطلب الثاني عشر: في أنواع الكتب الفقهية

اشارة

ان الكتب التي دونت منسوبة للفقه و لو بأدنى مناسبة فان النسبة تصح بأدنى مناسبة بحسب الاستقراء أنواع متفاوتة و أقسام مختلفة قسم منها يشتمل على الأخبار الدالة على الأحكام الشرعية فقط كالكافي و من لا يضره الفقيه و الاستبصار عند الشيعة الاثني عشرية

باب مدينة العلم، ص: 145

و ككتب الصحاح عند أهل السنة و هذا القسم يسمى بكتب الأخبار و الأحاديث و هو كان موضع العناية الشديدة لعلماء الدين على اختلاف طبقاتهم و نزعاتهم باعتبار ان هذا القسم يشتمل على اغلب الأحكام الفقهية و هو بعد القرآن الشريف أهم منهل عذب يستقى منه المعارف الدينية و يسمى ما كان منها مرتبا أحاديثه على أسماء الصحابة بالمسند كمسند احمد فانه يجمع كل ما رواه الصحابي من الأحاديث على حده كأحاديث ابن عباس و غيره.

السنن و المصنفات

و ما كان منها مرتباً على أبواب الفقه يسمى بالسنن و المصنفات يلحق ببعض الأبواب منها باب يسمى بالنوادر و يعنون بالحديث النادر في الاصطلاح على ما ذكره مجمع البحرين هو ما ليس له أخ أو يكون لكنه قليل جداً و يسلم من المعارض و لا كلام في صحته بخلاف الحديث الذي يوصف بالشاذ فانه غير صحيح أو له معارض و قد يطلق كل منهما على الآخر.

و قسم يشتمل على الأحكام الشرعية فقط من دون ذكر الدليل عليها و يسمى هذا القسم بالرسائل العملية و بكتب الفتوى و هي قد تكون بلسان النص من دون ذكر سنده.

الرسائل العملية

كالمقنعة للمفيد و النهاية للشيخ و قد تكون بتعبير المفتي كما هو اغلب الرسائل و منها الشرائع للمحقق و قال جدي الهادي" رحمه اللّه" نقل عن الشيخ السعيد فخر الدين" رحمه اللّه" ان كتاب القواعد مائتان و واحدٌ و أربعون ألف مسألة و كتاب الإرشاد خمسة عشر ألف مسألة و كتاب الشرائع اثنى عشر ألف مسألة و اللّه تعالى اعلم.

آيات الأحكام

و قسم يشتمل على الآيات الدالة على الأحكام الشرعية الفرعية و يسمى هذا القسم بآيات الأحكام و ككتاب قلائد الدرر.

القواعد الفقهية

و قسم يشتمل على ذكر القواعد الفقهية و القاعدة الفقهية عبارة عن الحكم الكلي الفقهي المندرجة تحته فروع مختلفة من باب واحد كقاعدة الطهارة و هي قاعدة (كل شي ء لك طاهر حتى تعلم انه قذر) في باب الطهارة أو في عدة أبواب من الفقه متعددة كقاعدة التجاوز و يسمى هذا القسم بالقواعد و لجدنا كاشف الغطاء" رحمه اللّه" في مقدمة كتابه كشف الغطاء قواعد فقهية دلت على سعة اطلاعه و مقدرته الفنية. و رأيت له كتاباً في القواعد الفقهية قد طبع على هامش كتابه الحق اليقين و قد اهتم الفقهاء بهذه القواعد لما يترتب عليها من تسهيل معرفة الفروع.

باب مدينة العلم، ص: 146

أصول الشريعة

حتى قال بعضهم ان أصول الشريعة قسمان أصول الفقه و القواعد الكلية الفقهية. و قد وضع الشهيد الأول قواعده في الفقه.

أهم القواعد الفقهية

و يقال ان أول من جمع أهم القواعد الفقهية في سبع عشرة قاعدة كلية أبو طاهر الدباس العراقي من علماء القرن الرابع أو الثالث. و كان ضريراً و يكرر تلك القواعد بمسجده بعد خروج الناس منه و اهمها القواعد الخمسة:

1. الأمور بمقاصدها و هي مأخوذة من قوله" صلى اللّه عليه و آله" الأعمال بالنيات.

2. الضرر يزال و هي مأخوذة من قوله" صلى اللّه عليه و آله" لا ضرر و لا ضرار.

3. العادة محكمة و هي مأخوذة من قوله" صلى اللّه عليه و آله" و من يتبع غير سبيل المؤمنين.

4. اليقين لا يزول بالشك و هي مأخوذة من قوله" عليه السلام" لا تنقض اليقين بالشك.

5. المشقة تجلب التيسر و هي مأخوذة من قوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

و يقال أن اقدم مجموعة وصلت إلينا في هذا الموضوع هي قواعد أبي الحسن الكرخي البالغة قواعدها سبع و ثلاثون قاعدة. و في زماننا ألف المرحوم الاستاذ الكبير الحجة السيد ميرزا حسن البيرجندي كتابا في القواعد الفقهية يشتمل على اكثر من أربع مجلدات.

الحيل الشرعية

و قسم يشتمل على الحيل الشرعية و الحيلة الشرعية عبارة عن المخرج الذي يصحح شرعاً ارتكاب الواقعة على خلاف ما يطلبه الشرع فيها بوضعها الطبيعي و يسمى هذا القسم بالحيل الشرعية و يقال ان اقدم كتاب وصل إلينا في هذا الموضوع هو كتاب أبي بكر احمد الخصاف المتوفي سنة 261 ه طبع بالقاهرة سنة 1324 ه اسماه (بالحيل و المخارج) و تجد فصلا في الحيل الشرعية في كتاب الاشباه و النظائر و في كتاب الفتاوي الهندية و الأصل في استعمال الحيل الشرعية قوله تعالى في قصة أيوب وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ

وَ لٰا تَحْنَثْ فانه كان ترخيصا من اللّه تعالى لأيوب في استعمال الحيلة في التخلص من اليمين.

أول من أوجد الحيل الشرعية

و أول من أوجد الحيل الشرعية مدرسة الرأي و اعتنى و اهتم بها المذهب الحنفي و كانت الحيل الشرعية في التخلص من الحلف و اليمين

ثمّ امتدت إلى أبواب الفقه كالوصايا و الوقوف و الربا و لا سيما المواثيق ليتخلص الامراء من ابرامها عليهم. و ينسب لمالك و احمد تحريم الحيل الشرعية و بقي اتباعهما على تحريمها و الشافعي أيضاً كان يحرمها و يبطل التصرف الذي يقصد به الحيلة الشرعية غير ان من اتباعه من ألف فيها كمحمد الصيرفي. و محمد العامري و محمد القزويني.

باب مدينة العلم، ص: 147

مسائل الخلاف

و قسم منها يشتمل على مسائل الخلاف بين السنة و الشيعة كالخلاف للشيخ الطوسي و على مسائل الخلاف بين الشيعة ككتاب المختلف للعلامة الحلي و يسمى هذا القسم بالفقه المقارن.

الفقه المقارن

في اصطلاح المتأخرين و المحكى عن المختلف للعلامة انه أول مصنف ألف في مسائل الخلاف بين الامامية.

الكتب الاستدلالية

و قسم يشتمل على الأحكام الشرعية مع ذكر الأدلة عليها تفصيلا و يسمى هذا القسم بالكتب الفقهية الاستدلالية ككتاب الحدائق و الرياض و الجواهر و كتاب موارد الأنام في شرح شرائع الإسلام لجدي عباس نجل الشيخ علي.

و هذا القسم هو الذي يشتمل على علم الفقه كما ان القسم الأول منها الذي رتب على أبواب الفقه أيضاً يمكن عده من كتب علم الفقه لاشتمالها على حكم المسألة مع الدليل عليه فمجموع الإمام زيد و الموطأ و الصحاح تكون من كتب علم الفقه لاشتمالها على حكم المسألة. مع ذكر الأخبار الدالة عليها فهي تبحث عن العلم بالحكم الشرعي عن دليله. و أما المسانيد فنسبتها لعلم الفقه باعتبار اشتمالها على قسم من أدلة الفقه و هو الأخبار و أما الرسائل العملية فنسبتها للفقه باعتبار اشتمالها على الأحكام التي يبحث عنها علم الفقه و لا ريب ان النسبة تصح لأدنى ملابسة أو لأن النسبة إنما هي للفقه بمعناه عند المتشرعة المتقدم بيانه. و أما القسم الثالث فهو أيضاً يشتمل على علم الفقه باعتبار ان يبحث فيه عن دلالة الكتاب على الحكم الشرعي و الناسخ له و المعارض و المقيد و المخصص له. و أما القسم الرابع و هو كتب القواعد فما كان منه مشتمل على الدليل فهو من علم الفقه و إلا فهو يشبه الرسائل العملية و هكذا كتب الحيل لاشتمالها على الحيل مع الدليل الشرعي و أما القسم الخامس فهو أيضاً من علم الفقه لأنه يبحث عن المسألة الخلافية و يبرهن على ما يختاره فيها فيكون فيه معرفة الحكم الشرعي عن

دليله.

ما كانت عليه كتب الفقه في السابق

ثمّ لا يخفى ان كتب الفقه كانت كلها بنحو الرواية و كانت الفتوى في المسألة تذكر فيها نحو الرواية مع سندها ككتب الصحاح و نحوها مما كتب غالبا في العصور الأولى ثمّ كتبت كتب الفقه بنحو يذكر فيها الرواية من غير تغير في نصها تغيراً واضحا بحذف سندها كرسالة علي بن بابويه إلى ولده الصدوق و المقنع لنفس الصدوق و الهداية له و كثير من فتاوي من لا يحضره الفقيه له و المقنعة للمفيد و النهاية للشيخ الطوسي و هي أجمعها للنصوص و اقرب هذه لنص الرواية المقنع و احسنها تنسيقا و دقة المقنعة و من الكتب القديمة في الفقه و مجموع الشهيد زيد بن علي و الموطأ و كتب محمد بن الحسن الشيباني و كتاب ألام للشافعي ثمّ كثر بعد ذلك الفقه المقارن ثمّ كُتِبت الفتاوي بلسان المفتي و بما أدى إليه رأيه بدون الاستدلال ثمّ عند الشيعة كثرت كثرة تجاوزت الحد كتب الفقه المشتملة على الفتوى مع بيان الاستدلال عليها و كيفية الاستنباط من أدلتها.

باب مدينة العلم، ص: 148

دائرة المعارف الفقهية

و قد كنت في قديم الدهر أفكر في اصدار موسوعة (دائرة معارف فقهية) مرتبة على الحروف الهجائية على غرار دوائر المعارف العلمية و قواميس اللغة العربية ليسهل الظفر بحكم المسألة للفقيه و غيره و باشرت العمل سنة 1359 ه و لكن نظراً لكثرة الاشغال و السؤال عن الأحكام للوقائع لا سيما المستحدثة التي لم تتناولها أقلام الفقهاء و السفر للمؤتمرات أوجب ان اكلف العلامة السيد يوسف الحلو بانجاز هذه المهمة و بالفعل قدمت له الأجزاء بصحائفها البيضاء الكثيرة و السوداء القليلة فأحسن التأليف و أجاد التصنيف و كانت رغبتي منه و طلبي من

عنده ان يرتبها حسب أصول المادة لا حسب التلفظ بها بزوائدها و اللّه الموفق و لعلي ان ساعدني التوفيق الإلهي و العناية الربانية ان أقوم بهذه المهمة و انجزها ليسهل على الطالب المعرفة للمسألة و الاطلاع عليها في الكتب الفقهية. و قد طلب مني شيخ الأزهر حسن مأمون ان أرسل لهم ما ينفعهم في موسوعة جمال عبد الناصر و أرسلت لهم تذكرة العلامة الحلي.

المطلب الثالث عشر: للفقيه مراتب أربعة

لا يخفى ان للفقيه من حيث نفوذ حكمه و رأيه اعتبارات أربعة الاجتهاد و الإفتاء و القضاء و الزعامة و كل مرتبة لاحقة منها تستلزم السابقة عليها و هو بالاعتبار الأول نافذ الرأي في نفسه مطلقا و ان لم يكن عدلا و وجد من هو اعلم منه و اعدل و بالاعتبار الثاني نافذ الرأي على نفسه و على مقلده و لا ينفذ على المجتهد الآخر و بالاعتبار الثالث نافذ الرأي على نفسه و على مقلده و على المجتهد الآخر في المنازعات و الخصومات و بالاعتبار الرابع له نافذ الرأي في الخصومات و المنازعات و النفوس و الأعراض و الأموال بما فيه الصالح العام لتدبير شئون المسلمين و قد اشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا النور الساطع و ذكرنا أحكام الفقيه و وظائفه فيه فراجعه.

المطلب الرابع عشر: طرق إثبات فقاهة الفقيه

ان الطرق التي يثبت بها اجتهاد المجتهد التي ذكرناه مفصلا في الجزء الأول من كتابنا النور الساطع هي بنفسها يثبت بها فقاهة الفقيه. و اصبح أهم أمر هو معرفة نسبه و بيئته و حسن سلوكه في ماضيه و حاضره فكم و كم من دخل في سلك العلماء و هو ليس منهم استعان بالمال و حرم الحلال و احل الحرام في سبيل ان يصبح علماً من الأعلام و مرجعاً للعوام و قد أدرك الاستعمار خطر هذا المنصب الإلهي و المقام الروحاني فأخذ يعمل لأن يجعل له نصيباً منه.

باب مدينة العلم، ص: 149

المطلب الخامس عشر: اهتمام العالم المتحضر بالفقه

«1» لقد اهتم رجال القانون في الدول العالمية الكبرى بالفقه الإسلامي ففي المؤتمر الدولي للقانون المقارن المنعقد في مدينة لاهي سنة 1932 م يعلن الأستاذ لامبير الفقيه الفرنسي تقديره الكبير للفقه الإسلامي كما ان المؤتمر قرر باجماع الآراء اعتبار الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها ليست مأخوذة من غيرها و انها حية صالحة للتطور و انها مصدر من مصادر التشريع العام. و في مؤتمر المحامين الدولي المنعقد في لاهاي سنة 1948 م الذي اشتركت فيه ثلاثة و خمسون دولة جاء في قراراته الطلب من اتحاد المحامين الدولي القيام بالدراسة المقارنة للتشريع الإسلامي معترفة بما في هذا التشريع من مرونة و أهمية و جاء فيها أيضاً:

1. اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع.

2. اعتبارها حية صالحة للتطور.

3. اعتبارها قائمة بذاتها غير مأخوذة عن غيرها.

و في المؤتمر الذي عقدته شعبة الحقوق الشرقية في كلية الحقوق من جامعة باريس في سنة 1951 م للبحث في الفقه الإسلامي تحت عنوان (أسبوع الفقه الإسلامي) برئاسة (المسيو ميو) اتخذت في ختامه القرار بالاتفاق على ان مبادي الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية

تشريعية لا يمارى فيها. و ان اختلاف المذاهب الفقهية ينطوي على ثروة من المفاهيم و المعلومات من الأصول الحقوقية هي مناط الاعجاب و بها يتمكن الفقه الإسلامي ان يعالج جميع مطالب الحياة الحديثة و يوفق بين حاجياتها.

و ينقل عن المستشرق المجري فمبري ان قال: ان فقهكم الإسلامي واسع جدا إلى درجة انني اعجب كلما فكرت في أنكم لِمَ تستنبطوا منه الأنظمة و الأحكام الموافقة لبلادكم و زمانكم.

و يروى عن العلامة شبرل عميد كلية الحقوق بجامعة فينا انه قال ان البشرية لتفتخر بانتساب رجل كبير كمحمد إليها إذ انه رغم اميته استطاع قبل بضعة عشر قرنا ان يأتي بتشريع نحن الاوربيين اسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد الفي عام.

و قال المستر (ولز) و هو من الكتاب المعروفين إن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع المدنية أنى سارت هي الديانة الإسلامية.

______________________________

(1) لقد تعرضت لهذا الموضوع رداً على من أعابوا على الشريعة الإسلامية بالجمود و عدم صلاحيتها لهذا الوقت و عدم مسايرتها لروح العصر و ركب الحضارة و التجدد و التطور الذي تتطلبه الحياة.

باب مدينة العلم، ص: 150

و قال المستر (برناردشو) بأن الدين الإسلامي الوحيد الذي يشتمل على جميع العناصر الضرورية التي تجعله مرناً يساير أحوال العالم في تطوراته فهو صالح لجميع الأمم و في جميع العصور. و ان العقلية التي جاء بها محمد" صلى اللّه عليه و آله" سوف تدين بها الأجيال المقبلة في أوروبا كما بدأت تسيغها الأجيال الحاضرة.

و يقول الدكتور (جرمانيوس) الأستاذ في جامعة بودابست ان الإسلام دين الأذهان المستنيرة و انا اعرف في بلادي و في أوروبا رجالا مستنيرين في أرفع الأسر يحترمون الإسلام و يوشكون ان يتخذوه دينا و لو

في سرائرهم.

و يقول المسيو (ليون روش) الفرنسي السياسي الخطير ان الدين الإسلامي افضل دين عرفته و لم اذكر شيئاً من قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشرعاً فيه.

و يقول المستر (إسحاق الطيار) رئيس الكنيسة في الانكليز في خطبته التي ألقاها في مؤتمر الكنيسة الإسلام ينشر لواء المدنية التي تعلم الإنسان ما لم يعلم و منافع الدين الإسلامي لا ريب فيها و فوائده من اعظم أركان المدنية.

و قال المسيو (داود كوهات) ان الإسلام دستور الأمم و نظام الملك. و قال المسيو (دوديانوس) من وزراء فرنسا السابقين ان الإسلام جاء منزهاً عما لا يعقل من الخرافات و الاباطيل و هو مكمل للإنسانية لا غموض فيه فسلم من التناقض المعارضة العقلية و قد أمر بالمساواة و الاشتغال بالعمل و تنزه عن الرهبانية. و أما تأخر أهله فناشئ من انهم انحرفوا عن أصوله و توجهوا لغير ما يرمي إليه.

و يقول المستر (غاندي) زعيم الهندوس في الهند ليدرس الهندوس الإسلام كما درسته فسيحترمونه كما احترمته و لقد أصبحت مقتنعا بأن الإسلام لم يأخذ مكانته في الوجود بحد السيف بل انه أخذها بالبساطة و إنكار الذات و الشجاعة التي اتصف بها النبي محمد" صلى اللّه عليه و آله".

المطلب السادس عشر: في الاجتهاد في الفقه

اشارة

الاجتهاد لغة بذل الجهد و اصطلاحا هو بذل الجهد في تتبع مدارك الأحكام لتحصيل الظن بحكم المسألة الفرعي و إن شئت قلت هو استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي عن دليله التفصيلي و استنباطه من الدليل الشرعي بنحو الظن. و الحاصل انه يظهر من تعاريف القوم للاجتهاد ان المعتبر في الاجتهاد بمنزلة الفصل له هو الظن و أن استفراغ الوسع لتحصيل العلم بالواقع لا يسمى بحسب الاصطلاح اجتهاداً بل علماً بالحكم و بصيرة به.

و تحقيق ذلك و تنقيحه يطلب من مبحث الاجتهاد في الجزء الأول من كتابنا النور الساطع. و من هذا يظهر ان مخالفة حكم اللّه القطعي بالفتوى بحكم آخر ليس من الاجتهاد في شي ء لأنه لم يكن ظناً بالحكم بل علماً بالمخالفة فان الاجتهاد ليس بتشريع للحكم و إنما هو استنباط و استخراج للحكم الذي شرعه اللّه تعالى من الأدلة الصحيحة في نظر المستنبط للحكم الشرعي.

و الحاصل ان لله تعالى في كل مسألة حكما واقعياً يعرفه المكلفون إما بالضرورة أو بعد البحث عنه و على الثاني اما ان يعرف بالنص عليه أو بنصب الإمارة عليه فما عرف بالضرورة ليس عرفانه من الاجتهاد و هكذا ما عرف باليقين به ليس من الاجتهاد و إنما الذي

باب مدينة العلم، ص: 151

عرف من الإمارات و الأدلة معرفة ظنية هو الاجتهاد و يقابله التقليد و هو العمل بقول الغير من غير حجة عليه.

الاجتهاد عامل ضروري

و لا ريب ان الاجتهاد عامل ضروري للفقيه في استخراج الحكم الشرعي من الأدلة و لولاه ما استطاع الفقيه ان يعرف الحكم الشرعي للوقائع التي تمر عليه و حيث ان الاجتهاد يختلف باختلاف الافهام و طاقتها و بسعة الاطلاع و نقصها. و بتوفر المؤهلات و قلتها و بحسب المسالك و صحتها كان من الطبيعي ان يحدث بين الفقهاء اختلافاً في أحكام المسائل حتى ظهرت بينهم المذاهب الإسلامية و التسابق في ميدان علم الفقه و تدوينه و ترتيب أبوابه و تحرير وجهة الخلاف في موضوعاته و أحكامه و قد أوجب ذلك الازدهار في علم الحديث و الأصول بل في سائر العلوم التي يحتاج إليها المجتهد في استنباطه للحكم الشرعي حتى بلغت مبلغا من التوسع بين المسلمين ما

لم يبلغه سواها.

طرق الاجتهاد

ثمّ الاجتهاد يكون على طرق متعددة:

أحدها أخذ الحكم من ظواهر الآيات و الأخبار إذا كان موضوع الحكم مما تتناوله تلك الظواهر و هو إنما يصح بعد التفحص و النظر في عمومها و خصوصها و مطلقها و مقيدها و ناسخها و منسوخها و غير ذلك مما يتوقف عليه استنباط الحكم الشرعي.

ثانيها ان يأخذ الحكم الشرعي من مقبول النص و مفهومه كما في المفاهيم كمفهوم الشرط و نحوه أو الاستلزامات العقلية كوجوب المقدمة و النهي عن الضد و نحوها و من ذلك القياس فانه بعد تعقل النص و معرفة علة الحكم فيه و انها موجودة في محل الحادثة فيسري الحكم لمحل الحادثة بواسطة وجود العلة فيه و هذا على أنواع و أقسام ذكرت في مبحث القياس و الصحيح عندنا فيه انه ان قام العلم أو العلمي على إنها تمام العلة للحكم سرى الحكم بسريانها و إلا فلا و يعلم تحقيق الحال فيه في مبحث القياس.

ثالثها ان تطبق القواعد العامة على محل الحادثة مثل ما لو شك في طهارة بعض الحيوانات فيحكم بطهارتها لقاعدة الطهارة و هذا محل الابتلاء في هذا العصر لوجود كثير من المسائل المستحدثة كالتأمين و المعاملات المصرفية و اليانصيب و استماع الراديو و نحو ذلك مما لم يعلم الحكم لها إلا بالرجوع للقواعد العامة و مع عدم تناولها فيرجع للأصول الشرعية التي تثبت للحادثة عند الجهل بحكمها.

رابعها اجراء المرجحات الدلالية أو السندية عند التعارض لتمييز ما هو الحجة من النصوص لمعرفة الحكم الشرعي.

خامسها تحصيل الإجماع المفيد للظن بالحكم. و هو ليس بحجة عندنا و إنما الحجة هو ما يفيد القطع.

سادسها أعمال المرجحات عند التزاحم بين الأحكام الشرعية و الأخذ بالحكم الراجح

منها و هو غير باب التعارض.

و أما حكم العقل المستقل فان أفاد القطع فهو ليس من الاجتهاد إذ قد عرفت ان استفراغ الوسع لتحصيل القطع ليس من الاجتهاد و أما إذا لم يفد القطع بأن كان الظن بالحكم يحصل من المقدمات التي رتبها العقل فان كان الظن الحاصل منها حجة كما لو قلنا بالظن

باب مدينة العلم، ص: 152

الانسدادي كان من الاجتهاد و إلا فهو سراب ليس باجتهاد يحسبه الظمآن ماءً. و هذه الطرق كالطريق الأول لا تصح إلا بعد الفحص و عدم الظفر بما يعارضها بما هو أقوى منها.

انسداد باب الاجتهاد

ثمّ ان الاجتهاد لم يزل موجوداً حتى اليوم عند الشيعة و لكن قد سده السنيون أوائل القرن الرابع للهجرة في أواخر الدولة العباسية بطريق الإجماع الضمني من فقهائهم و اكتفوا بالمذاهب الأربعة المعروفة حتى جاء القرن الثامن فقام جماعة من علماء السنة كإبن تيمية و ابن حزم و غيرهما يدعون إلى فتح باب الاجتهاد و عدم التقيد بمذهب معين و الرجوع إلى مصادر الشريعة و روحها قال ابن حزم مشيراً لأهل التقليد و اشياعه بقوله قد احدثوا بدعة في دين اللّه تعالى لم يسبقهم إليها أحد مستدلا على ذلك بأنه لم يكن رجلٌ في عصر الصحابة و لا في عصر التابعين و لا في عصر تابعي التابعين قد قلد عالما قبله فاخذ بقوله كله و لم يخالفه في شي ء انتهى.

حتى جاء القرن التاسع عشر و ظهر المذهب السلفي و على رأسه جمال الدين الافغاني و محمد عبدة و غيرهما يدعون إلى نبذ التقليد و توحيد المذاهب و الرجوع للكتاب و السنة الصحيحين.

أقسام المجتهدين

ان المجتهدين على أقسام فباعتبار ان اجتهاده في جميع أبواب الفقه أو في بعضهما يُقسّم إلى مجتهد مطلق و هو الأول و مجتهد متجزئ و هو الثاني و باعتبار انسداد باب العلم و العلمي عنده و عدم انسداده يقسم إلى مجتهد انسدادي و مجتهد انفتاحي و باعتبار اصابته للواقع و خطأه يقسم إلى مجتهد مصيب و مجتهد مخطئ و باعتبار استقلاله بمذهب خاص و عدمه يقسم إلى مجتهد في الشرع و هو المجتهد الذي استنبط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية كالكتاب و السنة دون ان يقلد أحداً في فتاويه و يسمى أيضاً بالمجتهد المطلق كأبي حنيفة و مالك و الشافعي و احمد بن

حنبل و الاوزاعي و الطبري و داود الظاهري و نحوهم. و إلى المجتهد في المذهب و يسمى بالمجتهد في المسائل و بالمجتهد بالفتيا و هو من كان من اتباع أحد أئمة المذاهب المعروفة و لكنه ذو فتوى معتبرة في ضمن مذهب إمامه و في البناء على أصوله و مصادر اجتهاده فهو يبحث عن علل أحكام إمام مذهبه و يسري الحكم واسطة العلة لغيرها و بعض أقوال إمامه على غيرها من الأقوال المنسوبة إليه و قد يخالفه في اجتهاده في أمور فرعية كثيرة و لكنه يقلده في الأصول و المبادئ العامة كأبي يوسف في المذهب الحنفي فهو يقلده في الأصول و ان خالفه في بعض الفروع و كالغزالي في الشافعية. و إلى المجتهد المقيد و هو الذي يتقيد بآراء مذهب خاص و لكن عن معرفة لمداركها فهو يقدر على تفصيل المجمل و توضيح المبهم المنقول عن صاحب هذا المذهب و يسمونه أيضاً بأهل التخريج كالجصاص و الرازي عند الحنفية و إلى المجتهد في الترجيح و شأنه ترجيح بعض الروايات عن صاحب المذهب على البعض الآخر منها المعارضة لها بالأوثقية أو بالموافقة لأصول المذهب أو بالأقربية لأدلة الفقه كالكتاب و السنة و نحوهما. و إلى المجتهد المميز و هو الذي له القدرة على تمييز القول القوي لصاحب المذهب من الضعيف و ظاهر المذهب و نادر المذهب كصاحب الكنز و إطلاق المجتهد على بعض هذه الأقسام الأخيرة اعني على أصحاب التخريج و الترجيح و التمييز من

باب مدينة العلم، ص: 153

بعض المتأخرين باعتبار ان لهم قوة الاستنباط و إلا فالمعروف تسميتهم بالفقهاء دون وصفهم بالاجتهاد.

الاجتهاد عند الشيعة

الاجتهاد عند الشيعة الامامية هو استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي من

دليله من الكتاب أو الإجماع أو السنة الثابتة عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" أو أحد الأئمة الاثنى عشر أو من العقل. و أما ما ذكر عنهم من ذمهم للاجتهاد و عدم عملهم بالرأي فالمراد به هو الاعتماد على الظنون و الاستحسانات التي لم تقم الحجة على اعتبارها أو قامت الحجة على عدم صلاحيتها للدليلية على الحكم الشرعي.

كتب الفقه عند الشيعة

ثمّ ان كتب الفقه عند الشيعة كانت على نحو جمع الأخبار و الأحاديث التي تتضمن المسائل الفقهية و كانت خالية حتى عن الآيات القرآنية الدالة على الأحكام الشرعية للاطمئنان من حفظها في القرآن الكريم و الخوف من ضياع الأخبار كل ذلك إلى ما بعد منتصف القرن الرابع الهجري زمان ابن أبي عقيل الحسن العماني و ابن جنيد محمد الاسكافي و الشيخ المفيد المتوفي سنة 413 ه و المرتضى المتوفي سنة 436 ه و الشيخ الطوسي المتوفي سنة 460 ه فتطور التأليف عند الشيعة بنحو تحرير المسألة و بيان الدليل عليها و المخالف فيها و اقدم كتاب وصل إلينا في علم الفقه للامامية مستندا في تحرير مسائله على الكتاب و السنة و الإجماع هو كتاب الشيخ الطوسي المسمى بالمبسوط طبع إيران و أجمع كتاب في الأخبار مذكور قبلها الآيات الدالة على مضمونها عند الشيعة هو بحار الأنوار للمجلسي.

المجتهد عند الشيعة

ثمّ ان لفظ المجتهد عند الشيعة لم يطلق على الفقيه إلى زمان العلامة الحلي المتوفي سنة 726 ه و لذا كانت كتب تراجمهم خالية عن هذا اللقب ككتاب الفهرست للشيخ الطوسي و الكشي و النجاشي و إنما يصفون الشخص في مقام المدح بالفقيه و العالم و المحدث و الراوية إلى زمان العلامة الحلي فانه يوجد فيه هذا الوصف بالمجتهد.

التصويب و التخطئة

و يناسب هذا المطلب ذكر المصوبة و المخطئة و قد بحثنا عن هذا الموضوع في كتابنا النور الساطع الجزء الأول و لا بأس بالتعرض له على سبيل الايجاز. ان التصويب مما استقر عليه مذهب العامة و قد يقرر بوجوه أظهرها انهم يقولون ان جملة من الأحكام بيّنها اللّه تعالى للنبي" صلى اللّه عليه و آله" معلقاً لها على الاجتهاد حسبما اقتضته المصالح و المفاسد و القياس و الاستحسان فكلما اجتهد فيه النبي" صلى اللّه عليه و آله" فلا يجوز لغيره الحكم على خلافه و كلما لم يجتهد فيه" صلى اللّه عليه و آله" فهو معلق على اجتهاد المجتهدين من امته فما أدى إليه رأي المجتهد فهو حكم اللّه الواقعي في حقه و حق مقلديه و لا حكم لله تعالى سواه. و في قباله التخطئة التي استقرت عليها طريقة الامامية و هي ان ما من واقعة من الوقائع إلا و قد صدر حكمها من الشارع حتى ارش الخدش أصابه من أصابه و اخطأه من اخطأه. نعم التصويب و التخطئة في الأحكام إذا فسرناه بالأجزاء و عدمه بمعنى ان التصويب ان يكون ما أدى إليه رأي المجتهد معتبراً و العمل به مجزي عن الواقع مطلقاً حتى بعد انكشاف الخلاف

باب مدينة العلم، ص: 154

بمعنى انه بدل عن

الواقع مطلقاً و ان التخطئة ان يكون معتبراً ما لم ينكشف الخلاف فهو مما وقع النزاع فيه بين الامامية و سماه بعضهم بالتصويب و التخطئة في الأحكام الظاهرية إلا انه خلاف اصطلاح الفقهاء، في هذه المسألة و إنما يسمى هذا المبحث بمبحث الأجزاء.

و أما التصويب في الموضوعات الذي هو عبارة عن انقلاب حكمها بالعلم و الجهل و الذي مرجعه إلى أخذ العلم و اجهل في الموضوع و إلا فانقلاب مهيئها و حقيقتها بالعلم و الجهل غير معقول فهو ينسب لبعض المتأخرين من المحققين و في خصوص الطهارة و النجاسة لصاحب الحدائق" رحمه اللّه" خلافاً للمشهور بل للمجمع عليه.

المطلب السابع عشر: الإفتاء

اشارة

الإفتاء مصدر أفتى نظير الاكرام مصدر اكرم و اسم المصدر فَتوَى بفتح الفاء و الواو أو الفتيا بضم الفاء و فتح الياء و الجمع فتاوي بالياء قبلها واو مكسورة و فتاوى بالألف قبلها واو مفتوحة و كيف كان فالافتاء هم بيان حكم اللّه تعالى في الواقعة و الفَتوَى و الفَتيا هي الكلام الذي بُيّن به حكم اللّه تعالى من دون إلزام به من قبل غير اللّه تعالى بخلاف الحكم فانه ما به البيان لحكم اللّه تعالى مع إلزام بالعمل به ممن له أهلية الإلزام. و الاجتهاد هو الطريق لتحصيل الفتوى. و لا تصح الفتوى إلا من المجتهد الجامع لشروط الاجتهاد. و يطلب التفصيل من كتابنا النور الساطع.

الفرق بين الفتوى و الرواية و الحكم

ان الذي يتضمن الحكم الشرعي ان كان فيه حكاية عن المحسوس من قول المعصوم أو فعله أو تقريره فيسمى بالرواية و الخبر و الأثر و الحديث و ان كان فيه إلزام من المفتي فهو الحكم كما في صورة القضاء بين الناس و ان لم يكن فيه ذلك و لا هذا فهو الفتوى. و منه يعرف معنى الراوي و المحدّث و المخبر و الحاكم و المفتي.

حرمة الإفتاء بغير علم و بدون الاجتهاد

يحرم الإفتاء بغير علم باجماع المسلمين و الضرورة من الدين و لقوله تعالى وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ* و قوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ.

باب مدينة العلم، ص: 155

المطلب الثامن عشر: التقليد

اشارة

و هو كما عرفت العمل بقول الغير من غير حجة تفصيلية عليه و هو أمر تقتضيه نظم الحياة في سائر شئونها لا في الأحكام الشرعية فحسب بل في كل فنّ و علم فان العقلاء يرجعون للخبراء الفنيين فيما يتعلق بفنونهم و علومهم و السيرة و العرف بل الفطرة الارتكازية على ذلك منذ اقدم العصور و أول الدهور و لولاه لوقف دولاب الأعمال و لوقع الناس في حرج و ضيق قال تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* لكن إنما يصح التقليد إذا توفرت الشروط و قد ذكرناها في كتابنا النور الساطع و من هذا الباب الأخذ بقول الصحابي و فتواه فانه من التقليد.

فتوى الصحابي

فان كانت شرائط صحة التقليد متوفرة في فتوى الصحابي صح الأخذ بها كما يؤخذ بفتوى سائر المجتهدين و إلا فلا و أما حديث (أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم) فهو غير مسلم الثبوت عن النبي" صلى اللّه عليه و آله" لأنه ضعيف الاسناد كما في الأحكام لابن حزم ج 6 ص 82 و أعلام الموقعين ج 2 ص 174.

المطلب التاسع عشر: في القضاء و الحكم

اشارة

القضاء ايقاع الحكم في إثبات الحقوق و استيفائها و في المصالح العامة كإثبات الهلال و هو من الأمور الضرورية للدولة لعدم خلو أي مجتمع من النزاع و التخاصم. و سلطة القضاء سلطة تشريعية يرجع تاريخها إلى ما قبل الإسلام. و في عهد أمير المؤمنين علي" عليه السلام" لمالك الأشتر قال" عليه السلام" ثمّ اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ... و اصبرهم على تكشف الأمور و أصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزهده اطراء و لا يستميله اغراء ثمّ اكثر تعهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيل علته و تقل معه حاجته إلى الناس و اعد له من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره.

أركان القضاء

و الضرورة الدينية قامت على وجوب القضاء وجوبا كفائياً و أركان القضاء خمسة:

الأول الحاكم و هو من عينته السلطة لفصل الخصومات وحل المنازعات و هو المسمى بالقاضي.

الثاني الحكم و هو ما يصدر عن الحاكم المذكور مما يدل على ايقاعه الحكم و هو اما ان يكون دالا على إلزام المحكوم عليه كقوله حكمت عليك بكذا و يسمى بقضاء الإلزام و قضاء الاستحقاق و أما ان يكون دالا على قطع المنازعة و منع القاضي لها كأن يقول للمدعي ليس لك حق الدعوى عليه أو ليس لأحد حق عليه و هذا يسمى قضاء الترك.

الثالث المحكوم به من تسليم المال أو ايفاء الدين أو ترك الدعوى و المنازعة.

الرابع المحكوم عليه و هو من يصدر الحكم ضده.

باب مدينة العلم، ص: 156

الخامس المحكوم له و هو من يصدر الحكم في جانبه و لمنفعته و هو قد يكون المدعي و قد يكون المدعى عليه كما في قضاء

الترك و تفصيل البحث في هذا المقام يطلب من كتب الفقه المطولة.

المطلب العشرون: في التحكيم

اشارة

هو ان يحكم المتخاصمون شخصاً آخر ليحل النزاع و التخاصم بينهم و هو اقل شأناً من القضاء و منه ما في قوله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا. و التحكيم معروف قبل الإسلام و قد كان العرب يحكّمون صاحب الرأي في خصوماتهم و الظاهر جوازه في المصالحة بين الطرفين.

جدنا كاشف الغطاء مع علي آل صويح

ان جدنا كاشف الغطاء قد أفتى بقتل (علي آل صويح) أبي فدعة الشاعرة المعروفة لحله للخصومات من دون المراعاة لما تقتضيه الشريعة الإسلامية و كان إذ ذاك يسكن مع أسرة الخزاعل. فجاء علي المذكور متنكرا للنجف و معه ابنه حسين و بنته فدعة و دخلا دار الشيخ جدنا" رحمه اللّه" و لما حضر الشيخ" رحمه اللّه" بينهم لم يعرفهم فقال (علي) ان النزاع قد وقع بين ولدي و بنتي على مهرة فكل منهما يقول هي بنت فرسي و ذلك ان كلّا منهما قد ولدت فرسه مهرة في يوم واحد و بلون واحد و شكل متشابه ثمّ ماتت إحدى المهرتين و بقيت واحدة منهما وقع النزاع بينهما في انها لأي الفرسين و لا شهود في البين فقال الشيخ عليكم بالصلح أو القرعة فقال (علي) ان الفرس إذا عطشت و معها وليدها لا تشرب الماء حتى يشرب مولودها. فلو جوّزت ان نعطش كلًا من الفرسين و نجعل المهرة معهما و ننظر أي الفرسين لا تشرب الماء حتى تشرب المهرة فالمهرة بنتها فسال الشيخ جدنا" رحمه اللّه" عن ذلك ممن حضر من أهل الخيل فصدقوا علياً بذلك فقال لعلي اصنع ذلك و اعطِ المهرة لمن له الفرس التي لم تشرب الماء إلا مع المهرة فالتفت (علي) للشيخ و قال له أنا علي آل صويح الذي افتيت

بقتله لأنه يحكم بغير ما انزل اللّه و هذا ابني حسين و هذه فدعة و نحن لا نحكم إلا في الأمور العرفية مثل هذه الوقائع و أما فيما يخص المسائل الشرعية فنحن نرجع فيها إليكم فاجازه التحكيم في مثل ذلك في المسائل العرفية إذا رضي الطرفان و كتب" رحمه اللّه" له ورقة رفع بها القتل عنه و أجاز له فيها الحكم فيما لو اختير للتحكيم في

باب مدينة العلم، ص: 157

المسائل العرفية التي تكون نظير تلك المسألة المذكورة و ليس هنا محل البحث فليطلب من مضانه.

المطلب الواحد و العشرون: الولاية

اشارة

الولاية بكسر الواو و فتحها مصدر ولي يقال ولي الشي ء إذا ملك أمره و هي عند المتشرعة الأمارة و السلطنة و هي على قسمين:

أحدهما و يسمى بالولاية الخاصة و هي التي تكون على جهة خاصة و هي عبارة عن السلطنة على التصرف بالشي ء بنحو خاص كالولاية للفقيه على التصرف بمال الصغير ما لم يكن له ولي من أب أو جد أو وصي و كولاية الفقيه على المجنون و السفيه إذا كان كذلك أي لم يكن لهما أب و لا جد و لا وصي و كولاية الفقيه على التحجير على مال المفلس يمنعه من التصرف في ماله و لا إشكال عند الفقهاء في ثبوت هذا النوع من الولاية للفقيه الجامع لشرائط المرجعية.

ثانيهما و تسمى بالولاية العامة و هي التي تكون على جهة العموم و هي عبارة عن السلطنة على التصرف بالأشياء بانحاء التصرف التي فيها المصلحة نظير ما يجعله أهل المملكة للسلطان من السلطنة على جهة العموم في التصرف في شئون الرعية فله ان يفرق بين الزوج و الزوجة و له ان يستملك ما شاء و غير ذلك مما

تقتضيه المصلحة الزمنية و تدبير شئون الرعية و قد وقع النزاع بين الفقهاء في ان الفقيه الجامع لشرائط المرجعية من كونه عادلا و صالحاً لتولي ادارة شئون الرعية غير مقبل على الدنيا اعلم أهل زمانه و اورعهم. هل ان الولاية المذكورة ثابتة له بحيث يكون له الرئاسة المطلقة و السلطة العامة و السلطنة الشاملة فيما يخص تدبير شئون المسلمين الداخلية و الخارجية الدينية و الدنيوية و ما يرجع لمصالحهم و ما يتوقف عليه نظم البلاد و انتظام العباد و رفع الفساد.

نزاع الشيخ صاحب الجواهر مع الشيخ محسن خنفر

و نقل لي الشيخ محمد صالح الجزائري ان المرحوم صاحب الجواهر كان ينكر ثبوت هذه الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط و إنما يقول بثبوت الولاية الخاصة له في بعض المواد التي قام الدليل عليها كولايته على القصير و المجنون و السفيه و ان المرحوم الشيخ (محسن خنفر) كان يثبتها للفقيه الجامع للشرائط و قد وقع النزاع بينهما في أحد المجالس الحسينية في النجف الأشرف و احتدم الجدال بينهما حتى بلغ اشده فالتفت صاحب الجواهر و قال ان صح ما يقوله الشيخ محسن خنفر فليشهد الحاضرون بأن زوجة الشيخ محسن خنفر طالق لولايتي العامة التي يقول بها الشيخ محسن خنفر فالتفت الشيخ محسن خنفر مخاطباً صاحب الجواهر قائلًا أثبت الصغرى. و لا ريب ان ذلك كان مداعبة من الطرفين إذ الولاية العامة إنما يصح اعمالها فيما فيه المصلحة للشخص أو للمسلمين و ليس هناك مصلحة في الطلاق المذكور كما إنه لا ريب في كون صاحب الجواهر من أظهر مصاديق المجتهد الجامع للشرائط التي توجب الولاية العامة له.

باب مدينة العلم، ص: 158

إعطاء جدنا كاشف الغطاء الولاية لفتحعلي شاه

و لعل ما اعطاه جدنا كاشف الغطاء من الإذن لفتحعلي شاه في أخذ ما يتوقف عليه تدبير مملكته و الدفاع عن الإسلام من أموال الرعية و الحقوق الشرعية و من جعله نائبا عنه في ادارة شئون مملكة إيران من باب الولاية العامة التي يرى ثبوتها له.

و لا يقال ان ثبوت هذه الولاية للفقيه يؤدي إلى إمكان ان يتصرف بحسب هواه و عدم الالتزام بالموافقة لقواعد الشرعية و عدم المبالاة بمخالفتها فانه يقال ان المفروض ان هذه الولاية إنما تثبت للفقيه العادل الذي له ملكة الاجتناب عن المعاصي المحنك العارف بمجاري الأمور بمصالح الرعية و

هذا لا يكون عنده اتباع و عدم المبالاة فتثبت له الولاية و لا تكون تصرفاته التي تقتضيها المصلحة العامة مخالفة للشريعة الإسلامية التي جاءت لسعادة البشر لا لشقائهم و قد حققنا هذا الموضوع في كتابنا النور الساطع فراجعه.

ولاية المظالم

من الولايات المعروفة ولاية المظالم التي قد عرفت من قديم الدهر و هي الولاية على النظر في مظالم الناس و التعدي عليهم من أهل النفوذ و السيطرة و السطوة كتعدي الولاة على الرعية و كأخذ الجباة الزائد من المال و الاجحاف من الحكام في أحكامهم أو عدم تنفيذها على المحكوم عليه لعلو منزلته و جليل مقامه و يسمى متوليها (صاحب المظالم) و لم يقم بأعباء ولاية المظالم بعد الرسول" صلى اللّه عليه و آله" إلا الإمام علي" عليه السلام".

و يقال ان أول من افرد للمظالم يوما عبد الملك بن مروان و إذا اشكل عليه أمرٌ رجع فيه إلى القضاة و الفقهاء. و كان عمر بن عبد العزيز قد رد مظالم بني أمية إلى أهلها حتى ارجع فدك لبني علي" عليه السلام" و كانت محاكم المظالم تنعقد في المساجد و يحضرها شخصيات كريمة المقام لتحاط بالمهابة و العزة و الكرامة.

ولاية الحِسبة

الحِسْبة (بكسر الحاء و سكون السين) و هي الولاية على الأمر بالمعروف إذا ظهر ترك المعروف. و النهي عن المنكر إذا ظهر فعل المنكر و الأصل في هذه الولاية قوله تعالى وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فهي وظيفة دينية تنفيذية من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تحمي بها المصالح العامة كقمع الغش و الحراسة الليلية على البلد و يسمى المتولي لها بالمحتسِب و قد يستعملها الفقهاء في الأجر و الثواب كما يقولون اعطي الفقير حِسبة أي للأجر و الثواب و روي أن النبي" صلى اللّه عليه و آله" وليّ على سوق مكة بعد الفتح سعيد بن سعيد بن العاص حِسبة خوفا من الخيانة و ان

عمر استعمل إحدى النساء على سوق المدينة و كانت تمر بالسوق و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تضرب بسوطها من خالفها ثمّ صارت وظيفة من وظائف الدولة و قد عرفت هذه الولاية باسم الحِسبة في عهد المهدي العباسي و هي واجبة على كل مسلم وجوبا كفائياً إذا توفرت فيه شروط وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من كون أمره أو نهيه مثمراً و أن لا يلحق به ضرر إلى غير ذلك مما ذكره الفقهاء في وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

باب مدينة العلم، ص: 159

المطلب الثاني و العشرون: في المرجعية العامة

المرجعية العامة للفقيه هي التولي لشئون الأمة أو الفرقة و الطائفة بأجمعها و بيده الإدارة لتدبير أحوالها و أوضاعها و يسمى المتقمص بها بالمرجع بفتح الميم و كسر الجيم.

و تثبت للفقيه العادل العارف بمجاري الأمور و يكون التقليد له و الأحكام الشرعية التي تخص الأمة أو الطائفة تابع لنظره كالحكم بالهلال و الافلاس و الجهاد و نحو ذلك و الولاية على ما يحتاج إلى الولاية بيده كالاوقاف و القصر و فصل الخصومات بحكمه إلى غير ذلك من متطلبات الشريعة الإسلامية من الخلفاء و القادة و يقابلها المرجعية الخاصة و هو الولاية على القضاء فقط أو على التقليد له فقط أو الولاية على أموال القاصرين فقط و قد أثبتنا في كتابنا النور الساطع ثبوت الولاية العامة له و ان مجاري الأمور بيده فله ان يطلق زوجة الشخص منه إذا رأى ان المصلحة تقتضي ذلك و لكن هذه المرجعية و الولاية العامة لا يجوز لكل فقيه و مجتهد ان يتقمصها بل لا بد لها من شروط تتوفر فيه و من أراد معرفتها فليراجع كتابنا النور الساطع. و

المرجعية العامة للشيعة كانت عندهم ثابتة للرسول" صلى اللّه عليه و آله" ثمّ من بعده للائمة الاثنى عشر ثمّ بعد الغيبة الصغرى بأمر الإمام الثاني عشر" عليه السلام" رجعت للمجتهد المهتم بشئون الرعية و الأعلم بالأحكام الشرعية و البصير بمجاري الأمور و العارف بتدبير الوقائع و المحافظ على دينه في سائر الحوادث و المخالف لهواه الموقع له في المهالك.

المطلب الثالث و العشرون: في المناظرة و النزاع في المسائل الفقهية

اشارة

اعتاد علماء الفقه إذا ضمهم مجلس ان يطرح بعضهم مسألة و يبين وجه اشكاله فيها و يطلب وجه الصواب منهم فيقع بينهم الجدال لإيضاح الحق فيها فان الحقيقة لا زالت تبرق من تصادم الأفكار و الحق يظهر من تضارب الآراء و ان تصادم العقول ينطوي على ثروة من المفاهيم و المعلومات هي مناط الاعجاب و بها نتمكن من ان نعالج جميع مطالب الحياة و نوفق بين متطلباتها. و لا يمنع من ذلك كون المجلس مجلس عزاء أو فرح.

المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي

و كان أستاذنا المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي لا تخلو مجالسه من المناظرة في المسائل الشرعية و في طبقات الشافعية في ترجمة الشيخ أبي إسحاق نقل عن أبي الوليد الباجي وقوع المناظرة من الفقهاء في المسائل في مجالس العزاء ممن اصيب بفقد من يُكرَّم عليه.

باب مدينة العلم، ص: 160

المناظرة بين المحقق الحلي و الطوسي

و جرت مناظرة بين المحقق جعفر بن الحسن الحلي صاحب الشرائع و بين نصير الدين الطوسي" رحمه اللّه" صاحب تجريد الكلام في بلد الحلة فقد كان المحقق الحلي يدرّس في القبلة إذ حضر في الدرس نصير الدين الطوسي" رحمه اللّه" و كان البحث في استحباب التياسر للمصلي بالعراق فاعترض نصير الدين عليه و قال انه لا وجه لهذا الاستحباب لأن التياسر ان كان من القبلة إلى غيرها فهو حرام و ان كان من غيرها إليها فهو واجب فقال المحقق في الحال انه منها إليها فسكت نصير الدين ثمّ ان المحقق ألف رسالة بهذا المعنى و أرسلها إليه فاستحسنها.

مناظرة الشيخ مع علماء بغداد

و قد نقل هذه الرسالة جمال الدين بن فهد الحلي في كتابه المهذب في شرح المختصر بتمامها و ذكر المستدرك النوري ان فقهاء بغداد قصدوا الشيخ الطوسي" رحمه اللّه" للمذاكرة معه في كتابه النهاية فأمرهم بالصوم ثلاثة أيام قبل المطارحة فيها ليذهب حب الغلبة منهم. و الحق مع الشيخ" رحمه اللّه" فان الجولان في ميدان المناظرة و التسابق في حلبة الجدل يبعث النفس الأمارة بالسوء ان تدلي الحجج و البراهين على صحة القول و عدم مراعاة جانب الحق. و قد صرح بعض العلماء بأنه لا يصح الأخذ بقوله و برهانه في مقام الجدل لأن الكلام مبني على الختل و المغالطة و حب الغلبة.

المطلب الرابع و العشرون: في الإجازة

الإجازة مصدر أجاز و اصلها إجوازة لأن مصدر (افعل) إفعالة مثل أقال إقالة و أجاد إجادة فكانت الواو متحركة و للتخفيف نقلت حركتها إلى ما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت فصار إجازة و هي في عرف العلماء اخبار إجمالي بأمور معلومه مضبوطة مأمون على تلك الأمور من الغلط و التصحيف و لا يشترط فيها لفظ خاص فيصح أن يأتي بمرادفها مثل أذنت و رضيت و نحوها. و لا يشترط في المجيز أن يكون مجازا و لا يلزمه ان يفصح عن عدم إجازته من الغير. و الإجازة على قسمين:

باب مدينة العلم، ص: 161

أحدهما إجازة اجتهاد و هي شهادة من المجتهد في حق شخص بأنه بلغ مرتبة الاجتهاد و يثبت بها اجتهاده مع تعددها و جمعها لشرائط الشهادة.

ثانيها إجازة رواية و هو ان يجيز شخص لآخر ان يروي عنه ما في الكتاب الفلاني من الأخبار و الفتاوي و المطالب و هي تنفع في ثبوت سلامة ما في ذلك الكتاب من الخطأ و الغلط في

نسخه و صحة رواية صاحب الكتاب عن غيره فقط لا صحة سند الرواية. و قد يوصف الشخص بكونه شيخ إجازة و بكونه شيخ رواية و فرق بينهما بأن الأول هو الذي ليس له كتاب يروى و لا رواية تنقل عنه بل هو يجيز رواية كتاب غيره و يذكر في سند الرواية لمجرد اتصال السند و الثاني هو من تؤخذ الروايات منه أو من كتاب له في الروايات.

المطلب الخامس و العشرون: البزة للفقهاء

لم يكن لفقهاء الإسلام لباس مخصوص يمتازون به عما عداهم حتى إذا جاء عصر هارون الرشيد و كانت حاجة الناس لمعرفتهم في فهم الأحكام الشرعية تقتضي تميّزهم عما عداهم. لبس الفقهاء على رءوسهم لباساً خاصاً يميّزهم عن عامة الناس و المروي عن ابن خلكان ان الفقهاء و القضاة كانوا يلبسون عمامة سوداء بشكل خاص مبطنة و طيلسان اسود و أول من غير لباس العلماء و ميزهم في لباسهم عما عداهم أبو يوسف قاضي الرشيد. و في النجف الأشرف البزة المميزة لطلاب العلوم الدينيين و للفقهاء الروحانية هي العمة السوداء لمن ينحدر من السلالة الهاشمية و البيضاء لغيرهم و يلبس الجميع العباءة و يلبسون تحتها في الشتاء ما يسمى (بالزبون) و في الصيف ما يسمى (بالصاية) و الأغلب لبس الجبة تحت العباءة.

المطلب السادس و العشرون في الدراسة الفقهية

مكان الدراسة

ترتبط الدراسة الدينية ارتباطا وثيقاً من حيث المكان عند الشيعة بمحل زعيمهم الديني. و عند السنة أيام الخلافة و قوتها بالبلد التي اتخذت عاصمة لها. و بحسب الزمان حسب ظروف التشجيع لها من ولاة الأمور و أصحاب السطوة و السلطة أو من سراة الشعب و أفذاذه.

منهاج الدراسة

و أما منهاجها فهو يستمد من العقيدة فان اثر العقيدة يتجلى بوضوح في تشكيل مناهج الدراسة و اختلافها و قد اتسمت هذه الدراسة الدينية بمرونتها في أساليب التحصيل و التعليم من دون تفرقة بين الشعوب و الطبقات و القوميات مما أوجب ازدهارها و انتشار ثقافتها و قد انجبت علماء أعلاما لا في الفقه فقط بل في علوم شتى و فنون كثيرة ازدهرت بهم دنيا الإسلام و نهل العالم الانساني أجمع من معين معارفهم و تغذى ثقافة من ثمرات تفكيرهم و ارتوى معرفة من نمير صوب خواطرهم. بيد إن اعتراف المجتمع العلمي و الأفق الثقافي بفضيلة خريجها هو الشهادة التي يسمو بها و تعيّن منزلته العلمية و يحرز بها قصب السبق و قد أخذت

باب مدينة العلم، ص: 162

هذه الدراسة تنمو و تتطور شأن غيرها من الدراسات للعلوم المختلفة. مستمدة من التقدم الرائع الذي ظفر به الإنسان في ميادين العلوم و الفنون و الفلسفة. غير انها أصابها بعض الضمور عند أهل السنة عند ما انسد عليهم باب الاجتهاد حيث تقيد عندهم الانطلاق الفكري و أما الشيعة حيث كان عندهم باب الاجتهاد مفتوحاً تقدمت تقدماً باهراً بوفرة المحصول العلمي و اتساع الأفق الفكري.

المطلب السابع و العشرون: في مدرسة الحديث و مدرسة الرأي في الفقه

اشارة

ليس المراد بالمدرسة هنا معناها المتعارف من دور التعليم و التعلم و إنما المراد بها الطريقة التي يتخذها المجتهد في استنباط الفرع الفقهي فقد كان للفقهاء بحسب الاستقراء في استنباط الحكم الشرعي مسلكان:

أحدهما الاعتماد على الكتاب و السنة من غير رجوع للرأي و القياس و الاستحسان و التعمق في معرفة علل الأحكام و عند اختلاف الأحاديث يرجحون بعضها على بعض بالرأي و مع عدم الكتاب و السنة يرجعون لآثار الصحابة و مع عدم

ذلك فبعضهم يعمل بالرأي و بعضهم يمتنع عن الفتوى و كانوا من طابعهم كراهة الفقه الافتراضي الذي هو البحث عن المسائل التي ليست بواقعة حتى لا يلجئون إلى الفتوى بالرأي أو التوقف فيها لأنها لما كانت غير واقعة كان من القوي جداً عدم النص من الكتاب و لا من السنة و لا من آثار الصحابة فيها.

و الحاصل انهم في الفقه يعتمدون في نوع استنباطاتهم لمسائله على الكتاب و السنة و الإجماع دون الرجوع للقياس و يكون رجوعهم للقياس و الرأي من الشاذ النادر أو من باب إفادتهما للقطع بحيث يكون طابعهم هو عدم الرجوع إليهما و عدم البحث في المسائل الفقهية التي لم يقم عليها تلك الأدلة و لذا لم تجد في ابحاثهم المسائل الفرضية غير الواقعة و قد أطلق عليهم اسم أهل الحديث و على مدارسهم اسم مدرسة الحديث و مدرسة المدينة و مدرسة أهل الحجاز و كان المتزعم لهذه المدرسة من ولاة الأمور هو علي بن أبي طالب" عليه السلام" حيث منع" عليه السلام" اشد المنع من العمل بالرأي و من الفقهاء هو سعيد بن المسيب المتوفي سنة 94 ه في المدينة المنورة.

و المعروف ان مالك بن انس صاحب الموطأ المتوفي سنة 179 ه قد ورث هذه الزعامة لهذه المدرسة و لكن قد نقل عنه العمل بالرأي و الاستعانة بالقياس و لكن عمله هذا لا يمنع من انتمائه لمدرسة الحديث لكونه لم يكن ذلك طابعا له و لم يتخذ القياس دليلا في مقابلة الحديث المعتمد لديه فان الميزان في عد الفقيه من هذه المدرسة هو ان يكون طابعه و الغالب عليه العمل بالحديث و عدم العمل بالقياس و الرأي فلا يضر في نسبته

لمدرسة الرأي لو عمل بالقياس شاذا نادراً و لعله من جهة إفادته القطع. و قد حكي عن ابن قتيبة عد مالك في معارفه من أصحاب الرأي وعد الحافظ أصحاب مالك في تاريخ علماء الأندلس من أصحاب الرأي. و قد سلك هذا المسلك الكثير من فقهاء الحجاز و اتجهوا في استنباطهم للأحكام هذا الاتجاه و ممن تتجلى فيهم هذه النزعة سالم بن عبد اللّه بن عمر الذي كان يرفض الإفتاء بالرأي فإذا سئل عن أمر لم يسمع فيه شيئا قال لا ادري و هذا ما دعا ان يسافر الكثير منهم للبلدان الإسلامية يجمعوا الأحاديث من الصحابة الموجودين فيها و لم يكونوا اتباع هذه المدرسة

باب مدينة العلم، ص: 163

مقصورين على فقهاء المدينة و الحجاز بل انتشروا في الأقطار الإسلامية ففي الكوفة عامر الشعبي و سفيان الثوري. و في الشام الاوزاعي. و في مصر يزيد بن حبيب فانهم كانوا يكرهون الرأي و يعملون بالحديث و الأثر و سمّوهم بأهل الحديث مع ان بعضهم قد يعتمد على الرأي كما تقدم نقل ذلك عن مالك باعتبار ان الأغلب في أدلتهم هو الحديث و إلا فهم يعتمدون على الكتاب و مع هذا لا يسمون بأهل الكتاب و ينسب لهذه المدرسة من أصحاب المذاهب الأربعة مالك بن انس صاحب الموطأ و الشافعي و احمد بن حنبل و يقال ان هذا المسلك في الاستنباط و هذه النزعة في معرفة الأحكام الشرعية لم يكتب لها البقاء و قد انتهى امدها بوفاة الإمام داود الظاهر سنة 270 ه حيث صار الفقهاء يبذلون قصارى جهدهم بحثاً عن علل الأحكام و يكثرون الفتوى في الوقائع المتجددة التي لا نص عندهم عليها بالقياس و الاستحسان.

فقهاء الشيعة

و

لكن فقهاء الشيعة لا يزالون حتى الآن من أهل الحديث و اعتمادهم في الوقائع الموجودة و التي توجد و حتى التي يفرض وجودها على الكتاب و السنة و الإجماع و العقل القطعي اعني الذي يفيد القطع من الأدلة العقلية فان كان فيها دلالة عليها أخذ بها و إلا فيرجعون فيها لأحد الأصول الشرعية العملية مما تكون هي مورداً لها و هي أربعة البراءة و الاستصحاب و الاحتياط و التخيير، و من طابعهم الأخذ بالإخبار و عدم العمل بالقياس فيكون الميزان في عدهم من أهل الحديث و هو العمل به و عدم العمل بالقياس موجداً فيهم. و من هنا يظهر لك ان فقهاء الشيعة حتى القائلين منهم بانسداد باب العلم و العلمي كالمحقق القمي من أهل الحديث لعدم عملهم بالقياس و اخذهم بالأخبار.

المسلك الثاني هو الاتجاه في استنباط الحكم الشرعي للرأي بالعمل بالقياس و الاستحسان و الذرائع و نحوها و هو يستدعي البحث عن العلل للأحكام و جعل الحكم دائراً مدارها و ان خالف ذلك ظواهر النصوص حتى ان الكثير منهم صرحوا بأن الأدلة الفقهية أربعة الكتاب و السنة و الإجماع و القياس و الميزان في عدّ الفقيه من أهل هذا المسلك و هو ان يكون طابعه و عمدة ما يعتمد عليه في استنباطاته هو القياس بخلاف المسلك الأول فان الميزان في عدّ الفقيه من أهله ان يكون طابعه و عمدة ما يعتمد عليه هو الأحاديث و الأخذ بظواهر النصوص من غير بحث عن العلة. ثمّ ان أهل هذا المسلك الثاني طريقتهم هو الأخذ بصريح الكتاب أو بالسنة المتواترة أو المشهورة التي اتفق علماء الأمصار على العمل بها بعد الرسول" صلى اللّه عليه و آله" أو

رواها صحابي أمام جمع منهم و لم يخالف أحد فيها ثمّ بعد ذلك يرجع للإجماع في عهد الصحابة فان لم يوجد ذلك رجعوا للرأي من طريق القياس و الاستحسان و مراعاة المصلحة فيفتشون و يبحثون عن العلل التي شرعت لها الأحكام و يحصلونها عن طريق الظن و الحدس و التخمين و يجعلون الحكم دائراً مدارها و كان ذلك سبباً في عدم أخذهم بخبر الواحد غير المشهور و عدم أخذهم بظواهر النصوص و كانوا يذكرون الحكم الشرعي حتى للمسائل التقديرية الافتراضية غير واقعة باعتبار وجود علة الحكم فيها. و لذا كان الفقه الافتراضي أول ما وجد عندهم و عرف فقهاء هذا المسلك بالإراءتين و عرف فقهاء الحنفية بهذه المدرسة و عبروا عنهم بأصحاب الرأي و كان الفقهاء الذين يسلكون هذا المسلك يسمون بأهل الرأي و يطلقون على مدارسهم اسم مدرسة أهل الرأي و مدرسة الكوفة حيث كانت في الكوفة نواة هذه المدرسة. و قد تزعمها بادئ بدء من الفقهاء عبد اللّه بن مسعود الصحابي الذي بعثه عمر

باب مدينة العلم، ص: 164

وزيراً و معلماً لأهل الكوفة و كان متشبعاً برأي عمر بن الخطاب في البحث عن علل الأحكام و الأخذ بالرأي و القياس ثمّ تزعمها إبراهيم النخعي ثمّ خلفه حماد بن سليمان الذي كان أستاذاً لأبي حنيفة ثمّ أبو حنيفة و لم تكن الكوفة هي البلد المقتصرة على فقهاء أهل الرأي بل منهم من كان في المدينة كربيعة الرأي المتوفي سنة 136 ه. و من الفقهاء الذين ينسبون لهذا المسلك الحسن البصري المتوفي سنة 180 ه و ينسبون لهذا المسلك الزيدية.

و الحاصل ان الميزان في عدّ الفقيه من أهل الرأي هو رجوعه للقياس و نحوه

في اغلب استنباطاته للفروع بحيث يكون طابعه ترك الأخبار و الأخذ بالقياس و الميزان في عد الفقيه من أهل الحديث هو ان يكون طابعه الأخذ بالحديث و العمل بظاهره في استنباطه للأحكام الشرعية و طرح القياس و الاستحسان و نحوهما و لا يوجب رجوع الفقيه للتحسين و التقبيح العقليين و استفادة الحكم الشرعي منهما ان يكون من أهل الرأي إذا لم يعتمد على القياس و الاستحسانات.

فتلخص ان الميزان للمسلك الأول و هو مسلك أهل الحديث و مدرسته هو العمل بالحديث و طرح القياس بحيث يكون الطابع له هو ذلك و الميزان للمسلك الثاني و هو مسلك أهل الرأي و مدرسته هو العمل بالقياس و طرح الحديث بأن يكون الطابع له هو ذلك و قد نقل لي والدي" رحمه اللّه" عن أحد أكابر فقهاء هذا المذهب انه عرض عليه حديث يخالف القياس فقال الفقيه حكه بذنب خنزير.

مركز الدراسة الفقهية عند الشيعة

ان الدراسة الفقهية عند الشيعة الاثنى عشرية قد كان مركزها هو البلد الذي يسكنه الإمام من الأئمة الاثنى عشر ثمّ بعد غيبة الإمام الثاني عشر الكبرى سنة 329 ه في سامراء كانت تدور مدار سكنى الزعيم الشيعي لأنه هو المَرجِع لهم و لذا لو تعدد الزعيم الديني لهم في بلاد مختلفة تعدد مركز الدراسة بحسبها. و انتقلت من سامراء و صار لها مركزان:

أحدهما قم حيث كانت مربضاً لقادة الفكر الديني الشيعي فقد كان فيها الصدوق مؤلف من لا يحضره الفقيه و غيره و كان من أهم المراجع للشيعة.

و ثانيهما بغداد حيث كان فيها مرجعاً للشيعة ابن جنيد و الاسكافي ثمّ انحصر مركزها في بغداد حيث كان مربضاً لقادة الفكر الديني الشيعي و مهبطاً لطلاب العلم الفقهي و منهلًا عذباً

لمعرفة الحكم الشرعي لانحصار المرجعية العامة و الزعامة الدينية الكبرى. بالشيخ محمد العكبري المفيد المتوفي سنة 413 ه و هو يسكن بغداد ثمّ من بعد وفاته انتقلت الزعامة الدينية لتلميذه علم الهدى السيد المرتضى المتوفي سنة 436 ه ثمّ من بعده انتقلت الزعامة الدينية لتلميذه الشيخ محمد الطوسي" رحمه اللّه"، و لم يزل" رحمه اللّه" في بغداد مرجعاً للطائفة في الفتوى و مأوى لهم و لغيرهم في البحث و التدريس حتى ثارت الفتن من دعاة الفرقة و انشقت عصا الجماعة من المستهزئين بالدين و الفضيلة فتعدّوا على كرامة العلم و العلماء باحراقهم

باب مدينة العلم، ص: 165

للكتب العلمية و هدمهم للجوامع الإسلامية و هتكهم للمقدسات الدينية على عهد العتل الارعن الاهوج (طغرل بيك السلجوقي) الذي شق عرى الوحدة بين المسلمين و فصم عقد الاخوة بين أهل الدين حتى احترقت دار الشيخ الطوسي" رحمه اللّه" و مكتبته و كرسيه الذي يجلس عليه للتدريس سنة 448 ه. فانتقل" رحمه اللّه" للنجف الأشرف خوفا على نفسه و متعلقيه حيث كانت النجف المكان الأمين و البقعة المقدسة و في المبيت بها الثواب الكثير و ليس فيها إلا الشيعة و بانتقاله إليها انتقل مركز الدراسة إليها و أصبحت جامعة علمية مهمة يقصدها طلاب العلوم الدينية من كل حدب و صوب لوجود مَرجِع التقليد الأعلى فيها ثمّ في القرن السابع بعد سقوط بغداد بأيدي المغول التتر سنة 655 ه انتقل مركز الدراسة من النجف إلى الحلة لأنها كانت في مأمن من نكبة المغول للعراق و اقرب مركز لبغداد و تتوفر فيها متطلبات السكنى و الحياة فانتقل لها علماء بغداد و أوجب ذلك قوة النشاط العلمي مما دعا ان تكون هي

المركز العلمي للدراسة الفقهية و كان ذلك في عصر الشيخ نجم الدين المعروف بالمحقق الحلي المتوفي سنة 676 ه صاحب شرائع الإسلام و كان مجلسه العلمي يحوي اكثر من أربعمائة مجتهد ثمّ انتقل مركزها من الحلة للنجف مرة ثانية في القرن العاشر نتيجة لوقوع الاضطرابات في الحلة بسبب الحروب التي وقعت فيها بين المشعشعين و بين التركمان و كان ذلك في عهد المقدس الأردبيلي المتوفي سنة 993 ه عند ما أقام في النجف.

و في سنة 1156 ه عقد في النجف بواسطة نادر شاه الاتفاق بين الشيعة و السنة بإلغاء الطائفية و التمسك بالوحدة الإسلامية و وقع على هذا الاتفاق علماء السنة و الشيعة. ثمّ انتقل مركزها لكربلاء في القرن الثاني عشر عند ما جاء إليها المحقق محمد باقر بن محمد الوحيد البهبهاني المتوفي سنة 1208 ه و الظاهر ان السبب في ذلك هو كثرة وجود الأخباريين في كربلاء مما أوجب ان يهذب علماء الأصوليين بزعيمهم الأعلى المحقق البهبهاني المذكور لرفع المذهب الاخباري عنها ثمّ عاد مركز الدراسة للنجف مرة ثالثة بانتقال السيد بحر العلوم المتوفي سنة 1212 ه و الشيخ الكبير كاشف الغطاء المتوفي سنة 1228 ه و الشيخ حسين نجف و غيرهم من جهابذة الفن و فطاحل العلم. لوقوع الاضطرابات في كربلاء و حدوث الحوادث المخيفة منها كغارة الوهابيين عليها و سلب سلطان إيران فيها و اشتدت الحال بها أيام داود باشا سنة 1234 ه فاصبح الطالب لا يملك الأمان لنفسه و حيث إن النجف لا مطمع لأهل الصولجان و السلطان فيها لأنها وادٍ غير ذي زرع فكانت بمعزل عن العالم تصلح لأهل التقوى و الإيمان مع ما فيها من مجاورة سيد الأوصياء التي

ينال بها الثواب الجزيل و الأجر العظيم و ما في الدفن فيها من النجاة من العذاب الاليم.

و يقال ان ذلك كان باصرار من الشيخ جعفر كاشف الغطاء و لذا كان هو المتصدي لتمصير النجف و بناء سورها و المحافظة على شئونها فأوجب هذا و ذاك انتقال مركز الدراسة إلى النجف الأشرف مرة ثالثة ثمّ انتقال مركزها أيام السيد حسن الشيرازي صاحب تحريم التتن المتوفي سنة 1312 ه لسامراء لتوفر وسائل الحياة فيها و لحدوث سوء التفاهم بينه

باب مدينة العلم، ص: 166

" رحمه اللّه" و بين رؤساء النجف و حيث كان هو المرجع الأعلى للشيعة و الدراسة الدينية تدور حيث ما سكن قائدها و مدير دفتيها الذي هو المرجع الأعلى للشيعة و بعد وفاته انتقل مركزها لكربلاء أيام ميرزا محمد تقي الشيرازي صاحب الثورة المتوفي سنة 1338 ه و بعد وفاته انتقل مركزها للنجف الأشرف مرة رابعة و لا تزال باقية حتى الآن في النجف الأشرف نسأله تعالى بجاه من لذنا بجواره ان تبقى فيها ما بقي الدهر. لكن لا يخفى على القارئ ان انتقال الدراسة من النجف في هذه المرات بعد الشيخ الطوسي ليس معناه زوالها عن اصلها و إنما هو انتقال مركزها و محورها عنها بواسطة ان مركزية الدراسة تابعة للزعامة الدينية عند الشيعة فلما انتقلت الزعامة في هذه الفترات انتقلت المركزية للدراسة معها و إلا فالدراسة بقيت في النجف مستمرة إلا أنها أصابها الضمور و التقلص في تلك الحالات فإنا لا نعني بوجود مركز الدراسة الدينية الشيعية في بلد معناه هو انعدامها في باقي بلدانهم المهمة إذ لا يمكننا ان نتجاهل عظمة الدراسة الدينية في قم و خراسان و طهران و

اصفهان و غيرها من بلدان إيران من قديم الدهر حتى اليوم. و لا يمكننا ان ننكر وجود الدراسة في كربلاء و الكاظمية و غيرها من بلدان العراق منذ أمد بعيد حتى الآن و لا يمكننا أن نغض النظر عن الدراسة المذكورة في باقي المناطق الشيعية في المماليك الإسلامية كسوريا و لبنان و البحرين و افغانستان و السعودية و غيرها إلا أن الذي نعنيه كون البلد هي المركز هو ارتباط الدراسة الدينية الشيعية بذلك البلد باعتبار ما فيه من توفر أسباب التحصيل وسعة الدراسة و كثرة الفقهاء فيهاجر إليه لتحصيل المعارف الفقهية أو تكميلها أو تقويتها و لنيل شهادة الاجتهاد من الزعيم الديني الأعلى الذي حل فيه.

المطلب الثامن و العشرون: معاهد التدريس لعلم الفقه

لقد دلت الآثار و نقلت كتب السير و الأخبار ان المسلمين كانوا يتخذون مساجدهم مدارس و جوامعهم معاهد يتلقون فيها الأحكام الإسلامية و العلوم الدينية و لعل النصارى اتخذت أديرتهم و كنائسهم لتدريس معارفهم فيها من الإسلام. و لم تكن تلك المساجد في معظم البلدان الإسلامية على كثرتها وسعتها محلات للعبادة و الاعتكاف و الصلاة فحسب و إنما تعدى الأمر فيها للدراسة و البحث و المناظرة إلى أعلى مستوى في تغذية العقل الإسلامي و امداد الفكر العربي و تخرج من رحابها العلماء الأعلام و عظماء الفقهاء و عباقرة الفن و إلى جانب ذلك يجتمع العلماء و الادباء و الشعراء في بيوت أرباب العلم و أهل الثورة و يعقدون فيها ندواتهم الأدبية و تسمى هذه المجالس (مجالس الأدب). و كان التلاميذ الذين يجتمعون حول مدرّسهم لأخذ العلم منه يسمونهم بالحلقة و ينسبون كل حلقة لأستاذها فيقال حلقة ربيعة الرأي في مسجد الرسول" صلى اللّه عليه و آله".

قال الغزالي في الأحياء

ان حلقات التدريس كانت تعقد في المسجد منذ ان نشأت المساجد و استمرت على مر السنين و القرون و في مختلف البلدان الإسلامية و بدون انقطاع منذ ان كانت تعقد حلقات العلم في مسجد قبا آه. و في طليعة الجوامع و المساجد التي اشتهرت

باب مدينة العلم، ص: 167

بالتدريس فيها جامع الرسول بالمدينة و كان في مؤخرته مكان يسمى بالصفة و قد انزل فيه الرسول" صلى اللّه عليه و آله" ما يزيد على السبعين و المائة و سماهم أصحاب الصفة و كان أحدهم عنده تعلم آيتين من القرآن خير من حمر النعم و هو أول مدرسة دينية من المساجد اتخذها الإسلام معهداً للتدريس، و كان القراء هم المعلمون و لذا كانوا هم أول المدرسين في الإسلام. إلا أن أول مصدر ثقافي في معاهد التدريس للمسلمين هو دار الأرقم بن أبي الأرقم بمكة المكرمة على الصفا و كان الأرقم عاشر عشرة أسلموا من الأوائل و في داره المذكورة كان النبي" صلى اللّه عليه و آله" يدعو الناس للإسلام و يعلمهم الأحكام و القرآن و اسلم فيها جماعة بلغوا الأربعين رجلا و من المساجد التي اشتهرت بالتعليم فيها المسجد الأقصى في القدس و الجامع الأموي بدمشق و مسجد الكوفة في مدينتها و جامع أمير المؤمنين" عليه السلام" في البصرة و كان يعتبر اكبر جامعة إسلامية أقامها العرب بعد مسجد رسول اللّه" صلى اللّه عليه و آله" بالمدينة المنورة إلى حين خرابه سنة 701 ه. فمن هذا الجامع كتب أبو الأسود الدؤلي أصول علم النحو من علي" عليه السلام" و منه شعت آراء المتكلمين كالحسن البصري و واصل بن عطاء المعتزلي و أبي موسى الأشعري و غيرهم.

و جامع المنصور ببغداد و هو اقدم جامع بها و اشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية و جلس إلى اسطوانة فيه إبراهيم بن محمد نفطويه خمسين سنة لم يغير محله منها و كان من أكابر العلماء بمذهب داود الأصفهاني. و جامع احمد بن طولون في القطائع و جامع الفسطاط الذي كان فيه مائة و عشرة مجالس لحلقات التعليم و الوعظ. و جامع الأزهر في مصر. و جامع الطوسي و جامع كاشف الغطاء و جامع الهندي و جامع الشيخ الأنصاري في النجف الأشرف و كانت الدراسة في المساجد مقتصرة على القران و الرواية و الفقه ثمّ اتسع نطاقها فتناولت العلوم العقلية و الأدبية مما حدا بمحبي العلم و المعرفة إلى إنشاء مدارس لتلقي المعارف و خاصة الدينية منها و لعل من أهم الأسباب التي أوجبت إنشاء المدارس و العدول عن المساجد هو ما يحدث عند التدريس من مناظرة و جدل قد يخرج فيها عن الآداب التي تجب مراعاتها للمساجد. و حدوث ما يوجب حرمة دخولها على الطالب و المعلم كأحداث النجاسة. و لا توجد كلمة مدرسة عند الجوهري. و ذكر الكثير من مؤرخي الإسلام ان أول من بنى المدارس في الإسلام نظام الملك الطوسي وزير ملك شاه سلطان السلجوقي في اواسط القرن الخامس للهجرة فبنى في بغداد و اصفهان و نيسابور و غيرها و قد بلغ انفاقه عليها سنوياً ستمائة ألف دينار و كانت أولها و اشهرها المدرسة النظامية في بغداد بناها على شاطئ دجلة سنة 457 و بنى حولها اسواقاً و أوقف عليها أوقافاً و قد تخرج منها جماعة من العلماء كان من اساتذتها أبو إسحاق الشيرازي و أبو حامد الغزالي و كمال الدين الانباري

و كان المدرس فيها يقف على المنصة و الطلاب يجلسون على كراسي صغار لاستماع الدرس و يوجهون الأسئلة للأستاذ و قد عين فيها للأستاذ معيدان أو اكثر يشرحان المحاضرة التي يلقيها الأستاذ و للنقاط التي لم يفهمها الطالب من المحاضرة إلى غير ذلك مما يذكر كثيراً من نظام هذه المدرسة و قد بقت هذه المدرسة حتى بعد سقوط بغداد على يد هولاكو و بعد غزوات التتر ثمّ اندمجت بالمدرسة المستنصرية التي اسسها الخليفة العباسي المستنصر لتدريس المذاهب الأربعة السنية و لكن للمناقشة في أولية هذه المدرسة مجال فان دار الحكمة ببغداد التي أسسها المنصور أو المأمون كانت مدرسة ينهل من معينها العلوم و المعارف و ان لم تسم بالمدرسة و هي قبل المدارس النظامية المذكورة و في خطط المقريزي ان الخليفة المنصور العباسي الذي كان حكمه في القرن الثالث الهجري جعل في قصره بالشماسية مدرسة. و في

باب مدينة العلم، ص: 168

الخطط أول من حفظ عنه انه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور فقد بنيت بها المدرسة البيهقية للبيهقي المتوفي سنة 454 ه. و يقول الحاكم النيسابوري ان أول مدرسة هي التي بنيت لأبي إسحاق الأسفراييني المتوفي سنة 418 ه. و ان مدرسة ابن فوروك هي احدث عهداً من تلك المدرسة بقليل. و في تاريخ السبكي ان نصر بن سبكتكين قد انشأ مدرسة في نيسابور قبل ان يولد نظام الملك المذكور.

و يذكر التاريخ ان الحاكم بأمر اللّه الفاطمي الذي تولى الخلافة سنة 386 ه انشأ دار الحكمة و كان يشتغل فيها الكثير من القراء و الفقهاء و المنجمين و النحاة و اللغويين و الحق بها مكتبة سماها بدار العلم حوت امهات الكتب و نفائسها

و ان أبا حاتم بن حيان من علماء القرن الرابع الهجري أسس في بيته مدرسة لأهل الأدب و الفقه و كيف كان فبعد نظام الملك قام بتأسيس المدارس الدينية السلاطين و الامراء و أهل الثراء فأسسوا المدارس الدينية في المماليك الإسلامية و بنى صلاح الدين لعلماء الشافعية سنة 566 ه المدرسة الناصرية بجوار جامع عمر و يقال انها أول مدرسة بنيت بمصر و في سنة 572 ه بنى المدرسة الصالحية لتدريس مذهب الشافعي بها و كانت من السعة بمكان عظيم. و من هنا ظهر لك فساد ما ذكره بعض المتأخرين تبعا لبعض المستشرقين من ان أول دار أنشئت للحديث في القرن الهجري السادس تحقيقاً لرغبة نور الدين محمود بن أبي سعيد زنكي (599 ه) الذي خلد اسمه بإنشاء المدرسة النورية في دمشق. و كان ابن عساكر المتوفي سنة 571 ه صاحب تاريخ دمشق من شيوخ هذه المدرسة و بعد عشرات السنين قامت في القاهرة دار للحديث بأمر الملك الأيوبي الكامل ناصر الدين قد تم تأسيسها سنة 622 ه و كان أول أستاذ فيها أبا الخطاب بن دحية. و بعد أربع سنوات من تأسيس المدرسة الكاملية نشأت في دمشق المدرسة الأشرفية سنة 626 ه و كان أول شيوخها أبا عمر بن الصلاح و درس في هذه الدار أيضاً النووي شارح صحيح مسلم. و بنى سنة 641 ه الصالح نجم الدين الأيوبي مدرسة الصالحية بالقاهرة و رتب بها دروساً أربعة للمذاهب الأربعة و يقال إنه اول من احدث هذا النوع من المدارس بمصر. و في الاندلس اسس العرب مدارس عظيمة و كان من جملتها جامعة قرطبة التي أقامها عبد الرحمن الثالث في الجامع الرئيسي و التي بلغت

مبلغ المعاهد التعليمية العالمية في حين لم تكن أوروبا تملك أوليات المعارف و كان من أساتذتها ابن القوطية في النحو و ابو علي القالي صاحب الأمالي و استمر تأسيس المدارس يزداد يوما بعد يوم حيث كان التعليم أمراً بالغ الأهمية يكسب الطالب من ورائه الحفاوة و التقدير حتى بلغ الأمر إذا استعرض الطلاب في شوارع بغداد يقذف الناس إليهم باللوز

المطلب التاسع و العشرون: دور العلم و دور الكتب

اشارة

ثمّ إلى جانب هذه المدارس الدينية انشأت المكتبات في المساجد و كانت قوامها بما يهدى إليها من الكتب المختلفة و يروي لنا المؤرخون ان الكتب توضع في صناديق و يصنع لها الفهارس و في العهد العباسي ظهرت الحوانيت لبيع الكتب و تسمى المكتبات بخزانة الحكمة و خزانة الكتب و دار الكتب و أنشأت إلى جانب ذلك مؤسسات علمية تجعل فيها خزانة الكتب العلمية إلى جانب القيام بتكاليف المعيشة للطالب و تسمى بدار العلم و تكون المكتبة جزء منها و هي بخلاف دار الكتب فإنها عبارة عن المكتبة الجامعة للكتب فقط. و قد

باب مدينة العلم، ص: 169

أسس المأمون دار العلم و بيتاً للحكمة كانت معهداً هاماً للتعليم في الإسلام و مكاناً للترجمة و مكتبة عامة تشتمل على العلوم الطبيعية و الكيمياء و الفلك و ما ألف في العلوم الإسلامية و ما ألف بلغات أخرى غير العربية و قد نقل لبغداد مائة حمل بعير من الكتب من أوروبا حتى انه جعل ذلك في عقد الصلح بينه و بين ملوك الروم.

و يحكى عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي المتوفي سنة 323 ه انه أسس دار العلم في بلده و جعل فيها مكتبة لا يمنع أحدا من دخولها و إذا جاء

غريب لطلب العلم و كان معسراً اعطاه ورَقاً و ورِقا و كان يملي فيها على الناس الأدب و الفقه و ما يتعلق بذلك. و انه قد أسس القاضي ابن حبّان المتوفي سنة 354 ه في نيسابور داراً للعلم و مكتبة و مساكن للغرباء الذين يطلبون العلم و أجرى لها الأرزاق. و انه قد أسس أبو نصر سابور ابن اردشير وزير بني بويه داراً للعلم في الكرخ غربي بغداد سنة 383 ه و اشترى لها كتبا كثيرة و يقال انه كان بها مائة نسخة من القرآن الكريم بأيدي احسن النساخ و عشرة آلاف و أربعمائة مجلد أخرى أكثرها بخط أصحابها و قد احرقت هذه الدار سنة 450 ه و انه اتخذ الشريف الرضي صاحب حقائق التنزيل و صاحب الديوان المعروف نقيب العلويين المتوفي سنة 406 ه داراً اسماها دار العلم و فتحها لطلبة العلم و عيّن لهم جميع ما يحتاجون إليه. و قد أنشأ في مصر العزيز بالله الخليفة الفاطمي سنة 378 ه دارا إلى جانب الجامع الأزهر و جعل فيها خمساً و ثلاثين عالماً يعقدون مجالسهم العلمية بالمسجد في كل يوم جمعة بعد الصلاة إلى صلاة العصر. و أسس الخليفة الحاكم بأمر اللّه سنة 395 ه بالقاهرة داراً للعلم سماها بدار الحكمة و جعل فيها مكتبة عامرة بالكتب القيمة عرفت باسم دار العلم و رتب فيها أساتذة يدرسون العلم للناس و أجرى هو و من جاء بعده من الخلفاء الأرزاق الجزيلة عليها و على خدامها و من بها من الفقهاء و كان فيها ما يحتاجه الطالب من الحبر و الأقلام و المحابر و الورق. و قد أسس عمنا سببا و ابن عمنا نسباً الحجة الشيخ

محمد حسين دارا للعمل حيث قد جدد بناء مدرسة جدنا الأعلى كاشف الغطاء بعد خرابها و شيد محلا فيها لمكتبة أبيه الشيخ علي و نقلها إليه فأصبحت مدرسته دار علم يسكنها طلاب العلوم الدينية و إلى جنبها المكتبة العامرة الزاهية الزاخرة بالكتب القيمة و المخطوطات النادرة و هو عمل يذكر له بالثناء فيشكر و يحمد عليه.

و قد أسست التي هي فعلا تحت تصرفنا المرحومة (خزنة) والدة المرحوم جدي الشيخ عباس و الشيخ حبيب فانه بعد وفاة زوجها المرحوم الشيخ علي نجل المؤسس لطائفتنا الشيخ الأكبر الشيخ الأكبر الشيخ جعفر احتفظت بالكتب التي كانت لزوجها الشيخ علي المذكور ثمّ احتفظ بها الشيخ عباس و ضم لها كتبا جمة ثمّ ولده الشيخ هادي فاستملك لها كتبا كثيرة ثمّ ولده الشيخ محمد رضا فغذاها بانفس الكتب ثمّ قمت بالمحافظة عليها و ضممت إليها ما يفوقها عدة مرات و اللّه خير حافظ لها و هو ارحم الراحمين.

باب مدينة العلم، ص: 170

مدرسة النجف

مناهج التعليم في النجف الأشرف

و أساليب الدراسة الدينية فيها

لقد تمشت الدراسة الدينية في النجف الأشرف قروناً متطاولة و نظمت نفسها من لدن قادة فكر المذهب الشيعي من دون ان يتولى ذلك أهل السيطرة و السطوة أو يتبناها ذووا التيجان و السلطان إلا في ازمنة نادرة قامت السلطة الزمنية و رؤساء الدول الشيعية بتشجيعها كما صار ذلك في عصر البويهيين و كانت الدراسة فيها على صورة حلقات في معاهدها و مدارسها التهذيبية و في المساجد و البيوتات الأهلية بل قد تكون في الزوايا و الانفاق في منقطع عن العالم و بعد عن السامع و الناظر و في أثناء سيرها قد تخور قواها شدة و ضعفا وسعة و ضيقا. و كان من ابرز مظاهرها هو تنمية النزعات

البناءة و تقوية القوى الفكرية بالسماح للطالب بالمناقشة و الجدل في كل ما يدرسه من اجروميته النحوية إلى مكاسبه الفقهية ليخرج و هو على يقين بما درسه و تعلمه. و تكفلت تنسيق المعلومات التي يغذى بها بشكل منطقي و اسلوب استدلالي و اعطائه حرية الكلام و الرأي و البحث عن مدى صحة ما يتلقاه من المعلومات و سقمها فيمارس حياة علمية صالحة يتخطى بها من حضيض التقليد إلى مرتبة الاجتهاد و يراعي مربوه و مثقفوه تربيته تربية طيبة و يهذبونه بالمثل المثلى و الأخلاق العليا قد أعدوه اعداداً تامّاً للاندماج في المجتمع و ارشاده للمعارف الدينية و الأخلاق الإسلامية و كانت اساليبها قديما بعد ان يبلغ الصبي السابعة من عمره يسلمه أولياؤه لمكتب شخص معين قد أعده لتعليم الصبيان في داره و على الغالب في المسجد.

و يبدأ بتعليم قراءة القرآن و الكتابة و يسمى ذلك الرجل بالشيخ و قد تقوم المرأة بمهمة تعليم القرآن و تسمى بالملة و قد قرأت القرآن عند ملتي أم سيد حسن" رحمه اللّه" زوجة السيد محمد العاملي الكتبي" رحمه اللّه" و يذهب الصبي مبكراً حتى الظهر و يعود للبيت لتناول طعام الظهر ثمّ يرجع و يعود قبيل الغروب و العطلة له في الاسبوع عصر الخميس و يوم الجمعة و في الاعياد

باب مدينة العلم، ص: 175

و الوفيات من دون ان تكون له عطلة صيفية ثمّ إذا ختم القرآن و تعلم الكتابة و شيئاً من الحساب يرسل أما لتعليم مهنة الصناعة عند أصحاب الصناعات و يسمى إذ ذاك بالصانع لهم أو يوجه لتعليم العلوم الدينية و أما في الوقت الحاضر فهو يدخل المدارس الرسمية ثمّ إن شاء أن يبقى في

الدراسة الرسمية حتى يدخل الكليات للاختصاص بأحد العلوم و إن شاء يتوجه للعلوم التي هي المبادئ لنيل تعلم الفقه فان توجه للثاني يبدأ بالقراءة منفرداً أو مجتمعا مع غيره لعلم النحو و يقرأ فيه الاجرومية و القطر و شرح ألفية ابن مالك و المغنى لابن هشام ثمّ علم المنطق و يقرأ فيه حاشية ملا عبد اللّه و الشمسية ثمّ علم المعاني و البيان و البديع و يقرأ فيها كتاب المطول للتفتازاني أو مختصرة ثمّ علم الأصول و الكتب التي تقرأ فيه المعالم و القوانين و الكفاية و الرسائل ثمّ ينتقل لدراسة علم الفقه فيقرأ المكاسب و قد يقرأ غيرها ليتمرن الطالب على الاجتهاد في المسألة الفقهية و في أثناء دراسته يقرأ التبصرة و الشرائع و اللمعة في الفقه و بعضهم يقرأ إضافة لذلك علم الحساب و الفلك و علم الحكمة ثمّ يستهدف بعد ذلك التوسع في علم الفقه و علم الكلام و الحكمة و الحديث و التفسير و الأخلاق ثمّ يحضر مشتركا مع غيره على ممن له القابلية على اعاظم الفقهاء في علم الأصول و الفقه دون تقييد بكتاب و إنما المجتهد يلقي الدرس بنحو المحاضر و يشرح المسألة و يتعرض للأقوال فيه و يختار أحدها بالدليل عليه و الرد على من عداه. بخلاف بحثه فيما سبق فانه مقيد بدرس كتاب معين و يسمى هذا البحث و الدرس بحث الخارج و درس الخارج إذ البحث و الدرس يكون خارجا عن أي كتاب بخلاف دروسه ما قبل ذلك فإنها كانت مقيدة بكتاب معين كما عرفت و تسمى بدروس السطوح و بابحاث السطوح لأنه فيها يدرس سطح كتاب معين و بعد تمامية الدرس الخارج و انسه من

نفسه بأنه قد حصلت له ملكة الاجتهاد و استنباط المسألة من أدلتها يخرج عن مرحلة التقليد لغيره. و وجب عليه الاجتهاد لنفسه و بعضهم يأخذ من المجتهد المسلم اجتهاده شهادة باجتهاده تسمى بإجازة الاجتهاد و المجتهد لا يعطيها له إلا بعد اختباره أو شهادة عدلين من أهل المعرفة ببلوغه هذه المرتبة و قد يأخذ الإجازة برواية الرواية أو كتاب معين كما تقدم في مبحث الإجازة و اللّه ولي التوفيق.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، باب مدينة العلم، در يك جلد، مؤسسه كاشف الغطاء، ه ق

سبب انتقال الدراسة إليها و موقف كاشف الغطاء و أسرته منها

ان النجف الأشرف تعتبر جامعة إسلامية كبرى غنية بالثقافة الدينية العليا و مركزا للاشعاع الفكري و مجازاً مهيعاً ينتهي بالسالكين إلى المعارف لأسرار الوقائع و دقائق الحقائق يشهد بذلك ما انجبته من العدد الضخم من فقهاء اعاظم كانوا مراجعاً للتقليد و عباقرة يفوح شذى فضلهم في الاندية العلمية و آفاق الحضارة. و فلاسفة أكابر لهم آراء خاصة غيرّت مجرى تاريخ الفلسفة و من ادباء مبرزين ابدعوا في أدبهم و شعرهم و من صلحاء متقين سقوا الأرض بدمائهم الطاهرة جهاداً عن الإسلام و المسلمين و قد حفظت مدرستها للامة الإسلامية دستورها و للعرب لغتها ففي مساجدها تجد حلقات التدريس في كل فنّ و في مجالسها تسمع آراء ممتعة في الأدب و الاجتماع و الفلسفة و القصة و في جمعياتها تلمس النهضة الفكرية الأدبية و لا تفوتها مناسبة دينية أو وطنية إلا و تعقد رجالاتها الاحتفالات في اوساطها و جوانبها تستمع فيها ما لذّ و طاب. قال الوالد" رحمه اللّه" في كتابه الغيب و الشهادة الكتاب القيم الذي عز له النظير و المثيل قال" رحمه اللّه" و للنجف. العاصمة

الكبرى الدينية في الشرق شأن يذكر في درس تلك النظريات (النظريات الالحادية) و دحضها لم نجد مثله في معاهد العلوم الدينية غيرها فمنذ وُعِيَ حس هذه النظريات المادية في النجف و العهد قريب و سمع صداها فيها قام إليها جماعة من اذكياء العلماء المتبحرين و فحصوا و محصوا و شحذوا العزائم في نقدها وردها و كم صادفوا عناء في أخذها من منابعها و مصادرها و قد كانت غريبة فيهم. بجميع جهاتها في لغتها و أدلتها و منهج التفكير فيها إلى ان قال" رحمه اللّه" و النجف مع ما يوجد فيها من الثراء الطائل العلمي لا يوجد فيها من أسباب النشر و معداته إلا الشي ء التافه النزر ففيها عدد كثير من المؤلفات مكظومة و مادة غريزة من المعارف مكتومة. و السير العملي في مدارسها القديمة غريب و منقطع النظير و ربما أمها الغريب للوقوف على حالتها العلمية فيخرج منه كما دخل ما لم يتعمق في معاشرتهم و يندمج في زمرتهم. و ها أنا اروي لك مستطرداً شيئا من سيرها العلمي و منهاجها في دروسها العالية الدينية لتقف على ما لاقاه و يلاقيه هؤلاء العلماء في تحصيل معارفهم و علومهم من المتاعب و العناء. للتدريس في النجف نمط منفرد و طراز لا يشبهه نظام فيما وقفت عليه من مناهج التدريس و نظاماته في

باب مدينة العلم، ص: 171

سائر أقطار العالم. و هو الذي اسمّيه (بالتدريس الفردي) فان التلميذ الذي يتخصص لطلب العلوم الدينية يندرج وحده في مراتبه العلمية و في دروسه و اساتذته من دون ان يندمج في صفوف أو يتحكم في إرادته نظام نعم جميع هؤلاء المشتغلين بتلك العلوم يتفقون على وضعية واحدة تركها سلفهم

هي قراءة كتب معينة مرتبة. و قد يظهر مؤلف لأحد علمائهم الذين نبغوا و برعوا فيتخذ له قراراً و درجة في سلسلة كتب التدريس كما حدث في بعض المؤلفات الأصولية و الفقهية و ليس عندهم امتحان و لا شهادة و لا درجة مقررة و الطالب النابغ فيهم هو ذلك الذي يعترف له ذو الفضل بالفضيلة بعد الاختبار بالمذاكرة و التدريس و التأليف. و يعجبني من هذه الطريقة شي ء واحد و هو انه لا يجوز عليها تدليس فلا يمكن ان تنال الدرجة الأخيرة فيها اعني درجة الاجتهاد بغير الكفاءة الحقيقية. و الكفوء الحقيقي هو المجتهد و غيره متشبّه انتهى ما أردنا نقله من كلامه" رحمه اللّه".

هذا و قد تكونت البذرة الأولى للدراسة الدينية في هذا البلد المقدس أوائل القرن الثالث الهجري حيث احتضنت هذه المدينة جملة من العلماء الروحانيين أمثال ابن شهريار و يحدثنا التاريخ انهم كانوا موضع عناية و رعاية من سلاطين آل بويه فهذا التاريخ يروي كثرة ما كان يبذله في النجف عضد الدولة البويهي و غيره منهم على فقهائها و طلابها في العلوم الدينية في أيام دولتهم في القرن الرابع. و قد نقل لنا الصحافي القدير جعفر الخليلي قول المرحوم عمنا الشيخ محمد حسين في النجف الأشرف (ان هذه البلدة منذ أن أنشئت و ظهر هذا المرقد الشريف فجر طلوع الدولة العباسية أو قبلها بقليل صارت أفئدة كثير من العارفين تهوي إليها و تختار السكنى فيها على انها بوادٍ غير ذي زرع و لا ضرع). و لكن لم تبلغ إذ ذاك مبلغ بغداد في مركزيتها للدراسة الدينية الشيعية إلا عند ما انتقل إليها الشيخ الطوسي في منتصف القرن الخامس الهجري فازدهرت فيها الدراسة

الدينية و توسعت فيها الحركة العلمية حتى أصبحت النجف قطب دائرتها و محور رحاها و بلغ عدد من يحضر درس الشيخ الطوسي المذكور" رحمه اللّه" فيها ما يقرب من (300) مجتهد و توافد عليها من كل حدب و صوب رواد العلم و طلاب الفقه و كانت تتحف العالم الإسلامي بجهابذة الفن و مجتهدي الفقه في كل حين من الدهر و تؤتي اكلها في كل وقت من الزمن و قد أصاب الدراسة فيها بعض الوهن بانتقال مركزها منها في القرن السابع إلى الحلة في عصر المحقق صاحب الشرائع ثمّ عادت في عصر المقدس الاردبيلي ثمّ انتقلت منها لكربلاء في عصر الوحيد البهبهاني ثمّ عادت إليها في عصر العلامة بحر العلوم و المرحوم الشيخ الكبير جعفر كاشف الغطاء و قد بذل الثاني منهما و أولاده قصارى جهدهم في تمصيرها و المحافظة على مركزيتها للتدريس و صد الغارات عليها من الأعراب و بنى الشيخ جعفر سورها الذي هو الحصن لها و أكمله من بعده ابنه

باب مدينة العلم، ص: 172

موسى" رحمه اللّه" و شيدوا فيها المدارس و المساجد و التزموا بمعاش طلبة العلم فيها بمقدار ما يكفيهم. و كانوا يجدون الجد هو و أولاد" رحمه اللّه" في جلب رجال الدين إليها و التحريض على نهل العلوم الدينية منها حتى حضر مجلس درس المرحوم الشيخ جعفر مئات من أهل الفضيلة. و كان المجتهدون فيهم يزيدون على المائة كالسيد محسن صاحب المحصول و السيد حسين والد السيد مهدي القزويني و صاحب الجواهر الشيخ محمد حسن و السيد إبراهيم البغدادي و الشيخ محمد علي الأعسم و السيد جواد صاحب كتاب مفتاح الكرامة الذي ألفه بطلب من استاذه المذكور كاشف الغطاء

و الشيخ أسد اللّه صاحب المقاييس و الشيخ محمد تقي صاحب الهداية شرح المعالم و الرشتي المعروف بحجة الإسلام و الكلباسي إلى غير ذلك مما يضيق البيان عن تعدادهم و كان الشيخ موسى ابن الشيخ جعفر الذي اصبح بعد أبيه المرجع الديني الأعلى و المصلح بين الدولتين فارس و الترك قد حافظ على طلبة العلم و وقاهم شر حاكم النجف الملا محمد و دفع عنهم بأس الوالي داود باشا. و بلغت النجف من الازدهار بطلاب العلوم الدينية بواسطة ما بذلوه من الجهود في جلب الطلاب إليها حتى اصبح من يحضر منبر الشيخ علي شبل الشيخ جعفر المذكور و الذي انقادت له الزعامة الدينية بعد أخيه الشيخ موسى ما يزيد على الثلاثمائة تلميذ ما بين مراهق و مجتهد مثل شريف العلماء و السيد إبراهيم صاحب الضوابط و الشيخ مرتضى الأنصاري و السيد مهدي القزويني و مير فتاح صاحب العناوين. و بذل قصارى جهده الشيخ حسن نجل الشيخ جعفر المذكور صاحب أنوار الفقاهة المقلَّد بعد أخيه الشيخ علي في المحافظة على الحوزة العلمية و ابقاء المركزية لها فاطفأ نائرة الزقرت و الشمرت في النجف و أمن به المهاجرون إليها في طلب العلم و نجّى أهلها من فتك الوالي نجيب باشا و قد كادت ان تنشب منه أظفار المنية فيها بعد ان فتك الفتك الذريع بأهالي كربلاء حتى سالت الدماء منهم بالأباطح في السنة المؤرخة (بغدير دم) سنة 1258 ه و قد قام المرحوم الشيخ محمد بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر المذكور الذي أعطى الكليدارية لآل الرفيعي و الذي رجعت إليه و إلى الشيخ الأنصاري الناس بالتقليد و الذي يقول عنه الفاضل البادكوبي في كتابه نقد العلماء

(الثالث الشيخ محمد و هو الآن في النجف الأشرف من المجتهدين المعروفين و العلماء المشهورين المبرزين و حوزة علمه مملوءة من الطلبة الفضلاء و العلماء) قد أزال فتنة الزقرت و الشمرت التي كانت يحاصر بها النجفيون في دورهم أسبوعا أو شهراً كاملا بلا ما و لا طعام حتى يموت بعض أطفالهم من الجوع و العطش و لا يتمكنون من التماس شي ء لهم خوفا من الرصاص المالي للأزقة أو الشوارع فجند" رحمه اللّه" الطلبة بالسلاح و أخذ يؤدب المعتدين منهم و ينزلهم من اماكنهم المتسلطين بها على خصومهم كالمنارتين الشريفتين و المسجد الهندي و نحوها حتى عرف فيما بينهم بأن

باب مدينة العلم، ص: 173

رصاصتهم تقول (زيدن) كناية على إنها رصاصة رجل الدين فيكفوا بذلك عن القتال ثمّ أخذ على الزقرت و الشمرت اليمين بالقرآن الشريف عند رأس الأمير بحضور رجالات العراق على إخمادهم نيران فتنتهم. و لم يزل الشيخ محمد كاشف الغطاء المذكور يدافع عن النجف الأشرف و يحافظ على مجدها العلمي حتى كانت 1248 ه جاء سليم باشا مع خمسة آلاف جندي فدخل النجف و الطبول و المدافع تضرب امامه و كان معه نقيب الأشراف السيد علي نقيب بغداد فمروا على دار الشيخ المذكور و هي الدار الكبيرة المعروفة و نزل النقيب و جماعة من العسكريين ضيوفا عنده و الباقي نزلوا في القلعة و أخذت الناس تتدافع على دار الشيخ محمد و استجاروا بها في الحجر و السراديب حتى اجتمع في الدار ما يزيد على ألف نسمة بين رجل و امرأة خوفا من بطش (سليم باشا) بهم و كان قد اعتقل جملة منهم و فيهم بعض رجالات الدين فما صار العصر جاء سليم

باشا مع جميع هيئته إلى الشيخ محمد و أخذ يتحادث مع الشيخ محمد في تدبير الأمر و علاج هذا الفساد و انجر الحديث إلى قول سليم باشا للشيخ محمد ليس الفساد إلا من ايوائك للمفسدين فقال الشيخ محمد للباشا يا هذا ليس الفساد إلا منك فقال النقيب يا شيخ محمد لقد اسأت جوابا فقال له الشيخ محمد اسأت فهماً و طال التشاجر بينهم إلى ان خرج الباشا على ان لا يتعرض دار الشيخ الكبيرة و من فيها. و يذكر إن بعض من في الدار من الملتجئين قد أساء التصرف مع الضباط الذين في دار الشيخ فاخبروا الباشا فأرسل الجند للقبض عليهم و كان النقيب نائما في السرداب للدار البرانية للدار الكبيرة فانتبه و اخبر بالقصة فخرج النقيب و منع العسكر و ركب بغلته و مضى إلى الباشا و وبخه فرجع العسكر. و هذا الشيخ مهدي أخو الشيخ محمد المذكور الذي نهض بأعباء المرجعية بعد أخيه الشيخ محمد و طبعت رسالته في تبريز بأمر السلطان مظفر الدين شاه و رجعت له حتى آذربيجان و بعد وفاة الشيخ الأنصاري استقل بأمر التقليد و قد بنى المدرسة المعروفة بمدرسة المهدي في النجف الأشرف و يقال انها كانت السجن الذي يسجن فيه الملا يوسف أعداءه. كما بنى في كربلاء المدرسة المعروفة بمدرسة المهدي و قام بإعاشة الطلبة على وجه الكفاية خوفا على الحوزة الدينية فيها من الضياع و الفناء و دفع كيد الكائدين عنها و بطش المعتدين عليها و أخذ إلى العباسيين شبليهما الهادي و المرتضى و علي و ابنيه احمد و الحسين و والدنا الرضا في عهديه و ما قام به المحافظة على هذا البلد المقدس و الذب

عنه و الدعوة للهجرة إليه.

و لعل أهم الأسباب التي جعلت في النجف مركزية الدراسة الدينية أمور:

أحدها فضيلة السكنى فيها لما ورد من الأخبار الكثيرة في فضل المبيت عند علي" عليه السلام" و ذلك مما دعا ان يسكنها المتبتلون إلى اللّه و الذين تمركز الإيمان في قلوبهم لأن النجف يوم سكنت حتى أيام ازدهار الدراسة فيها و حتى أوائل هذا القرن اعني القرن الرابع عشر الهجري كانت وادياً غير ذي زرع و لا ضرع فليس في بيئتها الجغرافية ما يدعو للسكن فيها فلا ماؤها تستسيغه النفوس للشرب و لا هواؤها صيفاً و لا شتاء تبتهج به الأرواح و لا حاصلات فيها من زرع و لا شجر و لا نبت تعيش بها الأجسام و يتغذى بها الإنسان مع ما فيها من الزوابع الترابية و الحرارة الشديدة الصيفية و البرودة القارصة الشتائية فلا يعقل ان يسكنها إلا ذو حظ عظيم من أهل الإيمان و هذا النوع من الناس لا يستطيعون السكنى في بلد من دون وجود مرجع لهم في معرفة أحكامهم الشرعية و شدة الطلب توجب وجود المطلوب.

باب مدينة العلم، ص: 174

ثانيها فضيلة الدفن فيها فان ذلك أوجب نقل الموتى إليها و من تبعات النقل قصدها من أولياء الأموات و أحبائهم للقيام بما يلزم للميت عند اقباره في قبره و الخبير بذلك هو الفقيه الديني.

ثالثها فضيلة الزيارة للقبر الشريف قبر أمير المؤمنين علي" عليه السلام" و قبر ضجيعيه آدم و نوح و قبر جاريه هود و صالح في كل وقت و تزداد الفضيلة في الأوقات الجليلة و المواسم الشريفة و في ذلك ما يجمع مختلف أنواع الشيعة مع مراجعهم.

رابعها بعد موقعها الجغرافي عن باقي البلدان فانه مما

أوجب قلة الفتن بها و بعد السلطة الزمنية عنها و هذا مما وجب للمرجع الديني الانطلاق و الاطمئنان الذي يساعدانه على الانصراف لشئونه و أعماله و حرية تفكيره.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.